بث تجريبي

الحداثة الديمقراطية وفلسفة التنوع في الفكر السوداني المعاصر

يناقش هذا البحث العلاقة الجدلية بين الحداثة الديمقراطية وفلسفة التنوع في سياق الفكر السوداني المعاصر، بوصفها إحدى أهم الإشكاليات التي تواجه المجتمعات متعددة الثقافات في زمن التحولات العالمية. ينطلق هذا البحث من فرضية أن تجاوز الأزمة الأخلاقية والروحية للحداثة الغربية يستدعي تأسيس حداثة بديلة، قوامها الحرية والأخلاق والمشاركة والتنوع، وهي المبادئ التي تشكّل جوهر الحداثة الديمقراطية كما صاغها القائد عبد الله أوجلان.

ويركز هذا البحث على تحليل المفاهيم الكلية لهذه الحداثة في ضوء التجربة الفكرية السودانية، التي جعلت من الوحدة في التنوع محورًا لهويةٍ وطنية تتجاوز الانقسامات العرقية والثقافية، وتتجه أيضًا نحو رؤية إنسانية كونية.

إذ يستعرض البحث من خلال المنهج التحليلي المقارن، إسهامات مفكرين سودانيين بارزين مثل محمد المهدي بشرى وسليمان يحيى محمد وغيرهم، إلى جانب المقاربة الأخلاقية المقدمة في كتاب وحدتنا تصنع السلام (البصري، 2025م)، لبيان تلاقي الرؤية السودانية مع الفلسفة الكونية الحديثة في بناء نموذج إنساني يقوم على الاعتراف المتبادل والمسؤولية الأخلاقية.

إذ يخلص البحث إلى أن الحداثة الديمقراطية تمثل أفقًا فلسفيًا عالميًا يمكن أن يجد في التجربة السودانية أنموذجًا واقعيًا لفلسفة التنوع بوصفه أساس الوحدة والمواطنة والحرية والعدالة.

 

المقدمة

تُعدّ قضية العلاقة بين الحداثة والأخلاق من أبرز التحديات التي واجهت الفكر الإنساني المعاصر، إذ كشفت التجربة الغربية عن أزمةٍ في روح الحداثة ذاتها، حيث تحوّلت الحرية إلى أداةٍ للإنتاج، والمعرفة إلى وسيلةٍ للهيمنة، فغاب البعد الأخلاقي الذي يمنح الإنسان معنى وجوده. فمن هذا المنطلق، برزت الحاجة إلى ما يُعرف بـالحداثة الديمقراطية بوصفها مشروعًا فلسفيًا بديلًا يسعى إلى إعادة بناء العلاقة بين الإنسان والمجتمع والطبيعة على أساس الأخلاق والتنوع والمشاركة.

أما في السياق السوداني، فتشكّل فلسفة التنوع أحد أهم المداخل الجوهرية لفهم تطور الفكر الوطني والإنساني؛ إذ انشغل المفكرون السودانيون بإشكالية الهوية والتعدد الثقافي، معتبرين أن الوحدة الحقيقية لا تقوم على الإقصاء بل على الاعتراف المتبادل. فكما يرى محمد المهدي بشرى وسليمان يحيى محمد، أن الثقافة السودانية ثمرة تفاعلٍ تاريخي بين العربي والإفريقي، وبين المحلي والعالمي، وهو ما يمنحها قابلية خاصة للتماهي مع فلسفة الحداثة الديمقراطية.

كذلك شهد الفكر السوداني المعاصر منذ مطلع الألفية الثالثة جدلاً واسعاً حول مفهوم الحداثة وعلاقته بالتحول الديمقراطي والهوية الوطنية، خاصة بعد ثورة ديسمبر 2018م التي أعادت إلى الواجهة أسئلة التنوع والتعدد والمواطنة. فقد كشف هذا الحراك التاريخي عن حاجة ملحّة إلى أنموذج فكري جديد يزاوج بين قيم الحداثة وخصوصية التجربة المحلية، ويستوعب في الوقت نفسه الإرث الروحي والإنساني والثقافي للمجتمع السوداني.

