تحت عنوان عريض "الفن والثقافة بين السلم والحرب" التأمت في العاصمة المصرية القاهرة ندوة فكرية عقدتها أكاديمية جنولوجيا الشرق الأوسط وبالتعاون مع مكتبة ودار فضاءات أم الدنيا للنشر، حاضرت خلالها أربع باحثات من أربع أقطار عربية (مصر، السودان، اليمن، فلسطين) ناقشن خلالها قضايا الارتباط العضوي بين الفن والثقافة بواقع السلم والحرب من خلال تجارب ذاتية عبّرت عن النتاج المتحور والمنسجم والمتراكم للفنون والثقافات في أزمنة الحرب وأزمنة السلم، والإنتاجات التي تصطبغ بلون - وتتشبع بروح المرحلة.
وأدارت الندوة الكاتبة الصحفية نسرين معتوق. وشاركت فيها كل من الباحثة الدكتورة سحر حسن أحمد، والمستشارة في شؤون النوع والتنمية منال عبدالحليم، والإعلامية اليمينة ماجدة طالب، والباحثة والناشطة الفلسطينية نيفين عادل.

نسرين معتوق
وفي افتتاح الندوة تحدثت الكاتبة نسرين معتوق عن الظروف العالمية شديدة التعقيد التي تنحت في الجغرافيا وترسم ملامح التاريخ. حيث تتعالى الأصوات، وتتعدد الروايات، وتتداعى الفوضى هنا والكوارث هناك. ليظل الفن ذاكرة حية تأبى النسيان، يؤدي دوره كأداة للتعبير عن المعاناة زمنَ الحرب، وجسرًا للحوار والتفاهم زمنَ السلم، يحطم جدران العزلة ويبني بركامها جسور التواصل. فيما تنتصب الثقافات كأبراج تحمي الهويات البشرية وكقلاع تحفظ كنوز الحضارة الإنسانية.

د. سحر حسن أحمد
الثقافة والفن وتأثيرهما على الهوية الوطنية في الوطن العربي
في ورقتها الثرية والمتشعبة ركزت الدكتورة سحر حسن أحمد على إبراز أهمية الثقافة والفن كركائز أساسية في تشكيل وتعزيز الهوية الوطنية في منطقة الشرق الأوسط التي تزخر بتنوع ثقافي وحضاري عميق. منوّهة بأن الثقافة ليست مجرد تراث موروث؛ بل هي حياة نابضة تتجدد باستمرار، وبأن الفن ليس مجرد تعبير جمالي؛ بل هو أداة تواصل اجتماعي وسياسي وروحي، تُسهم في صياغة الوعي الجمعي، وتعزيز الانتماء الوطني.
كما أشارت الدكتورة سحر إلى أن الثقافة تلعب دور "الذاكرة الجمعية" للأمة، حيث تحفظ تجاربها التاريخية، وانتصاراتها وانكساراتها، وأحلامها وآلامها. ومن خلال اللغة والأمثال الشعبية، والطقوس، والحكايات، تنتقل هذه الذاكرة من جيل إلى جيل، بما يضمن استمرارية الشعور بالانتماء. كما أن الفن، بوصفه تعبيرًا عن الوجدان الجمعي، يُعدّ التعبير الأكثر صدقًا عن وجدان الشعوب، إذ يعكس تطلعات ومخاوف الأمة، ويجسّد رؤيتها لذاتها وللعالم. فاللوحة التشكيلية، والقصيدة، والأغنية، والمسرحية، والفيلم السينمائي، كلها نصوص ثقافية تحمل في طياتها رموز الهوية.
كذلك تطرقت إلى التنوع الثقافي الثري والإنتاج الفني الغني في سوريا "نموذجًا". مشيرة إلى أن ذلك يعكس التاريخ الطويل الممتد إلى عصور ما قبل الكتابة والتدوين، والتنوع العرقي والديني. كما أسهم الفن السوري التشكيلي والمسرحي والموسيقي إلى السينما والدراما في تشكيل هوية وطنية جامعة، تُبرز التعددية كمصدر للقوة والجمال لا للانقسام أو الصدام.

