بث تجريبي

الأقليات السورية: دراسة حالة الأكراد قراءة في التوجهات والمعوقات والسيناريوهات

يشهد الشرق الأوسط في هذه المرحلة تحولات جذرية في مسار تطورات الملفات الإقليمية تتقاطع فيها التحولات السياسية والعسكرية مع إعادة تشكيل خرائط النفوذ الإقليمي والدولي، كما تتسم باندماج غير مسبوق بين الأزمات الممتدة والحروب النشطة، من استمرار تداعيات “طوفان الأقصى” منذ أكتوبر 2023، إلى التصعيد بين إسرائيل وإيران وحلفائها في لبنان واليمن، وصولًا إلى التدخلات المباشرة في جنوب سوريا. وهذه التطورات لا تمثل مجرد أحداث منفصلة، بل تعكس ديناميات أعمق لإعادة توزيع موازين القوى في الإقليم، وإعادة صياغة أولويات الأمن والمصالح للدول الفاعلة. وفي قلب هذا المشهد المعقد، تبرز المسألة الكردية كأحد الملفات الحساسة التي تتقاطع مع الجغرافيا السياسية للصراعات الحالية، وتمثل اختبارًا مهمًا لقدرة الشرق الأوسط على التكيف مع التغيرات الاستراتيجية المتسارعة.

وفي ضوء هذه المعادلات تأتي القضية الكردية باعتبار الأكراد أحد أكبر الجماعات العرقية في العالم التي لا تمتلك دولة مستقلة، وعلى الرغم من غياب الإحصاءات المحايدة وسياسات التهميش أو إنكار الهوية الكردية، إلا أن بعض الإحصاءات غير الرسمية أقرت بأن تعدادهم يبلغ 40 مليون نسمة موزعين بين أربع دول رئيسية في تركيا، إيران، العراق، وسوريا، إضافة إلى تجمعات على حدود أرمينيا، كما أن هناك أكراد في دول المهجر (أوروبا، القوقاز، لبنان).

ومن ثم ينظر إلى الوجود الكردي باعتباره حقيقة جيوسياسية متنامية يصعب تجاوزها في أي مقاربة إقليمية أو دولية تجاه تسوية القضايا ذات الصلة بهم خاصة أن المكون الكردي في حال تحقق سيناريو توحيد الأقاليم الموزعة ضمن كيان سياسي واحد، لكانت النتيجة ولادة دولة يتجاوز عدد سكانها سكان بولندا وكندا وأستراليا، وتفوق مساحتها الجغرافية مساحة دول مثل بنغلادش وبلغاريا والنمسا.

غير أن الاتجاه لتحقيق ذلك سيكون على أساس مسارات مختلفة، فعملية الانتقال نحو الاستقلال أو الحكم الذاتي تتطلب الإجابة عن مجموعة من التساؤلات المتعلقة بإعادة تعريف الهوية الكردية وتجاوز الانقسامات التاريخية، وتستدعي في الوقت ذاته مراجعة الاتفاقيات الخارجية، والتي تشمل معاهدات الموارد الطبيعية مثل المياه والنفط وأسس العلاقات الإقليمية والتحالفات القائمة، في ظل تداخل الكثير من الأطراف مع احتمالات تداخل مباشر من جانب الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا والقوى الإقليمية الأخرى.

على الجانب الآخر، تتعامل الدول العربية مع الملف الكردي ضمن إطار من المحددات الأمنية والسيادية الصارمة، نظرًا لتقاطع مناطق الأكراد مع أراضي العراق وسوريا، وما يترتب على ذلك من انعكاسات مباشرة على وحدة هذه الدول وسلامة حدودها.

وفي ضوء ذلك، يهدف التحليل إلى تفسير التداخل بين المسألة الكردية ومسارات الأمن الإقليمي والتحولات الاستراتيجية في الشرق الأوسط، ولا سيما في ظل التغيرات العميقة التي تشهدها سوريا كإحدى الساحات الرئيسية لوجود الأكراد. فبينما استقر الملف الكردي في العراق ضمن إطار حكم ذاتي شبه مكتمل الصلاحيات في إقليم كردستان، لا تزال قضية الأكراد تواجه عقبات كبيرة أمام الحصول على حقوقهم في تركيا، على الجانب الآخر، تبقى آفاق هذا الملف في إيران مرهونة بمتغيرات داخلية معقدة، في حين تبدو الساحة السورية اليوم الأكثر حساسية وتأثرًا بالتطورات الإقليمية والدولية. وفي هذا السياق، يكتسب استكشاف إمكانية تكرار نموذج الحكم الذاتي العراقي في الحالة السورية أهمية خاصة، ليس فقط لقياس فرص تحقق هذا السيناريو، بل أيضًا لفهم انعكاساته المحتملة على استقرار الحدود ووحدة الدول العربية وتوازنات القوى الإقليمية.

أولًا: قراءة في مواقف الأقليات داخل سوريا

لا يمكن تفسير الصراع الدائر في الساحل السوري أو المشكلات القائمة بين الأكراد والسلطات السورية الجديدة إلا من خلال إدراك تعقيدات خريطة الأقليات الدينية والعرقية في سوريا، فهي دولة تقوم على نسيج اجتماعي شديد التنوع؛ حيث تمثل الأقليات وفق تقديرات غير رسمية ما بين 30 إلى 40% من إجمالي السكان، وتتوزع بين دينية وعرقية، وتعيش تاريخيًا إلى جانب الأغلبية السنية. فمن بين الأقليات الدينية نجد العلويين، الذين تمحور حولهم النظام السياسي لعقود، والشيعة الإمامية، والإسماعيليين، والدروز، والمسيحيين بأنواع طوائفهم، إلى جانب الإيزيديين. أما الأقليات العرقية فتشمل الأكراد والتركمان والشركس والأرمن والآشوريين والسريان، وكل منها يحمل ذاكرة سياسية واجتماعية خاصة، وحساسية شديدة تجاه مركزية الحكم وسياسات الإقصاء أو الاستيعاب.

ولعل الصراع الحالي في الساحل السوري، الذي يشهد تصعيدًا عسكريًا واحتقانًا سياسيًا، لا يمكن قراءته فقط من زاوية المواجهات أو التحالفات الظاهرة، بل من خلال فهم عميق للقلق الوجودي لدى مكونات مثل العلويين، الذين باتوا يُوصمون إعلاميًا بـ”فلول الأسد”، في خطاب يسعى لتبرير ما يحدث في مناطقهم، ويُغفل تعقيد وضعهم كطائفة تخشى على وجودها أكثر من دفاعها عن نظام سقط بالفعل. وفيما يلي أبرز الأقليات العرقية والدينية في سوريا وتوجهات تعاملها مع النظام السوري الجديد.

1. الأكراد

يتمركز الوجود الكردي في سوريا بشكل رئيسي في شمال وشمال شرق البلاد، على امتداد الشريط الحدودي مع تركيا والعراق، ضمن ثلاث مناطق جغرافية رئيسية تُعرف تقليديًا باسم “المناطق الكردية الثلاث” أو “المناطق الثلاث”: مثل منطقة الجزيرة (الحسكة وريفها) التي تعدّ أهم وأكبر تجمع كردي في سوريا من حيث المساحة وعدد السكان، وتمتد على الشريط الحدودي الشرقي مع تركيا والعراق، وتُعرف المنطقة بخصوبتها الزراعية واحتوائها على موارد طبيعية مثل النفط والغاز، وهو ما يجعلها ذات أهمية استراتيجية. كما تضم منطقة كوباني (عين العرب) في ريف حلب الشمالي الشرقي والتي تقع إلى الشرق من نهر الفرات، وعُرفت عالميًا بعد صمودها في وجه “داعش” عام 2014، بدعم من التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، باعتبارها من رموز “المقاومة الكردية” المعاصرة بجانب مكانتها في الوجدان القومي الكردي. بالإضافة إلى ذلك تضم منطقة عفرين في ريف حلب الشمالي الغربي والتي كانت تخضع لسيطرة الإدارة الذاتية الكردية حتى عام 2018، حين دخلتها فصائل المعارضة المدعومة من تركيا في عملية “غصن الزيتون”. ومنذ ذلك الوقت تشهد المنطقة تغيّرات ديموغرافية وصراعات حادة بعد تهجير عشرات آلاف الأكراد منها.

أ. المطالب الكردية:

تتمحور مطالب الأكراد في سوريا حول الاعتراف بهويتهم القومية وحقهم في إدارة مناطقهم ذات الغالبية الكردية، ضمن إطار دولة سورية موحدة، وهذه المطالب تطورت تاريخيًا من مجرد مطالب ثقافية ولغوية -كالسماح باستخدام اللغة الكردية وتعليمها– إلى مطالب سياسية وإدارية أكثر وضوحًا مع تصاعد الحضور الكردي العسكري والإداري منذ عام 2011، وخاصة بعد انسحاب النظام السوري من المناطق الكردية؛ حيث أسّس الأكراد نموذج “الإدارة الذاتية الديمقراطية” الذي يُطالبون بإضفاء الشرعية الدستورية عليه ضمن سوريا لامركزية. ويرى الأكراد أن هذا النموذج يمكن تعميمه ليشمل كافة مكونات الشعب السوري، كبديل عن الحكم المركزي الذي تسبّب –برأيهم– في تفكك الدولة واشعال الحرب الأهلية.