بالتالي وفي هذا السياق، تبرز الحداثة الديمقراطية بوصفها أفقًا فلسفيًا يتجاوز الثنائية التقليدية بين الحداثة الغربية والأصالة المحلية، لتؤسس لرؤية كونية أكثر إنسانية وانفتاحًا على التعدد. فالسودان، بتنوعه الإثني والثقافي واللغوي، يشكّل مختبرًا فريدًا يمكن من خلاله اختبار صلاحية هذا الأنموذج ، لا سيما في ظل التحولات السياسية والاجتماعية الحالية التي أعادت تعريف مفاهيم الدولة والمجتمع والهوية.

عليه ، فإن تناول العلاقة بين الحداثة الديمقراطية وفلسفة التنوع ليس ترفًا فكريًا، بل ضرورة حضارية لإنقاذ المجتمعات المتعددة من خطر الانقسام، وإعادة تأسيس العلاقة بين الحرية والأخلاق في سياق وطني وإنساني متكامل.

فمن هنا، يسعى هذا البحث إلى تحليل الأسس الفلسفية والفكرية التي تربط الحداثة الديمقراطية بفلسفة التنوع في الفكر السوداني المعاصر، من خلال مقاربةٍ تجمع بين المنهج التحليلي المقارن والبعد القيمي الأخلاقي(محمد، 2025 م ). كما يهدف إلى الكشف عن إمكانية بناء أنموذج فلسفي سوداني يتفاعل مع الفكر الكوني، ويعيد تعريف مفاهيم الوحدة والمواطنة والسلام في ضوء القيم الإنسانية العالمية.

أما المنهج المعتمد في هذا البحث فهو المنهج التحليلي المقارن، القائم على قراءة المفاهيم الكبرى للحداثة الديمقراطية في ضوء الفكر السوداني المعاصر، مع تحليل مقاربات مفكرين سودانيين تناولوا فلسفة التنوع والوحدة الوطنية، ومقارنتها بالإسهامات العالمية التي قدّمها أوجلان وهابرماس وليفيناس وغيرهم.

المفاهيم والمصطلحات الأساسية

يقوم البحث هنا بعرض المفاهيم والمصطلحات الأساسية بوصفها المدخل لفهم محتواه :

1. الحداثة الديمقراطية :

يُقصد بها، في هذا البحث ، الأنموذج الفلسفي والاجتماعي الذي يقدّم بديلًا للحداثة الغربية المادية، ويقوم على قيم الحرية والأخلاق والتنوّع والمشاركة المجتمعية. إذ هي مفهوم صاغه القائد عبد الله أوجلان في مانيفستو الحضارة الديمقراطية (2017)، إذ دعا إلى تجاوز نموذج الدولة القومية نحو المجتمع الأخلاقي الإيكولوجي الذي تكون فيه المرأة والمجتمع والطبيعة في مركز الفعل التاريخي.

فالحداثة الديمقراطية ليست  نظامًا سياسيًا فقط ، بل هي رؤية كونية لإعادة التوازن بين الإنسان والطبيعة والمجتمع، وتحرير المعرفة من هيمنة السوق والآلة.

2. فلسفة التنوع :

إنها تُشير إلى الموقف الفلسفي الذي يرى في الاختلاف مبدأً وجوديًا وأخلاقيًا، لا عائقًا أمام الوحدة. فالتنوع عند كل من ليفيناس ودريدا وتايلور هو شرط للهوية الإنسانية ذاتها، لأنه يفتح مجالًا للاعتراف المتبادل بين الذوات. حيث تُعبّر فلسفة التنوع في السياق السوداني عن وعي ثقافي يسعى إلى بناء وحدة وطنية تقوم على التعدد العرقي والثقافي والديني. ذلك كما في أعمال محمد المهدي بشرى وسليمان يحيى محمد.

3. الفكر السوداني المعاصر :

يُراد به في هذا البحث مجمل الإسهامات الفكرية التي صدرت عن مفكرين وباحثين سودانيين منذ منتصف القرن العشرين حتى اليوم، في مجالات الفلسفة والثقافة والسياسة والفن واللغة وغيرها ، والتي انشغلت بأسئلة الهوية والحداثة والوحدة الوطنية. ويتميّز هذا الفكر بانفتاحه على الفلسفات العالمية مع حفاظه على خصوصيته الحضارية القائمة على التفاعل بين العربي والإفريقي، والإسلامي والمسيحي، والمحلي والعالمي والإنساني.

