بث تجريبي

اشتباكات حلب .. مواجهة بين رمزية الهوية ومركزية السلطة

تشهد مدينة حلب لحظة دقيقة تعكس حجم التعقيد في المشهد السوري، بعد اندلاع اشتباكات عنيفة في حيي الشيخ مقصود والأشرفية بين قوات تابعة للحكومة الانتقالية من جهة، وعناصر “الأسايش” وقوات من الإدارة الذاتية من جهة أخرى. هذه الاشتباكات جاءت في توقيت بالغ الحساسية بعد الانتخابات النيابية الأخيرة، لتعيد النقاش حول ملامح المرحلة الجديدة: وتوجه سوريا نحو ترسيخ نموذج الدولة المركزية، أم مواجهتها انتكاسة تعيدها إلى منطق الصراع الأهلي.

إن ما حدث في الشيخ مقصود ليس مجرد نزاع أمني محدود، بل أنه انعكاس لجدلية عميقة بين الأمن والهوية. فالحيان يشكلان معًا رمزين تاريخيين للحضور الكردي في حلب، ويضمان شبكة واسعة من المؤسسات المدنية والكوادر النسائية المرتبطة بمشروع “الإدارة الذاتية”. وبالتالي، فإن محاولة المركز فرض سلطته عبر الحصار أو إعادة الانتشار الأمني، فُسرت على أنها رد على كل فكرة "التمثيل الهوياتي" الذي حاولت الإدارة ترسيخه خلال السنوات الماضية.

أما الحكومة الانتقالية، فتنظر إلى هذه الاشتباكات كخطوة ضرورية لإعادة فرض سلطة الدولة على كامل الجغرافيا السورية، وفق رؤية تعتبر أن أي كيان موازٍ داخل المدن الكبرى يُقوّض شرعيتها أمام الداخل والخارج. وهكذا، تحوّل الاشتباك إلى صراع رمزي مزدوج: بين الدولة التي تحاول بناء شرعية جديدة، والمكوّن الكردي الذي يسعى إلى ضمان موقعه داخل المعادلة الوطنية دون ذوبان هويته أو تهميش قضيته.

وبناءً على ما سبق، يسعى هذا التحليل إلى تفكيك أبعاد اشتباكات الشيخ مقصود والأشرفية بوصفها نموذجًا مصغّرًا لتحولات العلاقة بين السلطة المركزية والمجتمعات الطرفية في سوريا ما بعد الحرب، عبر قراءة ميدانية وسياسية وثقافية توضّح اتجاهات الصراع الراهن واحتمالاته المستقبلية.

الاشتباك الميداني:

بدأت الاشتباكات بعد محاولة قوات الحكومة الانتقالية نصب نقاط تفتيش جديدة في مداخل الحيين، ما اعتبرته "الأسايش" تجاوزًا للاتفاقات الأمنية السابقة. تطور الموقف بسرعة إلى تبادل لإطلاق النار استخدمت فيه الأسلحة الخفيفة والمتوسطة، وأسفر عن سقوط ضحايا من الجانبين، قبل أن تتدخل وساطات محلية لاحتواء الوضع.

لكن أهمية الحدث تتجاوز تفاصيل الميدان، إذ مثلت الاشتباكات تحديًا مباشرًا لمعادلة التعايش التي كانت قائمة بين المركز ومناطق النفوذ الكردي. فالحيان يُعدان آخر نقاط الحضور السياسي والعسكري للإدارة الذاتية داخل مدينة خاضعة فعليًا لسيطرة الدولة، ما يجعل أي تصعيد هناك يشكل رسالة مزدوجة، بتثبيت من المركز لحضوره الأمني، وتأكيد من الطرف الكردي على استمرار خصوصيته.

كما تشير التطورات إلى أن الاشتباكات جاءت كرد فعل متبادل على ما بعد الانتخابات النيابية، حيث رأت قوى كردية أن النتائج عكست تهميشًا للتمثيل النسوي والمناطقي، بما في ذلك انتقادات حادة لتقليص مشاركة المرأة في القوائم، وهو ما اعتُبر تراجعًا عن روح التمثيل المتنوع التي وُعد بها السوريون بعد الحرب. ومن ثم، فإن التوتر في حلب كان أيضًا انعكاسًا سياسيًا لخيبة متراكمة من ما يمكن وصفه بـ"الانتقال الناقص".

في المجمل، تبرز اشتباكات "الشيخ مقصود" و"الأشرفية" كدليلٍ على أن إعادة بناء الدولة السورية لن تكون عملية هندسية إدارية، بل مشروعًا تفاوضيًا معقّدًا يتطلب إعادة تعريف العلاقة بين الأمن والهوية والسيادة، وإلّا فإن كل تقدم مؤسسي سيبقى هشًّا أمام انفجار الهامش.