ومع ذلك، لا يتبنّى الأكراد في سوريا –رسميًا– مطلب الانفصال أو إنشاء دولة مستقلة، بل يؤكدون تمسكهم بوحدة الأراضي السورية، وإن كانوا يطالبون بـتطبيق نظام الفيدرالية أو الحكم الذاتي الذي يضمن لهم إدارة شئونهم السياسية والأمنية والاقتصادية والثقافية. كما يسعون للحصول على تمثيل عادل في مؤسسات الدولة السورية المستقبلية، بما يضمن شراكتهم الكاملة في القرار الوطني، ويحفظ خصوصيتهم القومية. بيد أن هذه المطالب تصطدم برفض قوى سورية أخرى، كالنظام والمعارضة، لأي مشروع فيدرالي خوفًا من التقسيم، فضلًا عن الموقف التركي المعادي لأي شكل من أشكال الإدارة الكردية الذاتية على حدوده، وهو ما يجعل تحقيق هذه المطالب مرهونًا بتسوية سياسية شاملة تراعي توازنات الداخل والخارج.

ب. نظام المحاصصة:

لا يطرح نظام المحاصصة لدى الأكراد في سوريا بالشكل التقليدي المعروف في أنظمة مثل لبنان أو العراق (أي تقاسم السلطة على أساس طائفي أو عرقي ضمن الدولة المركزية)، بل يتم التعبير عنه ضمن مشروع “الإدارة الذاتية” الذي طوره الأكراد في شمال وشرق سوريا، والذي يقوم على مفهوم التمثيل المتوازن والتشاركية بين المكونات وليس المحاصصة الصريحة.

وداخل هذا النظام المحتمل، لا يُفترض أن يُهيمن الأكراد وحدهم على السلطة، رغم أنهم القوة السياسية والعسكرية الأبرز، بل يتم توزيع المناصب والمسئوليات على أساس التمثيل الجغرافي والإثني والديني، فالمجالس المحلية والهيئات السياسية في الإدارة الذاتية تضم ممثلين عن العرب، السريان الآشوريين، الأرمن، التركمان، والشركس، بالإضافة إلى مكونات دينية مثل المسلمين والمسيحيين والإيزيديين. ويجري اختيار هؤلاء ضمن ما يُعرف بـ”نظام الكوتا” أو “التشاركية الديمقراطية”، بهدف ضمان مشاركة كافة المكونات في صناعة القرار المحلي والإقليمي ضمن مناطق الإدارة.

ورغم ذلك، فإن هذا النموذج يتعرض لانتقادات من عدة أطراف. فالبعض يرى أنه مجرد واجهة شكلية لهيمنة الأكراد، لا سيما “حزب الاتحاد الديمقراطي (PYD)” الذي يسيطر فعليًا على المؤسسات، بينما يُتهم النظام بأنه يُقصي المعارضين أو المستقلين، خاصة من العرب، في المناطق ذات الغالبية غير الكردية. كما أن هذا النموذج، رغم طموحه في إشراك الجميع، لم يحصل على اعتراف دستوري من الحكومة المركزية في دمشق، ولا على دعم من المعارضة السورية، التي ترى فيه مشروعًا انفصاليًا مقنّعًا. بالتالي، فإن “نظام المحاصصة” الكردي هو أقرب إلى نموذج حكم ذاتي “تعددي” محلي، لا يزال بحاجة إلى توافقات وطنية وإقليمية ليُعتمد فعليًا على مستوى الدولة السورية ككل.

ج. شبكة التحالفات الإقليمية والدولية:

تُعد شبكة التحالفات الإقليمية والدولية للأكراد في سوريا واحدة من أعقد القضايا في الصراع السوري، بسبب الطبيعة المركبة للقضية الكردية، التي لا تقتصر على البعد المحلي فقط، بل تمتد وتتشابك مع متغيرات إقليمية ودولية. فالأكراد، من خلال مشروع “الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا”، تمكنوا من خلق كيان فعلي على الأرض، مستفيدين من الفجوة التي خلفها تراجع الدولة السورية، وتنامي تهديدات تنظيم “داعش”، وهو ما دفع قوى كبرى مثل الولايات المتحدة إلى التعامل معهم كشريك “واقع” لا يمكن تجاهله. وفيما يلي أبرز هذه التحالفات:

- في مقدمة هذه التحالفات الدولية تأتي الولايات المتحدة الأمريكية، التي تُعد الحليف العسكري والسياسي الأبرز لقوات سوريا الديمقراطية (قسد). وقد بدأت العلاقة بين الطرفين بشكل فعلي في عام 2014، عندما اعتمدت واشنطن على الأكراد كقوة برية رئيسية في الحرب ضد تنظيم “داعش”، خصوصًا في معركة كوباني التي شكلت نقطة تحول في طبيعة التحالف. ومنذ ذلك الحين، وفرت الولايات المتحدة دعمًا جويًا ولوجستيًا وعتادًا عسكريًا مكّن الأكراد من السيطرة على مساحات واسعة شرق الفرات. ورغم أن واشنطن لم تعترف رسميًا بالإدارة الذاتية، إلا أنها تعاملت معها كأمر واقع، خاصة في إطار التوازن ضد نفوذ كل من النظام السوري وإيران وتركيا. لكن هذا التحالف ظل هشًا ومهددًا، كما ظهر في الانسحاب الأمريكي المفاجئ في عام 2019، والذي فتح الباب أمام التدخل التركي في مناطق تمركز الأكراد في الشمال الشرقي.

- تشكل روسيا طرفًا حذرًا في علاقتها مع الأكراد؛ فهي من جهة كانت حليف للنظام السوري السابق وتدافع نظريًا عن وحدة الأراضي السورية، لكنها من جهة ثانية أبقت خطوط الاتصال مفتوحة مع “قسد”، لا سيما بعد التوتر مع واشنطن أو التصعيد التركي؛ حيث استفادت موسكو من موقعها كوسيط، خاصة عندما دخلت كقوة فاصلة في مناطق انسحب منها الأمريكيون. وقد لعبت دورًا في تسهيل التفاهمات الأمنية بين “قسد” ودمشق، لكنها لم تُظهر رغبة حقيقية في تبني المشروع الكردي أو دعمه سياسيًا، بل تعاملت معه كأداة ضغط مرنة. ولكن بعد سقوط النظام السوري السابق وتولي السلطة الانتقالية الجديدة لم تظهر بوادر لعلاقات بين روسيا والأكراد في مرحلة ما بعد الأسد، ومن المحتمل أن تظل العلاقات مجمدة لحين إعادة بلورة الدور الروسي الجديد في سوريا ما بعد الأسد.

- على الصعيد الأوروبي، أبدت فرنسا وبعض الدول الأوروبية اهتمامًا واضحًا بمستقبل الأكراد في سوريا الجديدة، وقد زار مسئولون أوروبيون مناطق الإدارة الذاتية، وقدموا مساعدات إنسانية ومواقف سياسية داعمة نسبيًا. إلا أن هذا الدعم ظل رمزيًا ومحدودًا، دون أن يتطور إلى شراكة استراتيجية أو دعم عسكري حقيقي، كما هو الحال مع الولايات المتحدة. فالدول الأوروبية، رغم تعاطفها، اتجهت نحو عدم الاصطدام بالمواقف التركية، أو الانخراط عسكريًا في الملف السوري.

- تشكل التحالفات الإقليمية للأكراد في سوريا جانبًا بالغ الحساسية والتعقيد؛ حيث تصطدم طموحاتهم في الحكم الذاتي أو الفدرالية بعقبات جيوسياسية متشابكة وفي مقدمة هذه العقبات تأتي تركيا (عداء صريح) التي تُعد الخصم الإقليمي الأبرز والأكثر صراحة في عدائها لأي مشروع كردي في شمال سوريا؛ حيث ترى أنقرة في قوات سوريا الديمقراطية (قسد) ووحدات حماية الشعب امتدادًا لحزب العمال الكردستاني، المصنَّف كتنظيم إرهابي في تركيا والغرب. وبناءً على هذا التصور، شنت تركيا سلسلة من العمليات العسكرية داخل الأراضي السورية (درع الفرات، غصن الزيتون، نبع السلام وغيرها من العمليات العسكرية) في محاولة للحد من تمدد النفوذ الكردي، وإنشاء منطقة آمنة بعمق 30 كيلومترًا على حدودها الجنوبية. وتأتي هذه العمليات استنادًا على افتراض تركيا بأن قيام كيان كردي على حدودها يمثل تهديدًا وجوديًا لمصالحها الأمنية ووحدة أراضيها، ولذلك تسعى باستمرار إلى تقويض أي صيغة سياسية تسمح للأكراد بالاستقلالية أو الإدارة الذاتية.

- تقف إيران في موقع غير متعاطف مع الأكراد السوريين، وإن لم تعادِهم بشكل مباشر. فهي ترفض فكرة الفيدرالية أو تقسيم سوريا، وتعتبر استمرار وحدة البلاد مسألة أمن قومي، خاصة مع وجود أقلية كردية نشطة داخل إيران نفسها، وهو السبب الرئيس وراء دعم طهران للنظام السوري السابق، كما نسقت بشكل مستمر مع تركيا في إطار تفاهمات أستانا بشأن ملف الأكراد، وهو ما يجعلها تصطف بشكل غير معلن، ضمن القوى الرافضة للمشروع الكردي في شمال سوريا.