4. الوحدة في التنوع :

يقصد بها في هذا البحث المفهوم المركزي في الفكر السوداني الحديث، الذي يعني أن الوحدة الوطنية لا تُبنى على الإقصاء أو الذوبان الثقافي، بل على الاعتراف المتبادل والاحترام المتكافئ بين المكوّنات المختلفة. ويستمد هذا المفهوم جذوره من الفلسفة الأخلاقية ومن التجربة التاريخية للسودان بوصفه مجتمعًا متعدّد الثقافات والديانات.

5 . الأخلاق الكونية :

يقصد بها في هذا البحث المنظومة القيمية التي تتجاوز الحدود القومية والدينية، لتؤسس لعلاقات إنسانية قائمة على المسؤولية والاحترام والعدالة. فهي عند طه عبد الرحمن وليفيناس جوهر الحداثة الحقيقية، لأن الأخلاق هي ما يمنح الحرية معناها الإنساني. وفي ضوء الحداثة الديمقراطية، تصبح الأخلاق الكونية الإطار المرجعي الذي يُعيد تعريف الحرية والمواطنة والسلام.

6. المجتمع الأخلاقي

يقصد به في هذا البحث المفهومٌ الفلسفي المحوري عند أوجلان،حينما يصف المجتمع الذي تُدار فيه العلاقات الإنسانية وفق قيم العدالة والمسؤولية والاحترام المتبادل، لا وفق القوانين المجردة أو المصالح الاقتصادية.

هذا المفهوم قريب من مفهوم “المجتمع التواصلي” عند هابرماس، حيث تكون الأخلاق هي جوهر الفعل السياسي، ويُنظر إلى الإنسان باعتباره كائنًا مسؤولًا عن بناء سلامٍ دائم عبر وعيه الأخلاقي لا عبر سلطة الدولة.

7. الذات القادرة

إنه المصطلح الذي استنبطه بول ريكو ليصف الإنسان الذي يجمع بين الحرية والمسؤولية، أي القادر على الفعل وعلى الاعتراف بالآخر في آنٍ واحد.

تُستخدم “الذات القادرة” في هذا البحث لتأكيد أنّ الإنسان هو مركز الفعل التاريخي، لا الدولة ولا السوق، وأنّ التحرر الحقيقي هو تحرر الذات من العنف الرمزي والخضوع القسري.

 

8. الكونية (الإنسانية المشتركة)

تُشير إلى الرؤية التي ترى في الإنسان قيمة عليا تتجاوز الحدود الجغرافية والثقافية، دون إلغاء الخصوصيات المحلية.

في ضوء الحداثة الديمقراطية، تصبح الكونية مشروعًا أخلاقيًا لا سياسيًا فقط، يقوم على الحوار والتعارف والتكامل بين الثقافات، لا على فرض أنموذجٍ أحادي للعالم (سن، 2009؛ ليفيناس، 1998).

أما في الفكر السوداني، فتجد الكونية جذورها في التصوف والوعي الإنساني الجمعي الذي يرى في كل اختلافٍ وجهًا من وجوه الحقيقة.

9. الجمال الأخلاقي (الفن والمرأة والطبيعة)

هو عبارة عن مفهوم يجمع بين الجمال والفعل الأخلاقي، حيث يتحول الفن والأنوثة والطبيعة إلى رموز للانسجام والتعدد في المجتمع.

أما في الفكر الأوجلاني، تُعد المرأة مركزا  للثّورة الأخلاقية والجمالية ضد أنظمة السيطرة الذكورية والرأسمالية، بينما في الثقافة السودانية تمثل المرأة الذاكرة الحية للجماعة وصوت الرحمة والحياة. سيما وأنها بوجودها الفاعل تعد مقياسا لمدى تقدم أو تأخر المجتمعات عموماً (سليمان يحيى محمد ، 2017 ).

الإطار النظري والمنهجي

يهتم البحث هنا باستعراض الأطر النظرية الاساسية والأفكار المنهجية المتعلقة بـالحداثة الديمقراطية وفلسفة التنوع في الفكر السوداني لبيان نقاط التلاقي التي تجيب على فرضية هذا البحث بما يحقق أهدافه ويوضح أهميته في عالمنا المعاصر.

 الفكر ما بعد القومي ونحو مجتمع أخلاقي كوني

أفرزت التحولات الكبرى في الفكر الإنساني خلال القرن العشرين ما يمكن تسميته بالفكر ما بعد القومي، وهو مسار فلسفي يسعى إلى تجاوز حدود الدولة القومية بوصفها المركز للتنظيم السياسي والاجتماعي، نحو تصورٍ أوسع للانتماء الإنساني يقوم على الأخلاق والتواصل والتعددية الثقافية.