توازن الهويات:

يمثّل الحيان نموذجًا مصغّرًا للتنوّع السوري، فهم يشملا (عرب وأكراد، مسلمون ومسيحيون، رجال ونساء) من خلفيات فكرية متباينة. لذلك، فإن الصراع فيهما لا يمكن فهمه إلا من زاوية التوازن الهوياتي الذي تحاول سوريا الانتقالية إعادة رسمه. ويمكن تحديد ملامح هذا التوازن من خلال خمس زوايا رئيسية:

(١) الزاوية الأمنية: ترى الحكومة الانتقالية أن بقاء التشكيلات المسلحة الكردية داخل المدن يُهدد مفهوم السيادة ويُربك سلطة الأمن الوطني. لذلك تسعى إلى دمجها ضمن هياكلها الرسمية. إلا أن هذا الطرح يواجه رفضًا واسعًا من "الأسايش" التي تعتبر الدمج دون ضمانات سياسية "ذوبانًا قسريًا".

(٢) الزاوية السياسية: تقرأ القوى الكردية التحركات الأخيرة كعودةٍ إلى مركزية القرار من دمشق على حساب مبدأ اللامركزية الذي شكّل أساس أي تفاوض سابق. ومن هنا، فإن الاشتباكات تحمل معنى سياسيًا تحذيريًا أكثر من كونها ميدانية.

(٣) الزاوية الاجتماعية: يُظهر تصاعد الاحتجاجات المدنية في بعض أحياء حلب تضامنًا شعبيًا متباينًا مع الطرفين، لكنه يعكس أيضًا خشية السوريين من عودة دورة العنف بعد أن بدأت ملامح الهدوء النسبي.

(٤) الزاوية النسوية: واجهت الحكومة الانتقالية انتقادات شديدة بسبب تراجع نسبة تمثيل النساء في الانتخابات الأخيرة، وهو ما فسره متابعون على أنه تراجع عن الإرث الذي رسّخته "وحدات حماية المرأة YPJ" في شمال سوريا. وقد أعاد هذا البعد النسوي تسليط الضوء على دور النساء في المقاومة والسياسة، وكيف تُختزل مشاركتهن في الصراع بين الرمزية والمصلحة.

(٥) الزاوية الإقليمية: تتابع القوى الإقليمية هذه الاشتباكات باعتبارها مؤشرًا على مدى تماسك السلطة الانتقالية داخل النظام الجديد.

مآلات محتملة:

تؤكد هذه التطورات أن سوريا لم تدخل بعد مرحلة الاستقرار السياسي الحقيقي، فكل خطوة ميدانية تحمل في طيّاتها اختبارًا لمفهوم الشراكة الوطنية. إن فشل إدماج القوى المحلية في منظومة الدولة يفتح الباب أمام إعادة إنتاج البنية السلطوية القديمة تحت شعارات جديدة.

أما على مستوى القوى الكردية، فإن الخيار الصعب بين الاندماج أو المواجهة سيبقى مطروحًا، خصوصًا مع غياب ضمانات قانونية تكفل مشاركة عادلة في القرار الأمني والإداري وتطمذن كافة المكونات تجاه الحكومة الانتقالية. وبالتالي، فإن التسوية القادمة يجب أن تكون على أساس صيغة مرنة توازن بين وحدة الدولة وخصوصية المكوّنات.

ومن زاوية أخرى، لا يمكن اختزال الموقف الكردي في سوريا في كونه تمرّدًا أو نزعة انفصالية، كما درج الخطاب الرسمي على تصويره، بل هو تعبير عن مطلبٍ سياسي متراكم بالاعتراف والتمثيل. فقد أثبتت تجربة الإدارة الذاتية – رغم تعثرها – قدرة المكوّن الكردي على إدارة مناطق واسعة بأدوات مدنية، وتنظيم إداري، ومشاركة نسائية نادرة في السياق السوري. ومن ثمّ، فإن التعامل مع هذه التجربة بمنطق الإقصاء الأمني لا ينتج استقرارًا، بل يُعيد إنتاج التوترات التي قامت عليها الحرب أساسًا. إن أي مشروع وطني جديد لا يمكن أن يتجاوز الأكراد، لأنهم أصبحوا طرفًا فاعلًا في معادلة القوة والمجتمع، لا مجرد حالة هامشية يمكن احتواؤها.

كما أن الاعتراف السياسي والثقافي بالمكوّن الكردي، وفق صيغة دستورية مرنة، لا يتعارض مع وحدة الدولة بل يعزّزها. فالتنوّع حين يُدار ضمن إطار قانوني عادل، يتحوّل إلى مصدر شرعية لا تهديد لها. إن المطلب الكردي بالمشاركة، سواء عبر الإدارات المحلية أو عبر التمثيل النيابي النسبي، هو أحد المداخل القليلة المتبقية لترميم الثقة بين المركز والأطراف. تجاهل هذا البعد قد يفتح الباب أمام إعادة تدوير الانقسامات القديمة تحت عناوين جديدة، بينما الاعتراف به يمكن أن يقدّم نموذجًا لسوريا جديدة تُبنى على الشراكة لا على الغلبة.

وختامًا، تكشف اشتباكات "الشيخ مقصود" و"الأشرفية" أن الصراع في سوريا الجديدة لم يعد صراع جغرافيا أو سلطة فحسب، بل صراع حول معنى الدولة نفسها، ومدى اعتبارها مشروع مشترك يعترف بتعدد روافده، أو إطار قسري يعيد إنتاج المركز الواحد.  ما يحدد ما إذا كانت سوريا تتجه إلى سلامٍ شامل، أو إلى هدوء معلق فوق هشيم من الرماد.

قد يهمك