باختصار، يمكن القول إن التحالفات الإقليمية والدولية للأكراد وفّرت لهم قوة ميدانية ومكانة سياسية لا يُستهان بها، لكنها لم تصل بعد إلى حد تقديم الضمانات الاستراتيجية التي تضمن ديمومة مشروع “الإدارة الذاتية”؛ إذ يعتمد مستقبل هذا المشروع إلى حد كبير على توازنات هذه القوى من جهة، ومن ناحية أخرى على مدى قدرة الأكراد على المناورة بين حلفاء متناقضين، دون أن يُضحى بهم كورقة تفاوضية في لحظة سياسية ما.

2. العلويون:

يعتبر العلويون، أو كما يُطلق عليهم أحيانًا “النصيريون”، من أبرز الأقليات الدينية في سوريا، وينتمون إلى طائفة شيعية ذات خصوصية عقائدية وتاريخية، تطورت في عزلة اجتماعية وجغرافية طويلة عبر القرون. وتاريخيًا، عانى العلويون من التهميش السياسي والاجتماعي والديني، وكانوا يعيشون في مناطق جبلية على الساحل السوري، خصوصًا في جبال العلويين (المنطقة الممتدة من طرطوس إلى اللاذقية)، وهي مناطق بقيت فقيرة ومعزولة خلال العهد العثماني.

وطوال قرون، نظر إليهم المجتمع الإسلامي السني، الذي يشكل الأغلبية في سوريا، بنوع من الارتياب والرفض، وكانت المؤسسة الدينية التقليدية تتهمهم بالبدع والخروج عن الإسلام. ومع بداية القرن العشرين، وتحديدًا خلال فترة الانتداب الفرنسي (1920–1946)، بدأ وضع العلويين يتغير تدريجيًا. فقد اعتمد الفرنسيون سياسة “فرّق تسد”، وبدأوا بتجنيد أبناء الأقليات، ومنهم العلويون، في الجيش السوري الذي كان نواة لاحقة للجيش الوطني بعد الاستقلال. ومع استقلال سوريا في عام 1946، بقي العلويون على هامش الحياة السياسية، لكنهم ظلوا حاضرين بقوة في المؤسسات العسكرية والأمنية، وهي القنوات التي استُخدمت لاحقًا كرافعة للوصول إلى السلطة. ومع قيام حزب البعث في الستينيات، وتحديدًا بعد انقلاب عام 1970 الذي أوصل حافظ الأسد (الذي ينتمي إلى الطائفة العلوية) إلى سدة الحكم، وبدأ العلويون بالانتقال من الهامش إلى المركز، وتولي المناصب السياسية والأمنية والعسكرية في الدولة.

وقد أثار هذا التحول تحفظات وشكوكًا داخل المجتمع السني، وظهور سرديات تربط بين الطائفة العلوية والنظام، حتى أصبح كثيرون ينظرون إلى العلويين كطائفة حاكمة، على الرغم من أن معظم أبناء الطائفة لم يكونوا مستفيدين اقتصاديًا أو سياسيًا، بل ظلوا في كثير من الحالات من الطبقات الفقيرة. ومع اندلاع الثورة السورية عام 2011، دخل العلويون مرحلة جديدة من التأزّم؛ حيث تم ربط مصير الطائفة بمصير النظام، وأصبحوا هدفًا للانتقام الطائفي في بعض الخطابات المعارضة، فيما جند النظام أبناء الطائفة بشكل كبير في أجهزته الأمنية للدفاع عن بقائه.

أ. الموقف من الانفصال:

وفق الرؤية العلوية، فإنهم لا يدعمون فكرة الانفصال أو تقسيم البلاد، لأن ذلك قد يؤدي إلى تفكيك الدولة السورية وتهديد وجودهم. فبسبب العلاقة الوثيقة بين الطائفة والنظام السوري السابق، يخشى العلويون من أن يؤدي انفصال أو تمزق الدولة إلى تفكك وتشرذم داخلي يضعهم في موقف ضعف، وربما يكون سببًا في تعرضهم لتهديدات أمنية أو اجتماعية من أطراف أخرى في الصراع الطائفي والمذهبي.

ب. الموقف من الحكم الذاتي:

فيما يتعلق بالحكم الذاتي، يمكن القول إن العلويين لم يكونوا طرفًا نشطًا في المطالبة بهذا المفهوم كما هو الحال مع الأكراد. فالنظام السوري السابق الذي كان يقوده العلويون رفض بشكل قاطع أي مطالبات فيدرالية أو حكم ذاتي تُضعف من سيطرة المركز، وبالتالي فمواقف العلويين من حيث القاعدة الشعبية تميل إلى دعم هذه الرؤية لوحدة البلاد ونظام حكم مركزي قوي، دون تفتيت أو تقسيم. بعبارة أخرى، فإن الحكم الذاتي ليس جزءً من برنامجهم السياسي؛ إذ يرون في الدولة الموحدة النظام الذي يضمن مصالحهم وسلامتهم.

من ناحية أخرى، برزت اتجاهات مغايرة لهذا النهج؛ فالتحالفات الخاصة بالعلويين قبل سقوط نظام الأسد تغيرت بصورة جذرية بعد سيطرة النظام السوري الجديد، ولعل ظهور هذه الاتجاهات تصاعد بعد الممارسات التي قامت بها قوات النظام الحالي من استهداف على أساس الطائفة، فبعدما سقط نظام الرئيس السابق بشار الأسد وجدت الطائفة العلوية نفسها أمام مصير مجهول وسط مخاوف من تصاعد الأعمال الانتقامية، وتفاقم الوضع الاقتصادي بالبلاد، ووجود سلطات جديدة منبثقة عن تيار إسلامي متشدد، ومن ثم تبقى هذه الأقلية محاطة بالمخاوف حول طبيعة دورها الحالي والمستقبلي، ولعل استمرار الاستهداف لهذه الطائفة قد ينعكس على طبيعة توجهاتهم فيما يتعلق بالمطالبة بحقوقهم في الحكم الذاتي الذي لم يكن مطروحًا من قبل.

ج. نظام المحاصصة

إن العلاقة بين العلويون ونظام المحاصصة مختلفة؛ فقد حققوا مكاسب من نظام المحاصصة الطائفية والسياسية الذي قام عليه النظام السوري السابق، والذي ضمن لهم حضورًا قويًا في مواقع القرار، وخاصة في الجيش والأمن؛ حيث تم تأسيس نظام محاصصة غير رسمي يستند إلى الولاءات الطائفية لصالح العلويين، وهو ما منحهم موقعًا استثنائيًا في هيكل الدولة السورية.

وبالرغم من أن هذا النظام أثار توترات مع بقية الطوائف، إلا أنه مكن العلويين من بناء قاعدة سلطة متينة، ولكن بعد سقوط النظام، فإن اتجاه العلويين إلى الاستمرار في هذا النظام لن يمنحهم نفس المميزات التي كانوا يتمتعون بها قبل سقوط النظام.

د. التحالفات الإقليمية والدولية

تمتع العلويون في سوريا، بوصفهم الطائفة التي كان ينتمي إليها النظام السابق، بشبكة تحالفات محلية وإقليمية ودولية ترتبط بشكل وثيق بالنظام السوري وامتداد نفوذه. وهو ما يعني أن هذه التحالفات كانت تنبع بشكل رئيسي من موقعهم الاستراتيجي داخل النظام السابق، وبالتالي فإن تغير النظام السياسي وسيطرة نظام انتقالي جديد لم يساهم في تغيير هذه الشبكة فقط بل تم إضعافها.

وعلى المستوى الإقليمي، يرتبط العلويون بتحالف وثيق مع إيران وحزب الله اللبناني، وهما الركيزتان الأساسيتان للدعم العسكري والسياسي وهذا التحالف يعتبر جزء من محور أوسع يمتد من طهران مرورًا بدمشق وبيروت، ولكن في ظل الظروف الجديدة التي تشهدها سوريا، لم يعد هذا المحور يمتلك من القوة والقدرة التي تؤهله للتأثير في مجريات الأوضاع السورية.

وعلى الصعيد الدولي، تُعد روسيا الحليف الأقوى والأكثر استراتيجية للعلويين، فمنذ بداية الصراع في 2011، تدخلت روسيا عسكريًا ودبلوماسيًا لدعم النظام السابق وبالتالي دعم الطائفة العلوية، وهو ما منح العلويين استقرارًا نسبيًا في مناطق نفوذهم وحافظ على موقعهم في الحكم، وعلى الرغم من التغيرات التي شهدتها سوريا بعد سقوط النظام السابق إلا أن روسيا ستكون الحليف الأكثر قدرة على دعم العلويين في الداخل السوري.

ويمكن القول إن تحالفات العلويين ارتكزت في معظمها على شبكة تحالفات النظام السوري السابق الذي عزز نفوذهم السياسي والاجتماعي، وهو ما يعني تراجع قدرات هذه الشبكة من التحالفات نظرًا لتغير النظام والظروف المحيطة به، وبالتالي لن يكون بمقدورهم التعويل على هذه الشبكة من التحالفات في تعاملهم مع السلطات الجديدة في دمشق.