الناشطة والمستشارة منال عبدالحليم
الحرب تلتهم الفنون وتشوّه الثقافة
الناشطة والمستشارة منال عبدالحليم كان لوقع سردها مذاق مختلف؛ مذاق المرارة المشوبة بالألم والأسى. حيث حكت عن قسوة المرحلة التي مازالت تعصف اليوم بالسودان مذ حلت بمحطتها قاطرة الربيع العربي. وكيف انقلب الربيع إلى شتاء حين حلت البندقية محل القصيدة، وغدرت الذكورية المتوحشة بـ"كنداكة" البتول.
وبدلًا من الدوبيت والمسدار والمرابيع والدارمي والزهيري (ألوان شعرية سودانية) التي انتعشت مع سقوط نظام البشير وتحرر الشباب على مدار أربع سنوات من 2019 إلى 2023؛ ساد خطاب الكراهية والتحريض العنصري حين هوت البلد في بئر الاقتتال الأهلي والحرب بالوكالة. وصار الواقع أقسى من أن يوصف أو يحكى عنه في ظل تعتيم وتكميم وإرهاب غير مسبوق، ورواج غير معقول للتشدد والتطرف.
واقع شرّحته الناشطة والمستشارة منال عبدالحليم وحكته بأدق تفاصيله الموجعة. ثم قدمت وصفتها للعلاج والخلاص، مؤكدة على ضرورة القضاء على خطاب الكراهية بعد أن تضع الحرب أوزارها، وغلق المنابر الإعلامية المحرّضة على الكراهية، وتجريم العنصرية والتعصب بالدستور والقانون. بالإضافة إلى إفساح المجال من جديد للمجتمع المدني ليؤدي دوره "المساعد" إلى جانب الدولة التي يجب أن تضطلع بالدور "الأساس" لمحو آثار الحرب، وتنحية القوى المسلحة عن فضاء العمل الوطني، وفتح صفحة جديدة من السلام والوئام. صفحة عنوانها إرساء ثقافة التسامح والتصالح، وانفتاح كل السودانيين على ثقافاتهم المحلية المتقاربة والمتباينة، وإطلاق العنان للفنون تطبب الجراح وتجبر ما انكسر.

ماجدة طالب
الثقافة والفنون.. مساحات للمقاومة والتعافي
ثم على أجنحة الأمل حلّقت الصحفية والإعلامية اليمنية ماجدة طالب. أطروحتها عن الصراع بين الفرقاء المتنافرين، وعن المقاومة الثقافية والفنية المتحدة في وجه البنادق والرايات؛ منحت الندوة بعدًا آخر. حيث أشارت إلى ما فعلته الحرب والصراعات بالنسيج الاجتماعي اليمني الذي تمزق وتهلهل. كما أشارت إلى تآكل دور الثقافة والفنون مع دوي القنابل وأزيز الرصاص. لكنها لفتت إلى المقاومة الثقافية والفنية التي تبرعمت وأزهرت رغم القحط السياسي والمحْل الاجتماعي لدعم الصمود الإنسان اليمني الذي بقي متشبثًا بأرضه وصائنًا لنقائه، ولحماية الذاكرة وإعادة إنتاج المعنى من خلال استثمار الهوية اليمينة العريقة بأزيائها وموسيقاها وغنائها.
كذلك نوهت ماجدة طالب بحضور الثقافة اليمنية بوصفها هوية تاريخية قديمة/جديدة ثرية. ثقافة ماتزال صالحة لتكون قاعدة يبنى عليها صرح التحرر والاستقلال والتوحد. كما حدث صعود ملحوظ لفنون الكتابة الأدبية كالرواية والفنون التشكيلية كالرسم والتصوير. بالإضافة إلى السينما المستقلة والوثائقيات. وأكدت على أن الفنون اليمنية التي خسرت الكثير خلال الحرب الأخيرة ابتكرت ألوانًا جديدة أسمتها "فنون المقاومة" أو "مقاومة فنية". فنون تمجد السلام والعودة والتآخي وتعمل على العبور باليمنيين إلى بر الاستقرار.

