بث تجريبي

استقالة بيدرسون: إعلان وفاة المسار السياسي الأممي في سوريا

في الثامن عشر من سبتمبر الجاري أعلن المبعوث الأممي الخاص إلى سوريا "غير بيدرسون" استقالته بعد أكثر من ست سنوات من محاولة التوسط في النزاع السوري. وتأتي هذه الاستقالة في وقت حساس، حيث تشهد سوريا تحولات كبيرة على الصعيدين الداخلي والدولي. فقد تم إقصاء النظام المركزي السابق، وتوزعت السلطة بين مناطق نفوذ متعددة، مما يعكس تحولًا في بنية الدولة السورية.

بينما لاتزال البلاد تعاني من أزمة خانقة، حيث يواجه السكان نقصًا حادًا في الغذاء والمياه والخدمات الأساسية. مما يعمق الشرخ الاجتماعي ويزيد من تعقيد الواقع السياسي. في هذا السياق، تبرز أهمية دور القوى الإقليمية والدولية في تشكيل المشهد السوري الجديد. إلا أن السياسات تجاه سوريا تغيرت إلى حد كبير، حيث انتقل التركيز من الضغط إلى التفاوض مع الواقع القائم. ويعكس هذا التغيير فشل المسار السياسي السابق ويطرح تحديات جديدة أمام المجتمع الدولي في كيفية التعامل مع الوضع السوري المستقبلي.

بناءً على ما سبق..

 يسعى هذا التحليل إلى تقديم رؤية موضوعية للمشهد السوري بعد استقالة بيدرسون، مع التركيز على التحديات الإنسانية والاجتماعية، ودور قسد والإدارة الذاتية الكردية في تقديم نموذج للحكم المحلي المستقر. كما يُبرز الوضع في محافظة السويداء، بما في ذلك مطالبات بعض الدروز بالحكم الذاتي، مما يعكس تفككًا مجتمعيًا وقلقًا من المستقبل. إن معالجة هذه القضايا تتطلب مقاربة شاملة تأخذ بعين الاعتبار حقوق جميع المكونات السورية، وتعزز من فرص بناء سوريا ديمقراطية ومستقرة.

 

تحول السلطة وتوزع النفوذ:

بعد انهيار الدولة المركزية، تميز المشهد السوري بتعدد مناطق النفوذ المستمر طوال فترة الحرب. ففي دمشق، يسعى النظام الانتقالي إلى استعادة السيطرة الرمزية، بينما في الشمال الشرقي تدير "قسد" المناطق بشكل مستقل، مع العمل على تطوير مؤسسات مدنية وخدماتية تعمل على توفير الأمن والخدمات الأساسية. هذه الإدارة أثبتت قدرتها على إدارة مواردها المحلية وتعزيز التعايش بين المكونات المختلفة، ما يضعها كنموذج إيجابي لإدارة محلية مستقلة.

بينما مازالت التبعية الواضحة للنفوذ التركي سائدة في المناطق الخاضعة للحكومة الانتقالية المدعومة تركيًا، مع تركيز السلطة على فصائل محددة دون تطوير مؤسسات مستقرة تخدم السكان بشكل متوازن. ما يخلق تفاوتًا بين مناطق النفوذ، حيث تظهر قسد كطرف قادر على تقديم استقرار نسبي وخدمات أفضل، ما يعزز مصداقيتها أمام السكان المحليين والدوليين.

لكن من جهة أخرى، جعلت التعددية الميدانية للسلطة من التوازن السياسي هشًا، إذ تفتقر بعض المناطق إلى أي سلطة مركزية فعالة. فضعف التنسيق بين المناطق يعرقل جهود إعادة الإعمار ويؤثر على استقرار المدنيين، بينما يتجه البعض للبحث عن نموذج إداري قادر على الحد من الفوضى وتقديم خدمات مستمرة.

بالتالي، فإن القوى الإقليمية والدولية تلعب دورًا محوريًا في هذا المشهد، حيث تدعم تركيا الحكومة الانتقالية والعناصر الموالية لها، أما الولايات المتحدة فتدعم قسد، بينما النفوذ الإيراني شبه غائب بعد سقوط "الأسد"، وتحاول تل أبيب التوغل باستمرار في الجنوب تحت ذريعة دعم الدروز. هذا التوزيع يعكس المنافسة على النفوذ الإقليمي والدولي، ويبرز قدرة "قسد" في الحفاظ على استقلاليتها النسبية وتحقيق استقرار محلي في ظل التعقيدات السياسية.