3. الدروز

يمثلون إحدى الأقليات الدينية البارزة في سوريا، ورغم قلة عددهم مقارنة بالأكراد والعلويين، فإن لهم أهمية سياسية ودينية كبيرة نابعة من طبيعة طائفتهم ذات الخصوصية العقائدية والتنظيم الاجتماعي المغلق نسبيًا وتنظيمهم الاجتماعي المحكم. ومن حيث الموقع الجغرافي، يتمركز الدروز في محافظة السويداء الواقعة في جنوب سوريا، ويُعرف هذا الامتداد الجغرافي باسم جبل العرب أو “جبل الدروز” (وكان يُعرف تاريخيًا أيضًا بـ”جبل حوران”). إلى جانب السويداء، توجد أقلية درزية محدودة في مناطق مثل ريف دمشق، خصوصًا في جبل الشيخ (منطقة “عرنة” وما حولها)، وفي بعض قرى محافظة القنيطرة على مقربة من الجولان المحتل.

ومن حيث الكثافة السكانية، يُقدّر عدد الدروز في سوريا بحوالي 3% من مجموع السكان، أي ما بين 700 ألف إلى مليون نسمة تقريبًا، وهو ما يجعلهم أقل عددًا من الأكراد (الذين يشكلون نحو 10-12%) وأقل من العلويين (الذين يُقدّرون بـ 10-15%). ورغم هذا العدد المحدود، فإن الدروز يتمتعون بهوية طائفية متماسكة، وتنظيمهم الاجتماعي الداخلي الصارم، وهو ما عزز من قدرتهم على الحفاظ على الذات الجماعية في بيئة سورية شديدة الاضطراب.

أ. الموقف من الحكم الذاتي والانفصال

فيما يخص الحكم الذاتي والانفصال، لم يطرح الدروز في سوريا مشاريع واضحة أو رسمية للمطالبة بانفصال سياسي أو إقليم مستقل، سواء على أسس طائفية أو جغرافية، ومع ذلك، ظهرت بعض الأصوات الفردية أو المحلية في السويداء –خصوصًا بعد عام 2018– تطالب بـ”إدارة محلية” أو “حكم ذاتي إداري” على خلفية ضعف الدولة المركزية.

كما لا تبدو مطالب انفصال السويداء واقعية، كما أن الأمر ليس بالسهولة بمكان؛ إذ لا توجد مقومات عند الدروز هذا الموقف يعود إلى عدة عوامل، أهمها قلة عددهم وتجمّعهم الجغرافي المحدود، وهو ما يجعل خيار الانفصال غير واقعي عمليًا، والطبيعة العقائدية للطائفة، التي تميل إلى السرية والانغلاق وتفضّل البقاء ضمن الدولة المركزية مع ضمانات حماية محلية.

ب. على صعيد نظام المحاصصة

لم يطالب الدروز صراحة بتطبيق هذا النظام على الطريقة اللبنانية أو العراقية والمتمثل في تقاسم السلطة على أساس نظام محاصصة طائفية، لكنهم في الوقت نفسه يحرصون على حماية موقعهم في الدولة السورية الجديدة وضمان تمثيلهم السياسي والإداري، لا سيما في مؤسسات الجيش والأمن؛ حيث كان لهم وجود تقليدي ملحوظ. ويمكن الإشارة هنا إلى أنه خلال الثورة السورية، مال غالبية الدروز إلى الحياد الحذر أو في بعض الأحيان التحييد الذاتي مع وجود تيارات داخل الطائفة انقسمت بين مؤيد للنظام السوري لأسباب أمنية، وبين معارض سلمي عبّر عن مواقفه من خلال شخصيات مستقلة. وفي مناطقهم، حافظوا على حد أدنى من الإدارة الذاتية الأمنية عبر فصائل محلية مسلّحة (مثل قوات “مشايخ العقل” أو مجموعات محلية)، لكنها لم ترتقِ إلى مشروع سياسي انفصالي.

وبالتالي، يمكن القول إن موقف الدروز يقوم على رفض الانفصال، وتجنّب المغامرات السياسية الكبرى، والتمسك بمبدأ اللامركزية الواقعية على المستوى الإداري أو الأمني، دون السعي لتحويلها إلى كيان سياسي مستقل. كما أن خيار المحاصصة ليس مطلبًا معلنًا، لكن هناك سعي لضمان التمثيل المتوازن في أي ترتيبات مستقبلية للسلطة في سوريا.

ج. التحالفات الإقليمية والدولية:

تتسم التحالفات الإقليمية والدولية للدروز في سوريا بالحذر الشديد والخصوصية؛ إذ لم تسعَ الطائفة الدرزية إلى إقامة تحالفات سياسية أو عسكرية صريحة وواضحة مع قوى إقليمية أو دولية على غرار ما فعله الأكراد أو بعض الفصائل السنية أو العلوية، بل اعتمدت في معظم الأحيان على سياسة الحياد النشط أو ما يمكن وصفه بـ”التموضع الوقائي” داخل الصراع السوري. ولكن بعد سقوط النظام السياسي السوري وسيطرة نظام جديد على مقاليد الحكم واندلاع المواجهات العسكرية بين الدروز وقوات النظام السوري الجديد، اتجه الدروز إلى تعزيز تحالفاتهم مع إسرائيل التي تضم أكثر من 150 ألف درزي، بمن فيهم نحو 23 ألفًا يعيشون في الجولان المحتل، تقدم نفسها حامية لهذه الأقلية، كما تدخلت في الصراع وشنت ضربات عسكرية استهدفت القصر الرئاسي ومقر هيئة الأركان في دمشق وأهدافًا عسكرية في السويداء دعمًا للدروز.

على الصعيد الدولي، لم تُظهر روسيا تحالفًا استراتيجيًا مباشرًا مع الدروز، لكنها لعبت أدوارًا وسيطة في بعض الأوقات، خاصة عندما حصلت توترات بين النظام السوري السابق وأبناء السويداء. في هذا السياق، يمكن القول إن موسكو تدرك خصوصية الموقع الدرزي، وتسعى إلى احتواء التوترات دون تبني موقف واضح تجاه الطائفة كحليف دائم.

وفيما يتعلق بإسرائيل، يمكن القول إن هذه العلاقة محاطة بكثير من الحساسية والتعقيد، خصوصًا أن هناك وجودًا درزيًا كبيرًا في إسرائيل، وبعض الجنود الدروز في جيشها أبدوا في بعض الأحيان تعاطفًا أو تحركًا لصالح دروز سوريا(كما حدث في قضية قرية حضر في الجولان).

لكن دروز الداخل السوري، وخصوصًا في السويداء، يرفضون بشكل قاطع أي ربط بينهم وبين إسرائيل، ويؤكدون على عروبتهم وانتمائهم لسوريا، وهو ما يجعل أي محاولة إسرائيلية للتقرب من طائفة السويداء مرفوضة شعبيًا، رغم البعد العاطفي الإنساني من قبل دروز الجولان أو فلسطينيي الداخل، إلا أن إسرائيل تسعى إلى استثمار التوترات بين الدروز والسلطة الجديدة في دمشق لتعزيز تواجدها في الداخل السوري.

وفيما يتعلق بالعلاقةمع الولايات المتحدة والتحالف الدولي، يمكن القول إنه لم تنشأ علاقة مباشرة أو تحالف واضح بين الدروز في سوريا والولايات المتحدة أو التحالف الدولي ضد “داعش”. ويعود السبب في ذلك إلى تمركزهم الجغرافي بعيدًا عن خطوط التماس مع التنظيم، فضلًا عن تحفظهم التاريخي على التعاون العسكري مع أي جهة خارجية دون غطاء سوري داخلي.

4. المسيحيون

ينتشر المسيحيون في سوريا في مختلف المحافظات، مع تركّز واضح في مناطق مثل دمشق، حلب، وادي النصارى، وحمص. ورغم تراجع أعدادهم بسبب ظروف الحرب، لا يزال لهم دور ثقافي وديني بارز في النسيج السوري المتنوع.

أ. المواقف من الحكم الذاتي

يرفض معظم المسيحيين في سوريا فكرة الانفصال أو تقسيم البلاد، ويتمسكون بوحدة الدولة السورية كخيار أساسي، وينبع هذا الموقف من إدراكهم لكونهم أقلية عددية موزعة جغرافيًا، وهو ما يجعل من إنشاء كيان منفصل أو المطالبة بالحكم الذاتي أمرًا غير واقعي وقد يعرضهم للعزلة أو التهميش. إضافة إلى ذلك، لا يوجد تمركز ديمغرافي واضح للمسيحيين يمكن أن يشكّل قاعدة لحكم ذاتي مستقل، على غرار بعض المكونات الأخرى. ولهذا، تميل الأغلبية المسيحية إلى خيار التعايش ضمن دولة مدنية موحدة، تضمن الحقوق والحريات وتقوم على مبدأ المواطنة، بعيدًا عن مشاريع التقسيم أو العزل الطائفي.

ب. المحاصصة الطائفية

عبر المسيحيين السوريين عن تحفظ واضح تجاه هذا النموذج، خاصة في ظل التجربة اللبنانية التي أظهرت مخاطر عدم الاستقرار الداخلي؛ حيث يفضل المسيحيون قيام دولة مدنية علمانية تحكمها الكفاءة والمواطنة، وليس الانتماء الديني أو الطائفي. ومع ذلك، هناك شعور بالقلق من احتمال تهميشهم في مرحلة ما بعد الحرب، وهو ما قد يدفع بعضهم للمطالبة بضمانات دستورية لتمثيلهم في المؤسسات السياسية، دون الانزلاق إلى نظام محاصصة رسمي. باختصار، يسعى المسيحيون إلى الحفاظ على دورهم الوطني في إطار جامع، دون التقوقع داخل هويات فرعية تهدد وحدة الدولة.