فقد كشفت التجارب التاريخية أن الدولة القومية، التي نشأت في أوروبا بعد صلح وستفاليا (1648م)، حققت درجة عالية من التنظيم لكنها في الوقت نفسه أسست للعنف البنيوي عبر مفاهيم السيادة والهوية الأحادية والإقصاء (Wallerstein, 2004).ومن ثمّ برزت الحاجة إلى تصور جديد للانتماء يقوم على المواطنة الكونية والضمير الإنساني المشترك، وهو ما عبّر عنه الفيلسوف بول ريكور في مفهومه عن الذات القادرة (capable self)، أي الإنسان الذي يعرّف ذاته بقدرته على الفعل والمسؤولية تجاه الآخر (Ricœur, 1992). هنا نشير إلى ما قاله سليمان يحيى محمد في حديثه عن الذات والهوية في معرفة من نحن وكيف نرى ذواتنا، وكيف نعترف بالآخر (ندوة الهوية الثقافية السودانية بالقاهرة ، أكتوبر 2025 ).

لقد شكّل هذا التحول أحد الأسس التي اعتمدت عليها الحداثة الديمقراطية في صوغ رؤيتها. فعبد الله أوجلان لا يرى في الدولة القومية سوى “آلة تنظيمٍ للعنف المشرعن”، لأنها تختزل المجتمع في مؤسسات السلطة وتُقصي القيم الأخلاقية عن الفعل السياسي(أوجلان، 2017 ).

وفي مقابل ذلك، يقترح أوجلان أنموذجًا جديدًا للكونفدرالية الديمقراطية، وهو نظام اجتماعي يقوم على اللامركزية والمجتمع الأخلاقي بدلا عن الدولة المتسلطة. إنّه نظام ينقل مركز الفعل من الدولة إلى المجتمع، ومن السلطة إلى القيمة الأخلاقية .

بهذا المعنى، فإنّ الحداثة الديمقراطية لا تنفي الدولة كليًا، لكنها تسعى إلى تفكيك احتكارها للحقيقة والهوية، وإعادة بناء العلاقة بين الإنسان والمجتمع على قاعدةٍ من المشاركة والضمير الجمعي. هذا المفهوم قد عبر عنه يوسف آدم في ندوته  المدخل الصحيح للتأسيس الدستوري السليم  في السودان( القاهرة ،أغسطس 2025 م ).

تتلاقى هذه الرؤية مع أطروحات فلسفية معاصرة لعدد من المفكرين مثل نانسي فريزر وأمارتيا سِن وتشارلز تايلور.

فقد دعت فريزر (Fraser, 2008) إلى بناء عدالة كونية متعددة الأبعاد، تقوم على الاعتراف والتمثيل وإعادة التوزيع، مؤكدةً أن العدالة لا يمكن تحقيقها داخل حدود الدولة القومية وحدها، بل من خلال منظوماتٍ تشاركيةٍ عابرةٍ للحدود. أما أمارتيا سن (Sen, 2009) فيرى أن الكونية لا تتعارض مع الخصوصية، بل تتطلبها، لأنّ قدرة الإنسان على العيش بحرية مرهونة بقدرته على احترام حرية الآخرين في اختلافهم. ويضيف تايلور (Taylor, 1999) أن الاعتراف المتبادل بين الثقافات هو أساس الكرامة الإنسانية، وأنّ بناء مجتمعٍ أخلاقيٍّ عالمي لا يمكن أن يتم دون الحوار بين القيم المتعددة.

هذه الفلسفات، على تباينها، تلتقي عند فكرة جوهرية هي أنّ الإنسان كائن حواري بطبعه، وأنّ هويته تتشكل من خلال التفاعل مع الآخر لا من خلال نفيه. وهنا يبرز القرب العميق بين هذه الرؤى والفكر الأخلاقي العربي الإسلامي كما بلوره طه عبد الرحمن (2006)، الذي يرى أنّ الكونية الحقة لا تتحقق إلا من داخل التجربة الأخلاقية للذات، لا عبر الهيمنة على الآخرين.