الأزمة الإنسانية والتفكك المجتمعي:

جاءت استقالة "بيدرسون" مع بروز أزمة إنسانية خانقة في سوريا، حيث يعاني السكان من نقص حاد في الغذاء والمياه والخدمات الأساسية. في الشمال الشرقي، حيث تدير قسد والإدارة الذاتية الكردية، تُظهر التجربة المحلية قدرة على تقديم الخدمات الأساسية، رغم التحديات. أما في محافظة السويداء، فقد تصاعدت المطالبات بالحكم الذاتي من قبل بعض الدروز، مما يعكس تفككًا مجتمعيًا وقلقًا من المستقبل. ويمكن توضيح تلك التحديات في ضوء ما يلي:

(1) نقص الغذاء والخدمات الأساسية: حيث تعاني معظم المناطق من نقص حاد في الغذاء والمياه والخدمات الأساسية، مما يزيد من معاناة السكان، خاصًة مع استمرار المرحلة الانتقالية التي أُعلن أنها قد تصل لخمس سنوات، وفي ظل استمرار التدخلات التركية والتوغل الإسرائيلي.

(2) النزوح الداخلي والخارجي: يؤدي النزاع إلى تزايد عمليات النزوح لأعداد كبيرة من السكان في مناطق النزاع والقلق، مما يفاقم الأزمة الإنسانية.

فقد استمرت الحكومة الانتقالية على ذات النهج القمعي لحكومة "الأسد"، بدءًا من قمع العلويين تحت ذريعة محاربة فلول النظام وما تبعه من جرائم في الساحل السوري، وحتى التعدي على حقوق المكونات وعدم شمولهم بصورة حقيقية في العملية السياسية الشكلية الجارية.

(3) التوترات الطائفية والعرقية: فقد تصاعدت التوترات بين مختلف المكونات بالمجتمع السوري، بما في ذلك الدروز في السويداء، مما يهدد الوحدة الوطنية.

(4) عمق تدخلات بعض القوى الإقليمية لمصالح خاصة: تدخلت قوى إقليمية في الملف السوري بدرجة عميقة، مثل تركيا وإسرائيل، مما يفاقم تعقيد الوضع ويؤثر على الاستقرار والوحدة وهوية سوريا.

(5) ضعف الاقتصاد: تدهور الاقتصاد المحلي بسبب النزاع، مما يزيد من معاناة السكان ويؤثر على قدرتهم على الحصول على احتياجاتهم الأساسية.

فشل المسار الأممي:

أدت استقالة "بيدرسون" إلى بروز تساؤلات عديدة حول فاعلية المسار السياسي الأممي في سوريا. حيث تُظهر التطورات الأخيرة تحولًا في السياسة الدولية، مع تركيز القوى الكبرى على التعامل مع الواقع القائم، بما في ذلك دعم قسد والإدارة الذاتية الكردية، في ظل استمرار موالاة الحكومة الانتقالية لتركيا. وتشير هذه التغيرات إلى تحول في الاستراتيجية الدولية، حيث يُنظر إلى قسد والإدارة الذاتية الكردية كطرف فاعل يمكن التعامل معه في إطار الحلول السياسية المستقبلية.

فقد أظهرت الاستقالة تراجعًا في المسار السياسي الأممي، حيث أصبح يُنظر إلى دور الأمم المتحدة في سوريا على أنه غير فاعل وغير قادر على التأثير في مجريات الأحداث. هذا التراجع يعكس عجز المجتمع الدولي عن إيجاد حل سياسي شامل، مما يترك فراغًا سياسيًا يُملأ من قبل قوى محلية وإقليمية.

وفي ظل هذا الواقع المعقد، تبرز الحاجة إلى مسار سياسي جديد يأخذ بعين الاعتبار التحولات على الأرض، بما في ذلك الدور المتزايد لـ "قوات سوريا الديمقراطية" والإدارة الذاتية الكردية. فيجب أن يكون هذا المسار شاملًا ويشمل جميع المكونات السورية، بما في ذلك الكرد والدروز والمسيحيين، لضمان تحقيق استقرار دائم وبناء دولة ديمقراطية تعددية

إجمالًا، يمكن القول أن الوضع الحالي في سوريا يظهر تعقيدًا سياسيًا وإنسانيًا يتطلب مقاربة شاملة تأخذ بعين الاعتبار حقوق جميع المكونات السورية، بما في ذلك الكرد والعرب والدروز والمسيحيين.

وختامًا، فإن ثقة المجتمع تتحقق عبر إشراك جميع المكونات في القرار لبناء الأمة بأيدي أبنائها معًا. وأخيرًا، ما يقترن بشروط سياسية واضحة تحفز الإصلاح والتنمية ولا تفرض شروطًا تقوض الحقوق.

قد يهمك