ج. التحالفات الإقليمية والدولية

في الداخل، اختار جزء كبير من المسيحيين الوقوف إلى جانب الدولة السورية خلال سنوات الصراع، انطلاقًا من اعتبارات تتعلق بالأمان، الاستقرار، وخوفًا من سيطرة جماعات متشددة على مناطقهم. وقد دعمت بعض القيادات الكنسية بقاء الدولة ومؤسساتها، ورفضت مشاريع التقسيم أو الفوضى، وهو ما ساهم في النظر إليهم –إقليميًا– كطرف مؤيد لمحور الحكومة السورية السابقة وشبكة تحالفاتها، وهذا الموقف ساهم في توفير نوع من الحماية السياسية والدينية لهم، إلا أن هناك تغيرات كبيرة طرأت على المشهد الداخلي السوري بعد سقوط نظام الرئيس السابق بشار الأسد، وهو ما دفعهم إلى التعامل مع هذه المتغيرات بحذر في ظل وجود قيادة ذات خلفية دينية سنية متشددة.

أما على المستوى الدولي، فقد حافظت الكنائس المسيحية في سوريا، خاصة الكنائس الأرثوذكسية والكاثوليكية، على روابط قوية مع المرجعيات الدينية والسياسية الغربية، لا سيما في أوروبا (مثل الفاتيكان وفرنسا) وروسيا، التي تُعد داعمًا تاريخيًا للمسيحيين الأرثوذكس في الشرق. كما مارست بعض الجاليات المسيحية السورية في المهجر دورًا في نقل معاناة المسيحيين إلى الرأي العام الدولي، وهو ما دفع بعض الدول الغربية إلى تضمين ملف حماية الأقليات ضمن أجنداتها السياسية، دون أن يرقى ذلك إلى تحالف سياسي مباشر.

بالمجمل، يمكن القول إن تحالفات المسيحيين السوريين اتسمت بـالمرونة والحذر، وتركزت على حماية الوجود والهوية داخل سوريا، دون الانخراط العميق في صراعات المحاور أو بناء تحالفات سياسية مستقلة، مع الاعتماد في كثير من الأحيان على الكنائس والدبلوماسية الكنسية كقنوات للتواصل الإقليمي والدولي.

ثانيًا: سياسات النظام السوري تجاه الأقليات

شكل سقوط نظام “الأسد” في ديسمبر 2024 نقطة تحول كبرى؛ أنهت أكثر من خمسة عقود من الحكم المركزي، بيد أنها لم تُنه التحديات الهيكلية التي أنتجها، وعلى العكس من ذلك أعادت إنتاجها في سياق انتقالي جديد؛ يتسم بفراغ مؤسسي، وانقسام مناطقي، وتعدد الفاعلين المحليين والإقليميين والدوليين. وفي هذا السياق، تُعد مسألة الأقليات (العلويين، المسيحيين، الدروز، الأكراد، الإيزيديين، الأرمن، وغيرهم) أحد أكثر الملفات حساسية، نظرًا لما تمثّله من أبعاد سياسية وأمنية وثقافية؛ إذ لطالما ارتبطت سياسات النظام السابق بتوظيف الانقسام الطائفي والإثني كأداة للسيطرة السياسية.

وعلى الرغم مما شهده المشهد السياسي السوري من تطورات مفصلية؛ مع تشكيل هيئات انتقالية، وتنظيم انتخابات برلمانية، وحوارات تشريعية تمهيدية لصياغة دستور جديد، وآليات حكم انتقالي، تتعدد المخاوف من التفاوت في تمثيل الأقليات، والتهميش المحتمل لبعض المناطق الجغرافية، وإمكانية اندلاع صراعات طائفية محلية، وتعدد تهديدات الأمن المجتمعي. ولعل تلك التحديات مجتمعة تعكس كيف يعد ملف الأقليات أحد الملفات الشائكة في علاقة السلطة المركزية الجديدة في دمشق والأقليات المنتشرة في شمال شرق البلاد وجنوبها. وبينما تصر دمشق على وحدة الدولة، تطالب مكونات كردية ودرزية بهوامش أكبر للحكم الذاتي.

وبشكل عام، تدور أبرز السياسات الفعلية للحكومة الانتقالية السورية تجاه الأقليات في مرحلة ما بعد “الأسد” حول جملة من النقاط التي يمكن إجمالها على النحو التالي:

1. تدشين أطر مؤسسية جديدة: 

ويقصد بها -على سبيل التحديد- تشكيل الحكومة الانتقالية والإعلان الدستوري الذي حدد مدة المرحلة الانتقالية في سوريا بخمس سنوات. فعلى صعيد الحكومة الجديدة، تعرضت السلطات السورية الجديدة لضغوط دولية عدة لتشكيل حكومة أكثر تمثيلًا لمختلف الطوائف العرقية والدينية السورية، وهي الضغوط التي ازدادت في أعقاب مقتل مئات المدنيين من الطائفة العلوية (الأقلية التي انحدر منها الرئيس السابق “بشار الأسد”) في الساحل السوري. وعمومًا، شملت الحكومة الجديدة تعيين “يعرب بدر” وزيرًا للنقل (علوي) و”أمجد بدر” وزيرًا للزراعة (درزي)، و”هند قبوات” وزيرة للشؤون الاجتماعية والعمل (مسيحية)، غير أن تلك التعيينات الوزارية وُصفت بأنها رمزية أكثر منها تمثيلية؛ إذ بقيت المناصب الأمنية والعسكرية العليا حكرًا على شخصيات سنيّة – قومية مقربة من الرئيس المؤقت.

أما الإعلان الدستوري، فإنه وإن أكد على جملة من الحقوق والحريات الأساسية؛ من بينها حرية الرأي والتعبير وحق المرأة في المشاركة السياسية، فإنه لم يتضمن نصوصًا محددة لحماية حقوق الأقليات الدينية أو اللغوية، بل اكتفى بتأكيد المساواة أمام القانون دون تحديد ضمانات عملية. كما أنه في أعقاب التصديق عليه، أطلق مجلس سوريا الديمقراطية -الذي يمثل المظلة السياسية لقوات “قسد”- بيانًا انتقد فيه الإعلان ورفضه؛ لكونه يكرس لحكم مركزي، ويمنح السلطة التنفيذية صلاحيات مطلقة. وعليه، طالب بإعادة صياغة الإعلان بما يضمن توزيع السلطة بشكل عادل، ويكفل حرية العمل السياسي، ويضمن الاعتراف بحقوق جميع المكونات السورية، ويعتمد نظام حكم لا مركزي ديمقراطي، مع وضع آليات واضحة لتحقيق العدالة الانتقالية، وذلك بعد أيام قليلة من توقيع اتفاق يقضي باندماجها ضمن مؤسسات الدولة السورية، مع التأكيد على وحدة أراضي سوريا ورفض تقسيمها.

2. إشراك الأقليات في الانتخابات السياسية:

 على صعيد المشاركة السياسية والانتخابات البرلمانية، شهدت سوريا في أكتوبر 2025 أول انتخابات برلمانية منذ سقوط النظام، وقد اعتُبرت اختبارًا مهمًا لقدرة الحكومة الانتقالية على إشراك الأقليات في العملية السياسية في أول استحقاق سياسي بعد سقوط نظام “بشار الأسد”، بيد أن الأرقام الأولية أظهرت انخفاضًا في تمثيل الأقليات والنساء دون تمثيل حقيقي لمختلف مكونات المجتمع السوري؛ فقد أسفرت النتائج عن فوز (6) نساء فقط أربع منهن من أقليات دينية، بينهن مسيحية وامرأة إسماعيلية واثنتين من الطائفة العلوية. كما ضم البرلمان (6) نواب من الأقليات العرقية، من بينهم ثلاثة تركمان وثلاثة أكراد، إحداهن امرأة. بيد أن الغالبية الساحقة من النواب المنتخبين من المسلمين السنة والذكور.

ورغم وصف الحكومة للانتخابات بأنها خطوة نحو “الاستقرار السياسي”، أرجأت السلطات التصويت في المناطق الخارجة عن سيطرة الحكومة، ومن بينها تلك التي يسيطر عليها الأكراد في شمال وشمال شرق سوريا، وأيضًا محافظة السويداء التي تسيطر عليها الأقلية الدرزية لأسباب أمنية وسياسية. وقد أدى تعليق التصويت في تلك المناطق إلى وجود 21 مقعدًا شاغرًا، يمثلون طوائف عرقية ودينية تشتكي التهميش في الواقع السياسي السوري، وإن قام “الشرع” بتعيين شخصيات من الأقليات في البرلمان لسد المقاعد الشاغرة، بما في ذلك ثلاثة من المسيحيين واثنان من الدروز، إلا أن هذا الإجراء أثار جدلًا حول مشروعية التمثيل المُعيَّن مقابل التمثيل المنتخب.

3. السياسات الأمنية وهيئات التحقيق: 

منذ انطلاق المرحلة الانتقالية في سوريا، برز الملف الأمني بوصفه أحد أكثر التحديات تعقيدًا في إدارة العلاقة مع الأقليات الدينية والإثنية. ففي مناطق الساحل ذات الغالبية العلوية، سُجلت حوادث انتقامية استهدفت أفرادًا يُعتقد بانتمائهم أو تعاطفهم مع النظام السابق، كما وقعت عمليات خطف متبادلة اتخذت -في كثير من الأحيان- طابعًا طائفيًا، ما عمّق الانقسامات الاجتماعية، وزاد من هشاشة النسيج الوطني. وفي محاولة لاحتواء تلك التوترات، بادرت الحكومة إلى إنشاء “لجنة المصالحة المجتمعية” لتتولى تسوية النزاعات المحلية ومتابعتها، غير أن صلاحيات اللجنة بقيت محدودة في نطاقها الاستشاري، دون أن تُزوّد بأدوات تنفيذية تمكّنها من فرض حلول فاعلة على الأرض.