إنّ ما بعد القومية لا يعني إلغاء الانتماءات المحلية أو الثقافية، بل تحريرها من منطق الإقصاء والسيطرة، بحيث تصبح الخصوصية الثقافية جسرًا نحو الكونية لا حاجزًا دونها. وهذا بالضبط ما تؤكده التجربة السودانية في مفهومها للوحدة في التنوع وفلسفتها ، حيث تتعايش الثقافات والأديان واللغات ضمن نسيجٍ مجتمعي واحدٍ دون أن يُطلب منها الذوبان في مركزٍ واحدٍ للهوية.

ومن هذا المنظور، يمكن القول إنّ الفكر السوداني سبق في كثيرٍ من وجوهه بعض تنظيرات الفكر ما بعد القومي، حين جعل من التنوّع مبدأ للوحدة ومن الاختلاف شرطًا للأخلاق، وهو ما عبّر عنه محمد المهدي بشرى (2010) في حديثه عن التفاعل الخلاق بين مكوّنات الثقافة السودانية بوصفه أساس التوازن الاجتماعي.

وبذلك تصبح الحداثة الديمقراطية في جوهرها امتدادًا لهذا الفكر الإنساني ما بعد القومي، لأنها تنشد بناء مجتمعٍ عالميٍّ يقوم على أخلاق المسؤولية المتبادلة، لا على احتكار الحقيقة أو تعريف الهوية بالدم أو الجغرافيا.

وإذا كانت الحداثة الغربية قد جعلت من الدولة القومية أداةً لتوحيد الإنسان عبر القوة، فإنّ الحداثة الديمقراطية تسعى إلى توحيد العالم عبر الأخلاق، حيث تصبح الكرامة الإنسانية هي الجنسية الكونية الجديدة.

الحداثة الديمقراطية وفلسفة التنوع

نتناول هنا قراءة المفاهيم الكبرى للحداثة الديمقراطية في ضوء الفكر السوداني المعاصر، مع تحليل مقاربات مفكرين سودانيين تناولوا فلسفة التنوع والوحدة الوطنية، ومقارنتها بالإسهامات العالمية التي قدّمها أوجلان وهابرماس وليفيناس وغيرهم.

أولاً: نشأة مفهوم الحداثة الديمقراطية وتطوره الفلسفي

انبثقت فكرة الحداثة الديمقراطية من الحاجة إلى تجاوز المأزق التاريخي للحداثة الغربية بعد الحربين العالميتين وصعود النزعة الاستهلاكية (Wallerstein, 2004). وقد دعا بوكتشين (Bookchin, 1991) إلى أنموذجٍ بيئيٍّ تحرريٍّ يربط بين الديمقراطية المحلية والوعي الإنساني عموماً.

أما في الشرق الأوسط، فقد مثّلت تحولات القائد عبد الله أوجلان أنموذجًا لميلاد فكرٍ بديلٍ يتجاوز الدولة القومية إلى المجتمع الأخلاقي، حيث صاغ في مانيفستو الحضارة الديمقراطية رؤية فلسفية تضع المرأة والمجتمع والطبيعة في مركز الفعل التاريخي (أوجلان، 2017).

أما في الفكر السوداني، فقد اشتغل كل من محمد المهدي بشرى (2010) وسليمان يحيى محمد (2016) على إعادة تعريف الهوية الوطنية في ضوء التنوع الثقافي الذي يشكّل الواقع السوداني ، فهما يؤكدان أن الوحدة لا تتحقق إلا في الاعتراف بالاختلاف، وهي الفكرة ذاتها التي تنبع منها فلسفة الحداثة الديمقراطية.

 لقد كشفت التجربة الغربية منذ القرن العشرين عن مأزق الحداثة القائمة على العقل الأداتي، الذي حول الإنسان إلى وسيلة للإنتاج لا غاية في ذاته. فقد انتقد ماكس فيبر وهيغل، ثم هابرماس هذا النزوع التقني الذي أفقد الحداثة بعدها القيمي والسلوكي والأخلاقي ، لتظهر الحاجة إلى حداثة بديلة قوامها التواصل والتفاعل لا السيطرة والهيمنة.