نيفين عادل عبدالعال
الثقافة والفن: درع وقاية ونصل حربة زمن الحرب والسلم
الأطروحة الرابعة قدمتها الباحثة والناشطة نيفين عادل عبدالعال من فلسطين. حيث ذكرت أن الثقافة والفن في فلسطين من أهم الأسلحة المعنوية التي يمتشقها الفلسطيني خلال صراعه مع الاحتلال، وأداتين أساسيتين للحفاظ على الهوية الوطنية في وجه محاولات الطمس والتشويه. كما أشارت إلى أن الثقافة الفلسطينية رغم كونها جزءًا أصيلًا من الثقافة العربية، إلا أن هويتها الوطنية تمايزت عن بقية الهويات الوطنية للدول العربية بسبب الاحتلال الذي طال ليله وتراخت سدوله وتأخر إصباحه.
وأكدت نيفين عادل عبدالعال أن الفن الفلسطيني والثقافة الفلسطينية شكّلا فضاءًا رحبًا وغنيًا للمقاومة، وفي الوقت نفسه وسيلة حياة ونبراس أمل ومشجب إنسانية، وسط ظروف الحرب والاحتلال. وبين فترات السلم النسبي ومراحل التصعيد العسكري، يتغير شكل التعبير الثقافي لكن جوهره يبقى مرتبطًا بالتحرر والكرامة والهوية.
وبحسب الباحثة الفلسطينية فقد أعادت الثقافة الجماعية والتراث الشعبي والفنون الشعبية والتراث والعادات واللباس والموسيقى والإعلام الثقافي صياغة الهوية الوطنية الفلسطينية، ورسّخت جذور الانتماء في وجدان كل فلسطيني خصوصًا وجدان الأجيال الجديدة التي لم تعرف قسوة التهجير أو مرارة النزوح. أما الفن الفلسطيني، فقد كان له الدور الأهم في التعبير عن الحق والاحتجاج على العدوان. كما أدى دورًا جوهريًا في التوثيق والأرشفة، وساهم بدور كبير في نقل الصدمة عبر الأجيال، والمحافظة على الذاكرة حيةً بعد أن رسخها بصريًا وصوتيًا وكتابيًا، وصار شاهدًا على الجرح، وحارسًا للذاكرة، وجسرًا نحو الحرية.

نوجين يوسف
الثقافة الكردية والفن الكردي: حضور في العمق
في مداخلة لها، أشارت الباحثة والناشطة السورية الكردية نوجين يوسف إلى غنى الثقافة السورية وثرائها وتنوعها لافتة إلى أن مرجع ذلك: التنوع الاثني، وتعايش المكونات، وتلاقح ثقافاتها الذاتية، فضلًا عن ثراء الفنون السورية بسبب تنوع الأذواق، وتعدد الهويات وعراقتها الضاربة جذورها في عمق التاريخ. وأن الفن باعتباره أرشيفًا موازيًا للشعوب كان نِعم صديق للأمة الكردية.
كما لفتت نوجين يوسف إلى أن الدولة السورية منذ تأسيسها قبل 100 عام، وحتى وقت قريب حُرم المكون الكردي من أبسط حقوقه الثقافية. حتى أن الكثير من الكرد في حلب وحماة وحمص واللاذقية ودمشق وكل المحافظات السورية نسوا كرديتهم إلى حد ما، بسبب الممارسات السياسية العنصرية، وأن قمع الحريات أدى إلى طمس الهويات. لكن الكردي اليوم يشعر باسترداد بعض حقوقه، وأن بإمكانه ممارسة فنونه ومعايشة ثقافته دون قيود.