وفي هذا السياق، أُصدر المرسوم رقم (20) لعام 2025 لتأسيس هيئة مستقلة تحت اسم “الهيئة الوطنية للعدالة الانتقالية”، استنادًا إلى الصلاحيات الدستورية الممنوحة إلى الرئيس وإلى أحكام الإعلان الدستوري، ليؤكد هذا المرسوم على مركزية العدالة الانتقالية كإطار مؤسسي لبناء دولة القانون وتعزيز حقوق الإنسان وضمان رفع الضرر عن الضحايا، بما يرسخ أسس المصالحة الوطنية الشاملة. وقد مُنحت الهيئة الشخصية الاعتبارية والاستقلالين المالي والإداري، بما يتيح لها ممارسة مهامها على امتداد الأراضي السورية. كما تتولى الهيئة مسئولية الكشف عن الحقيقة بشأن الانتهاكات الجسيمة التي ارتُكبت خلال الحقبة السابقة، ومساءلة المسئولين عنها بالتنسيق مع الجهات القضائية المعنية، إلى جانب العمل إعادة الثقة بين مكونات المجتمع السوري، ولا سيما بين فئاته التي عانت من تسييس الهويات والانقسامات الطائفية خلال سنوات الصراع.

4. تخفيف العقوبات الدولية:

 شارك عدد كبير من المسئولين السوريين في مؤتمرات دولية وإقليمية (مثل مؤتمرات المانحين) للتأكيد على الاستقرار السياسي والحاجة إلى رفع العقوبات من أجل إعادة الإعمار وتحسين الأوضاع الإنسانية. وكجزء من هذا الجهد، تم لفت الأنظار إلى ضرورة حماية حقوق الإنسان ووقف الانتهاكات وحماية الأقليات. وفي بعض التصريحات والخطوات، ظهر التزام سياسي “مفترض” بأن تكون الحكومة والسياسات القادمة “شاملة”، وأن تمنح الأقليات حماية قانونية وسياسية، بهدف كسب المصداقية الدولية. ونتيجة لذلك، تبنت عدة دول أوروبية نهجًا تدريجيًا لتخفيف العقوبات الاقتصادية المفروضة على دمشق، بهدف تسهيل الإغاثة وإعادة الإعمار، بشرط احترام الحكومة الانتقالية لحقوق الإنسان وضمان شمول الأقليات في العملية السياسية.

5. تخفيف القيود الدينية والثقافية والإعلامية:

 إن إحدى السمات اللافتة في المرحلة الجديدة هي محاولة الحكومة الانتقالية إعادة صياغة السردية الوطنية بطريقة تتجاوز الانقسام الطائفي الذي ميز عهد “الأسد”. فقد تبنت القيادة الانتقالية خطاب “الحكومة الشاملة” الذي يُدلل على محاولة إعادة تشكيل الخطاب الرسمي بعيدًا عن الخطاب الطائفي المحض. ويدلل على ذلك افتتاح عدد من الكنائس المسيحية في حلب وحمص بعد ترميمها، وإن أتى في مقدمتها كنيسة “القديسة آنا” في قرية اليعقوبية غرب إدلب حيث الغالبية المسيحية والأرمن السوريين، التي تعرضت لتهجير قسري جراء أعمال العنف، وفُرض عليها إجراءات تمييزية كفرض الحجاب وعدم إظهار الانتماء الديني وإزالة الصلبان ومنع قرع أجراس الكنائس وعدم إقامة احتفالات دينية في الحيز العام.

6. محاولات الدمج العسكري والإداري للأكراد:

 أعلن “الشرع” أكثر من مرة أن الأكراد هم “شركاء في سوريا القادمة”، مؤكدًا على التعايش سويًا بالقانون، وعلى تمكين الأقليات الكردية وفق خطاب قائم على إشراك الأكراد في المشهد الوطني -ولو رمزيًا- على أقل تقدير، ولكن مع تأكيده المتكرر على سيطرة الدولة على السلاح، بما في ذلك سلاح قوات سوريا الديمقراطية “قسد”، ودمج قواتها مع الجيش السوري، بهدف دمج المؤسسات العسكرية أو فرض هيمنة مركزية على الآليات العسكرية الميدانية، بما في ذلك تلك التابعة للأكراد من ناحية، ورفض طروحات الحكم الذاتي والفيدرالية التي لا تقوم على توافق وطني من ناحية ثانية. وهو ما يجد جذوره في اتفاق الأحزاب الكردية السورية المتنافسة، بما في ذلك الفصيل المهيمن في شمال شرق سوريا الذي يديره الأكراد، في اجتماع بمدينة القامشلي التي يسيطر عليها الأكراد في سوريا على رؤية مشتركة لدولة لا مركزية ديمقراطية تضمن حقوق الأكراد، وتدعو إلى حوار وطني لإعادة صياغة مستقبل البلاد.

وعليه، يمكن توصيف سياسات الدولة السورية تجاه الأقليات في مرحلة ما بعد سقوط نظام “الأسد” بأنها تحوّلية على مستوى الخطاب، وانتقائية على مستوى التطبيق. فالإعلان الدستوري وتوجهات الحكومة الانتقالية قدما إطارًا نظريًا يقوم على المساواة والتعددية والانفتاح المجتمعي، غير أن الممارسات الفعلية ظلت محدودة الأثر وغير قادرة على ترجمة هذا الخطاب إلى واقع مؤسسي شامل؛ إذ تشير المؤشرات السياسية إلى أن مشاركة الأقليات ظلت شكلية إلى حد كبير، كما تجسدت في تعيينات رمزية ضمن أجهزة الدولة، فيما مثّل الاتفاق الكردي حالة استثنائية لم تتوسع لتشمل باقي المكونات الدينية والإثنية. إلى جانب ذلك، برز توظيف الرموز الثقافية والدينية بوصفها أدوات دبلوماسية لتجميل المشهد الخارجي أكثر من كونها تعبيرًا عن مساواة حقيقية في الحقوق والمواطنة. وعلى هذا الأساس، يمكن القول إن حقوق الأقليات تبقى رهينة لتوازنات أمنية وحسابات دولية، لا ثمرة لسياسات وطنية مستقرة تضمن العدالة والتعددية على نحو مستدام.

ثالثًا: الأكراد في الإقليم: النماذج والبدائل

يعتبر مستقبل الأكراد في سوريا ملفًا شديد التعقيد، تتداخل فيه العوامل الداخلية والإقليمية والدولية، ويُستحيل عزله عن التجارب التي خاضها الأكراد في كل من العراق وتركيا وإيران؛ حيث قدمت نماذج مختلفة للعلاقة بين الدولة المركزية والمكوّن الكردي، وتُعد مرجعًا، بشكل أو بآخر، لصياغة تطلعات أو مخاوف الأكراد السوريين وفهم توجههم في ضوء هذه النماذج.

1. الأكراد في العراق: تجربة الحكم الذاتي والكيان الفيدرالي

يُعد إقليم كردستان العراق النموذج الأبرز لطموحات الأكراد في المنطقة، فقد حصل الإقليم على حكم ذاتي رسمي في الدستور العراقي في عام 2005، مع اعتراف واسع بسلطاته السياسية والاقتصادية والأمنية. كما تُعد تجربة إقليم كردستان العراق النموذج الأكثر تقدمًا في مسار تطلعات الأكراد في الشرق الأوسط، وهي التجربة الوحيدة التي نتج عنها كيان كردي معترف به دستوريًا يتمتع بسلطات واسعة في إطار دولة فيدرالية. بعد عقود من الصراع مع الحكومة المركزية في بغداد، خاصة خلال حكم الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين؛ حيث استطاع أكراد العراق تحقيق إنجاز سياسي نوعي بعد سقوط النظام عام 2003. فقد تم الاعتراف بإقليم كردستان ككيان اتحادي في الدستور العراقي لعام 2005، ومنح سلطات واسعة في مجالات التشريع، التعليم، الأمن، والسيطرة على الموارد المحلية.

كما يتمتع الإقليم ببرلمان وحكومة وجيش خاص (البيشمركة)، وله تمثيل دبلوماسي غير رسمي في عدد من الدول. وعلى الرغم من محاولات الاستقلال (استفتاء 2017)، لم يحصل الأكراد على دولة مستقلة، وظلت العلاقة متوترة مع بغداد بشأن تقاسم الموارد والنفوذ، وهو ما أدى إلى تجميد نتائج الاستفتاء وخسارة الأكراد السيطرة على بعض المناطق المتنازع عليها مثل كركوك. ومنذ ذلك الحين، استمرت الخلافات بين الطرفين، خصوصًا حول تقاسم عائدات النفط، إدارة المعابر، وصلاحيات الحكومة الفيدرالية، وهو ما جعل وضع الإقليم هشًا سياسيًا واقتصاديًا رغم استقلاله الإداري النسبي.