هنا تبرز الحداثة الديمقراطية بوصفها الأنموذج المضاد للحداثة النيوليبرالية، إذ تسعى إلى تحرير الإنسان من البنى الهرمية للسلطة والاقتصاد عبر تعزيز المشاركة المحلية والوعي البيئي والاجتماعي. وهو مايمكن عدّه تحولا جذريًا، لأنه يعيد تعريف مفهوم التقدم نفسه، من كونه تراكمًا ماديًا إلى كونه نضجًا أخلاقيًا وروحيًا ثقافياً .

ثانيًا: فلسفة التنوع بوصفها قيمة كونية وأخلاقية

يُمثّل مفهوم التنوع إحدى الركائز الأساسية للفكر الفلسفي المعاصر، خصوصًا في سياق نقد الحداثة المركزية. فقد تجاوزت الفلسفة الغربية منذ النصف الثاني من القرن العشرين نزعتها التماثلية لتحتفي بالاختلاف بوصفه شرطًا للوجود الإنساني نفسه.

كما نجد في الفكر الأوروبي مثالاً واضحًا لذلك من خلال ما تمّ تقديمه في "الإطار الأوروبي المرجعي المشترك لتعليم اللغات"، الذي يجسّد فلسفة الاعتراف بالتعدد اللغوي بوصفه إثراءً إنسانيًا لا عائقًا أمام التواصل( البصري، 2025 ).

كذلك يرى إيمانويل ليفيناس (Levinas, 1998) أن الاعتراف بالآخر هو البداية الحقيقية للأخلاق، لأن الذات لا تتحدد إلا في مواجهة الآخر واستقبال وجهه. هذا ما يعبر عن الواقع السوداني المعاش حالياً . بينما يؤكد يورغن هابرماس (Habermas, 1984) أن التواصل هو جوهر العقلانية الحديثة، وأن التفاهم بين الذوات بديلٌ عن الهيمنة.

 إن فلسفة التنوع لم تعد موقف ثقافي أو سياسي فقط، بل أصبحت في الفكر الإنساني المعاصر قاعدةً لتأسيس الأخلاق الكونية الجديدة. فالفيلسوف جاك دريدا، في حديثه عن "الاختلاف"، يبيّن أن الهوية لا تتشكل إلا في سياق اختلافها مع الآخر، وأن كل محاولة لفرض التماثل هي نفي للإنسانية ذاتها. فسنة الله في هذا الكون التنوّع لا التماثل لقوله تعالى :( يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير ( 13، الحجرات ) )

كما أن تشارلز تايلور (Taylor, 1999) قد دعا إلى الاعتراف بالتعدد الثقافي بوصفه حقًّا إنسانيًا، مؤكدًا أن الكرامة لا تنفصل عن الاعتراف المتبادل. وفي السياق ذاته، قدم أمارتيا سن (Sen, 2009) مفهوم "الهوية المتعددة"، مبينًا أن الإنسان ليس حبيسا لانتماء واحد، بل يتشكل عبر شبكة من الانتماءات الثقافية والاجتماعية. هذا المفهوم تعرض له سليمان يحيى محمد في وصفه للإنسان السوداني داخل نسيجه الاجتماعي ( محمد، 2007).

أما في الفكر العربي، فقد أضاف عبد الكبير الخطيبي بُعدًا جديدًا حين تحدث عن "ازدواجية الهوية"، معتبرًا أن التعدد ليس انقسامًا بل ثراءً في التجربة الإنسانية. وهذا المفهوم ماظل يؤكده كل من سليمان يحيى محمد ومحمد المهدي بشرى وغيرهم من خلال كتاباتهم وأقوالهم.

ثالثًا: فلسفة التنوع في الفكر السوداني المعاصر

يتميّز الفكر السوداني بثرائه وتعدده، وقد انشغل طيلة تاريخه بمسألة الهوية بوصفها جدلية بين الانتماء والانفتاح. إذ يرى محمد المهدي بشرى (2010) أن الثقافة السودانية لا يمكن اختزالها في بعدٍ واحد، لأنها حصيلة تفاعلٍ طويل بين العربي والإفريقي، الإسلامي والمسيحي، المحلي والعالمي.

أما سليمان يحيى محمد (2016) فقد أبرز أيضًا البعد الجمالي لهذا التنوّع، معتبرًا أن الفن الشعبي والأدب الشفاهي والتراث المادي هي الذاكرة الحيّة التي تصوغ الوجدان الجمعي وتُبقي على تماسك المجتمع، وتقوية وحدته الوجدانية.