لقد ألهمتتجربة كردستان العراق الأكراد في سوريا، خاصة بعد اندلاع الثورة السورية عام 2011 وانسحاب النظام من عدة مناطق شمالية، ليبدأ الأكراد هناك ببناء مشروع “الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا؛ حيث اتخذت خطوات مشابهة مثل وجود برلمان محلي، ومؤسسات أمنية، ومناهج تعليمية بلغتهم، لكنهم حاولوا في الوقت ذاته تقديم نموذج مختلف يقوم على “الكونفدرالية الديمقراطية” بدلًا من الفيدرالية القومية.

ومع ذلك، فإن تجربة العراق ظلّت المرجعية الأكثر إلهامًا لأكراد سوريا، باعتبارها التجربة الوحيدة التي تم فيها الاعتراف الدستوري بكيان كردي يتمتع بسلطة حقيقية، وهو ما يسعى إليه أكراد سوريا على المدى الطويل، ولو بصيغة مختلفة.

وفيما يتعلق بالدروس المستفادة للأكراد السوريين من التجربة العراقية يمكن القول إن تطبيق الحكم الذاتي يمكن أن يحدث في ظل دعم دولي وضعف الدولة المركزية، كما أن محاولات الاستقلال غير المحسوبة قد تؤدي إلى العزلة السياسية والعقوبات، كما حصل بعد استفتاء كردستان العراق، وأن العلاقة المتوازنة مع الدولة المركزية ضرورية للحفاظ على هذه المكتسبات.

2. الأكراد في تركيا: القمع الأمني والعداء السياسي

يُعتبر الصراع الكردي في تركيا من أكثر القضايا تعقيدًا وحساسية في السياسة التركية الحديثة. منذ عقود، تصنف أنقرة حزب العمال الكردستاني (PKK)، الذي يقود حركة مسلحة تطالب بحقوق الأكراد، كـ”منظمة إرهابية”، وهو تصنيف يدعمه العديد من الدول الغربية أيضًا. وهذا التصنيف كان سببًا رئيسيًا في تبني تركيا سياسة أمنية صارمة تجاه الأكراد، شملت عمليات عسكرية مكثفة، اعتقالات واسعة، وقيودًا ثقافية وسياسية مستمرة. فالأكراد هناك يواجهون قيودًا ثقافية وسياسية، رغم محاولات سابقة (في العقد الأول من القرن 21) للانفتاح والحوار.

وعلى الرغم من ذلك، شهد العقد الأول من القرن الحادي والعشرين بعض المحاولات التركية للانفتاح على الأكراد عبر سياسات إصلاحية، مثل رفع بعض القيود على اللغة الكردية والسماح ببعض النشاطات الثقافية والسياسية، بالإضافة إلى بدء مفاوضات سلام بين الحكومة وPKK  في أوقات متقطعة. لكنها لم تؤدِّ إلى حل جذري للصراع، وانتهت هذه المحاولات غالبًا بفشل وتجدد العنف.

وضمن هذا السياق،ترى تركيا في أي كيان كردي مستقل أو شبه مستقل على حدودها، خاصة في سوريا، تهديدًا مباشرًا لأمنها القومي؛ إذ تخشى أن يشكّل نموذجًا يُلهم الأكراد داخل أراضيها، وهو ما دفعها إلى اتخاذ مواقف عسكرية وسياسية صارمة تجاه الأكراد السوريين والتي ظهرت في تدخلاتها العسكرية في شمال سوريا، مثل عمليات عفرين ورأس العين، ويؤكد هذا النهج على نهج تركيا إلى منع إقامة حكم ذاتي كردي يضم مناطق حدودية تركية.

وبالنسبة للأكراد في سوريا، فثمة مجموعة من الدروس المستفادة من الحالة التركية والمتمثلة في أن أي تقارب معلن مع “حزب العمال الكردستاني” يُعد تهديدًا مباشرًا على مستقبلهم السياسي، خاصة أن تركيا مستعدة للتدخل عسكريًا لإجهاض أي مشروع كردي عبر الحدود، كما حدث العمليات العسكرية التركية منذ عام 2016.

3. الأكراد في إيران: اتجاهات الاحتواء الثقافي وحدود السيطرة الأمنية

يتمركز الأكراد في إيران في المناطق الغربية من البلاد، خاصة في محافظة كردستان وإقليم كرمانشاه، ويعيش هؤلاء تحت رقابة أمنية مشددة من قبل النظام الإيراني الذي يراقب كل النشاطات الثقافية والسياسية التي قد تُثير مطالب قومية أو انفصالية. كما تُفرض قيود على استخدام اللغة الكردية في التعليم والإعلام، كما يتم تُلاحق بعض الفعاليات الثقافية أو الجمعيات التي يُشتبه في تحفيزها للوعي القومي.

وعلى الرغم منوجود تمثيل سياسي كردي رمزي داخل مؤسسات الدولة الإيرانية، إلا أن النشاط السياسي القومي الكردي بشكل عام مراقب ويخضع لكثير من الضغوط، خاصة بسبب وجود مجموعات كردية مسلحة معارضة تنشط من مناطق كردية عراقية مجاورة، مثل حزب الحياة الحرة الكردستاني، وهذه الجماعات تعزز مخاوف النظام الإيراني من تصاعد المطالب القومية، وهو ما يدفعه إلى تشديد السيطرة الأمنية والتضييق على الحريات.

وفي ضوء ذلك،تنظر إيران إلى الطموحات الكردية في سوريا بحذر بالغ؛ إذ تخشى أن تؤدي إلى تصاعد الحركات القومية داخل أراضيها. ولذلك، فهي تميل إلى دعم النظام السوري في مواجهة أي مشروع كردي مستقل، وتسعى إلى منع انتقال “عدوى” الحكم الذاتي أو الاستقلال إلى الأكراد في الداخل الإيراني. وهذا الموقف يعكس استراتيجيتها العامة القائمة على الاحتواء الأمني والسيطرة الصارمة على الأقليات القومية.

وفيما يتعلق بالدروس المستفادة للأكراد السوريين فعلى الرغم من أن علاقتها غير عدائية تمامًا مع الإدارة الذاتية، إلا أن تقاطع المصالح مع الداخل الإيراني يجعلها معارضة لأي مشروع انفصالي. 

رابعًا: مستقبل العلاقة بين الأكراد والنظام السوري في المرحلة الانتقالية

مع تشكل الحكومة الانتقالية في دمشق ومحاولاتها إعادة بسط نفوذها على كامل الأراضي السورية، برزت مسألة دمج الشمال الشرقي -ذي الغالبية الكردية- بوصفها اختبارًا حقيقيًا لقدرة الدولة على تحقيق التوازن بين وحدة السيادة واحترام التنوع المحلي. في هذا السياق، تتعدد السيناريوهات المحتملة للعلاقة بين الجانبين، بدءًا من محاولات بناء الثقة العاجلة، مرورًا بصيغ اللامركزية المحكومة، وصولًا إلى احتمالات الاتفاق المركزي أو التصعيد الضمني، وانتهاءً بالتوازن الهش الذي قد يطبع المرحلة الانتقالية المقبلة.

فموقف النظام السوري الجديد من الأكراد يتسم بالعداء الصامت والتحالف المرحلي في آنٍ واحد. فدمشق تنظر إلى الإدارة الذاتية الكردية كمشروع انفصالي يهدد وحدة البلاد، لكنها اضطرت في أكثر من مناسبة إلى التنسيق مع “قسد”، كما سمح النظام بعودة بعض مؤسسات الدولة إلى مناطق الإدارة الذاتية، إلا أن أي اعتراف رسمي أو قبول بصيغة فيدرالية يبقى خارج حدود الممكن بالنسبة لدمشق، التي تصر على مركزية الدولة ورفض أي تقاسم حقيقي للسلطة.

ويُضاف إلى ذلك أن القومية الكردية بطبيعتها عابرة للحدود، وهذا ما يثير قلقًا مزمنًا لدى الدول التي تضم أقليات كردية، وعلى رأسها تركيا وإيران وسوريا والعراق. هذا القلق يُبقي الأكراد في موقع استهداف دائم، ويجعل من الصعب عليهم بناء شبكة علاقات مستقرة في المحيط الإقليمي. وفي النهاية، يظل المأزق الكردي الاستراتيجي قائمًا في اعتمادهم المفرط على الولايات المتحدة دون وجود ضمانات دائمة، وفي غياب توافق مع القوى المحلية والإقليمية القادرة على منح مشروعهم شرعية سياسية ودستورية طويلة الأمد. ومن ثمّ، يمكن الوقوف على أبرز تلك السيناريوهات على النحو التالي:

1. سيناريو بناء الثقة العاجلة:

 في حين تواصل الحكومة المؤقتة في دمشق حشد الدعم الدولي، فإن خارطة الطريق التي توصلت إليها مع “قوات سوريا الديمقراطية” في مارس 2025 لدمج الشمال الشرقي لم تُنفَّذ بعد. كما أن اندلاع القتال بين القوات الحكومية والأكراد في حلب (على الرغم من انتهائه بعد أربع وعشرين ساعة) يُؤكد المخاطر التي تهدد تنفيذ خارطة الطريق. وتأسيسًا على أهمية التكامل السلمي للشمال الشرقي، قد يحث الجانب الأمريكي مختلف الأطراف على اتخاذ خطوات عاجلة لعكس مسار تصاعد التوترات وبناء الثقة المتبادلة. بيد أن هذا السيناريو لكي يحدث، فإنه يستوجب على الأكراد المبادرة أولًا باتخاذ خطوات بناء الثقة التي لا تتطلب بالضرورة تقديم تنازلات جوهرية في بعض القضايا الخلافية (على شاكلة: قوات الأمن، والإدارة المحلية، والقضايا الثقافية، وغير ذلك). ويتمثل جوهر تلك الإجراءات في اعتراف الأكراد بشكل رئيسي بسيادة الحكومة المركزية على كامل أراضي سوريا مع اتجاه دمشق إلى ضبط النفس وخفض التصعيد والمساءلة والمصالحة في إطار وحدة سوريا واستقرارها.

2. اللامركزية المحكومة” كخيار اضطراري:

 في ضوء تراجع الدعم الأمريكي المباشر لقوات سوريا الديمقراطية من ناحية، وتزايد الضغوط التركية والدولية لإعادة توحيد مؤسسات الدولة السورية من ناحية ثانية، قد يتجه مستقبل الأكراد نحو مرحلة من “اللامركزية المحكومة”، وهي صيغة تتوسط الحكم الذاتي الكامل والخضوع التام للسلطة المركزية في دمشق. إذ تتعدد المؤشرات الدالة على رغبة واشنطن في تحويل حضورها العسكري في شمال شرق سوريا إلى نفوذ غير مباشر عبر ترتيبات إدارية وأمنية تضمن استمرار الاستقرار دون استفزاز تركيا أو النظام السوري. في المقابل، تعمل دمشق بقيادة الحكومة الانتقالية على دمج الإدارات الكردية تدريجيًا في هياكل الدولة، مع الإبقاء على درجة من الإدارة المحلية التي تتيح للأكراد الاحتفاظ بقدر محدود من الاستقلال في مجالات التعليم والخدمات والأمن الداخلي. وهو ما يعني أن الأكراد قد يواجهون تحديًا استراتيجيًا يتمثل في الحفاظ على مكتسباتهم الإدارية والعسكرية السابقة ضمن واقع سياسي جديد يميل إلى إعادة المركزية وتقييد الهويات الفرعية.

3. الاتفاق المركزي:

 قد تسعى الحكومة الانتقالية بقيادة “الشرع” إلى فرض صيغة مركزية عمادها دمج مؤسسات “قسد” بشكل تدريجي ضمن الدولة، بمعني دخول القوات الكردية ضمن الجيش السوري وتحويل الأطر العسكرية والأمنية المحلية التابعة للأكراد إلى وحدات رسمية مع الحفاظ على بعض الصلاحيات المحلية في المناطق الكردية. بيد أن هذا السيناريو لابد وأن يصطدم بتصريحات “قسد” التي أكدت أن تسليم السلاح “خط أحمر”؛ أي أن الأسلحة ستتحول إلى عامل تفاوضي لضمان شروط توافقية؛ تعني بالضرورة أن انتقال السيطرة يجب أن يتم عبر مراحل متفق عليها دون أن يُفرض بالقوة. وبالتبعية، فإن أي توافق بين دمشق والأكراد سيُرافقه تقاسم في موارد النفط والغاز والمنافذ الحدودية داخل المناطق الكردية، مقابل مشاركة الدولة في إدارة هذه الموارد، والإشراف الحكومي المركزي على المعابر بوصفها رموزًا للسيادة. وقد يطال الاتفاق تعديل دستوري يُضمن حقوق الأقليات، ولكن مع الانطلاق من مبدأ وحدة الأرض والقرار المركزي.

4. سيناريو “التصعيد الضمني“:

أظهرت أحداث السويداء الأخيرة محاولات استغلال النزاعات القبلية والطائفية المحلية كسبيل لإعادة فرض السيطرة المركزية، وقد تتحول إلى سيناريو قد يتكرر في مناطق نفوذ الأكراد إن استمر النظام في نهج “الجيش الموحد والدولة المركزية” دون ضمانات فعلية، تكفل حماية حقوقهم في التسلّح المحلي، وعدم استخدام القوات المركزية لأغراض قمعية. وبعبارة ثانية، قد يحاول النظام السوري استخدام حالات النزاع القبلي أو القبائل البدوية داخل أو بالقرب من مناطق الإدارة الذاتية (المناطق التي تسكنها غالبية كردية أو ذات حكم ذاتي فعلي) كذريعة للتدخل؛ فقد يصبح التدخّل الحكومي ضروريًا لإعادة القانون والنظام إن حدثت هجمات جديدة أو اضطراب أمني جديد، وهو ما سيدفع الأكراد إلى استخدام الضغط في استراتيجيتهم: إما من خلال تحالفات دولية، وإما من خلال تقديم الخدمات والفعالية المدنية في مناطقهم لإثبات جدوى “الحكم الذاتي”.

5. التوازن الهش:

إن السيناريو الأكثر ترجيحًا هو استمرار علاقة النظام السوري والأكراد في إطار التوازنات الهشة، فيتوقع قدر أكبر من التداخل من قبل الدولة المركزية ولا سيما في الجوانب الأمنية والمالية مع إبقاء “الإدارة الذاتية” ضمن حدود معينة. فإن وفر النظام ضمانات قوية (دستورية، أمنية، قانونية)، قد يتحقق نوع من التسوية التي تعترف بفعالية الإدارة الذاتية، لكن تحت ظل السيادة المركزية والحالة الأمنية المشتركة. ولا شك أن السياسات المركزية دون ضمانات أو استخدام السياسات الأمنية القمعية يزيد من مخاطر تجدد المواجهات واندلاع نزاعات قبلية/قومية، وربما إعلان مواقف استقلالية أو مقاومة من القوّات الكردية.

6. الاندماج ضمن دولة سورية لا مركزية:

 يُعتبر هذا السيناريو من أكثر المسارات واقعية وأقل تكلفة سياسية وعسكرية، ويعتمد على حصول الأكراد على شكل من أشكال الحكم المحلي أو الإدارة الموسعة داخل إطار دولة سورية موحدة. في هذا الإطار، يتمتع الأكراد بسلطات واسعة في مجالات مثل التعليم، الثقافة، الإدارة المحلية، وربما الأمن، مع الحفاظ على وحدة الدولة السورية. ولتحقيق هذا السيناريو يتطلب حلًا سياسيًا شاملًا برعاية دولية (مثل الأمم المتحدة أو القوى الكبرى)، يضمن حقوق الأكراد ويُشركهم في إدارة البلاد بشكل عادل. كما يتطلب هذا التوجه تسوية مع النظام السوري تُبدي مرونة من الطرفين، مع تنازلات متبادلة حول شكل الحكم والإدارة؛ حيث لا يطالب الأكراد بالانفصال أو استقلال كامل، والنظام يتقبل تقاسم السلطة على مستوى محلي.

7. الضغط التركي وتراجع النفوذ الذاتي:

 ينشأ هذا السيناريو من احتمالية تراجع الدعم الأمريكي أو حصول تسوية سرية بين أنقرة ودمشق تسمح لتركيا بشن عمليات عسكرية واسعة ضد مناطق الإدارة الذاتية الكردية في شمال سوريا؛ حيث تعارض تركيا وجود حكم ذاتي كردي على حدودها باعتباره تهديدًا لأمنها القومي، ولذلك تستهدف بعملياتها هذه الهيمنة الكردية.

وفي حال حصول هذا السيناريو، قد تشهد مناطق الإدارة الذاتية تفككًا جزئيًا أو كليًا بفعل العمليات العسكرية والضغوط السياسية، وهو ما قد يؤدي إلى فقدان الأكراد لأهم مكاسبهم الأمنية والسياسية وتراجع كبير في المشروع السياسي الكردي السوري، وربما يؤدي إلى تقليص وجودهم الجغرافي والسياسي.

في الختام:

 إن مستقبل الأكراد في سوريا مرهون بالتوازن بين الطموحات الذاتية والضغوط الإقليمية والدولية. فالتجربة العراقية تبرز نموذجًا لمحاكاة الحكم الذاتي، إلا أن تجربتي تركيا وإيران تُحذّران من كلفة الانفصال أو التحدي المباشر للدولة. فالأكراد في سوريا أمام مفترق طرق؛ إما التفاوض على مكانة دستورية داخل دولة سورية موحدة، أو مواجهة خطر التفكك أمام تحالفات إقليمية ودولية متعارضة.

وفي ضوء ما تقدم، يتضح أن مسار العلاقة بين الأكراد والنظام السوري سيبقى رهينًا لمعادلة دقيقة، لا بد لها أن توازن بين ضرورات إعادة بناء الدولة وإدماج الأقليات ومراعاة الخصوصيات القومية. فنجاح أي من السيناريوهات المطروحة سيتوقف على قدرة الأطراف المعنية على تبني مقاربة واقعية توازن بين وحدة السلطة وتعدد الهويات، وبين الأمن القومي والحقوق المجتمعية. ومع استمرار التحولات الإقليمية وتراجع النفوذ الأمريكي المباشر، فإن تحقيق تسوية مستدامة يتطلب إعادة هندسة سياسية جديدة تقوم على دمج الاعتراف المتبادل والمساءلة وضمانات الحماية القانونية ضمن إطار وطني جامع يعيد بناء الثقة ويؤسس لعقد اجتماعي جديد يضمن بقاء سوريا دولة موحدة.

=====

هذه الدراسة صادرة عن مركز شمس للاستشارات والبحوث الاستراتيجية

أعدت الدراسة:

د. رغدة البهي

أستاذ العلوم السياسية المساعد – كلية الاقتصاد والعلوم السياسية – جامعة القاهرة

و

نشوى عبدالنبي

رئيس وحدة اللوجستيات والطاقة بالمركز

قد يهمك