وتضيف البصري (2025) في كتاب وحدتنا تصنع السلام بعدًا أخلاقيًا جديدًا للمفهوم؛ إذ ترى أن السلام الحقيقي لا يقوم على إلغاء الفوارق الثقافية، بل على تحويلها إلى قنوات تفاعل إنساني، وأن الوحدة الوطنية ليست نهاية التنوّع بل ذروته.

 فإذا كان الفكر السوداني قد عرف التعدد الثقافي والديني منذ فجر تاريخه، فإن الوعي الفلسفي بهذا التعدد قد تعمّق مع التحولات السياسية والاجتماعية الحديثة. فقد شكّل الطيب صالح، في روايته موسم الهجرة إلى الشمال، أنموذجاً مبكرًا لفلسفة الهوية المزدوجة والتفاعل بين المركز والهامش. الأمر نفسه جاء في كتابات مدرسة الغابة والصحراء عند كل إبراهيم إسحق ومحمد المكي إبراهيم وغيرهما.

كما يجدر بنا أن الإشارة إلى التجربة التشكيلية السودانية التي جسدت التنوع البصري والروحي عبر المزج بين الرموز الإفريقية والعربية والإسلامية، وهو ما يعبر عنه سليمان يحيى محمد في تحليله لفلسفة الجمال في السودان بوصفها "جمال التنوع لا التنميط"( محمد، 2025 م )

أما من جهة الفكر الاجتماعي، فقد برزت مشاريع فكرية تسعى إلى إعادة تعريف الوطنية بوصفها عقدًا أخلاقيًا لا عرقيًا، كما في أطروحات محمد المهدي بشرى وسليمان يحيى محمد حول “الوحدة في التنوع”.

رابعًا: الحداثة الديمقراطية بوصفها أفقًا إنسانيًا لفلسفة التنوع

تقدّم فلسفة القائد عبد الله أوجلان ترجمة عملية لفكرة التنوع على المستوى الكوني. فالمجتمع الديمقراطي، كما يراه، يقوم على ثلاثية: المرأة، والطبيعة، والمجتمع الأخلاقي (أوجلان، 2017).

كما يرفض القائد أوجلان أنموذج الدولة القومية التي تُقصي الهويات الصغيرة لصالح مركزٍ واحد، داعيًا إلى ما يسميه “الكونفدرالية الديمقراطية”.

عليه، فإن التشابه بين التجربتين الكردية الكونية والسودانية لا يتوقف عند المستوى السياسي، بل يمتد إلى الرؤية الأخلاقية للعالم؛ فكلاهما يسعى إلى مجتمعٍ تعدديٍّ أخلاقيٍّ تُحترم فيه الفوارق بوصفها المصادر لإثراء الحياة بشكل عام.

 

كما أن المفهوم الأوجلاني للمجتمع الإيكولوجي، يمكن أن يجد في التجربة السودانية صدى بيئياً وثقافياً، بالنظر إلى ما تمتلكه من تنوع طبيعي وثقافي يستوجب إدارة عادلة للموارد. ومن هنا يمكن أن تُعدّ الحداثة الديمقراطية إطارًا فلسفيًا جامعًا لتجارب إنسانية متعددة تتلاقى عند هدفٍ واحد، هو تحرير الإنسان من الهيمنة بكل أشكالها.

خامسًا: نحو فلسفة سودانية للتنوع والسلام الكوني

تبرز من خلال التفاعل بين الفلسفة الكونية والرؤية السودانية، إمكانية صياغة ما يمكن تسميته فلسفة سودانية للسلام الكوني، تقوم على الأسس التالية:

أ. الإنسان هو مركز الكون لا الدولة ولا السوق.

ب. التنوّع أساس الأخلاق لا تهديد للوحدة.

ج. السلام عملية مستمرة تتجدد بالحوار لا تُفرض بالقوة.

د. المواطنة شراكة قيمية تتجاوز الانتماءات الضيقة.

ه. الثورة السودانية أكدت في شعاراتها الوحدة في التنوع.

 إن التفاعل بين فلسفة الحداثة الديمقراطية والرؤية السودانية للتنوع يفتح الباب أمام تأسيس "فلسفة سودانية للسلام الكوني"، تقوم على فكرة أن الأخلاق ليست  منظومة قيمية فقط، بل هي بنية للعلاقات الاجتماعية والسياسية. ويمكن ترجمة ذلك عمليًا عبر إدماج قيم التنوع في السياسات التعليمية والثقافية والإعلامية، بحيث تتحول من شعارات نظرية إلى ممارسات مؤسسية.

كما أن تبني مقاربة “الإنسان أولاً” في التخطيط التنموي والسياسي يجعل من السودان فضاءً لتجريب أنموذج عالمي بديل للحداثة الغربية.

الحداثة الديمقراطية والتجربة السودانية

 1/ السودان بوصفه فضاءً لتجسيد فكرة الوحدة في التنوع وفلسفتها

تشكّل التجربة السودانية أحد أكثر النماذج الإفريقية والعربية ثراءً في تعايش التنوّع الثقافي واللغوي والديني، حتى قبل أن تتبلور النظريات المعاصرة في “إدارة التعدد”. فمنذ الممالك النوبية مرورًا بالعهدين السناري والتركي المصري، وصولًا إلى الدولة الوطنية الحديثة، ظل السودان فضاءً للالتقاء بين الهوية العربية والهوية الإفريقية، وبين الإسلام والمسيحية والديانات الأخرى، وبين القبيلة والمدنية، في نسيجٍ متشابكٍ أنتج ثقافة هجينة متجددة (الطيب، 1980؛ القدّال، 2002).

فهذا التفاعل التاريخي منح السودان بنية ثقافية تعددية أصيلة، لا تقوم على التجاور السلبي بل على التفاعل الحي، وهو ما جعل من “الوحدة في التنوع” مبدأً تأسيسيًا في الوجدان الجمعي السوداني (محمد المهدي بشرى، 2010).

غير أنّ التحولات السياسية الحديثة، ولا سيّما في القرن العشرين، كشفت هشاشة هذا التوازن حين جرى توظيف مفهوم الوحدة في خطاب الدولة القومية لتبرير المركزية والهيمنة الثقافية، ما أدى إلى انكسار العلاقة بين الهوية والتعدد.

في المقابل، ظلّ الوعي الشعبي والثقافي السوداني يتجلّى في الآداب والفنون والممارسات المجتمعية  محافظًا على روح الانفتاح والتفاعل التي ميّزت الثقافة السودانية عبر القرون (سليمان يحيى محمد ، 2016).

عليه، ومن هنا يبرز التشابه البنيوي بين ما تقترحه الحداثة الديمقراطية وبين ما أنجزته الثقافة السودانية في مستوى الممارسة: فكلاهما يقدم أنموذجًا للعيش المشترك يقوم على المشاركة الأفقية، لا على الهيمنة العمودية.

2/ المجتمع الأخلاقي بين النظرية الأوجلانية والتجربة السودانية

يرى أوجلان (2017) أنّ الإنسان كائن أخلاقي بطبعه، وأنّ “التحرر الحقيقي لا يتحقق إلا في مجتمعٍ أخلاقيٍّ سياسيٍّ حرّ”، حيث تُمارس الحرية بوصفها مسؤولية تجاه الذات والآخر في آن واحد. إذ يجد هذا المفهوم  صداه في الفكر السوداني الحديث، الذي جعل من الأخلاق ركيزةً للبقاء الوطني. ففي كتاب وحدتنا تصنع السلام، تؤكد الكاتبة هداية البصري (2025) أنّ الأخلاق ليست مجالًا فرديًا بل ممارسة جماعية تُبنى بها المجتمعات، وأنّ السلام لا يتحقق بالقوانين وحدها بل بالتربية القيمية التي تجعل الإنسان يرى ذاته في الآخر.

وهكذا يصبح المجتمع الأخلاقي المشترك بين أوجلان والتجربة السودانية بنية فلسفية للعيش الحرّ، حيث تُصبح الأخلاق مبدأ التنظيم الاجتماعي، لا السلطة أو العرق أو العقيدة.

 

لقد فشل نموذج الدولة القومية في السودان لعدم اعترافه بالتنوع الثقافي الاجتماعي مما أدى إلى الحرب الدائرة حالياً. كما فشل الأنموذج نفسه في أغلبية دول العالم  في إدارة التنوع، لأنه ربط المواطنة بالهوية المغلقة لا بالقيمة الإنسانية. أما الحداثة الديمقراطية فتنقل محور الفعل من الهوية إلى الكرامة، ومن الانتماء الجغرافي إلى الانتماء القيمي.

ومن هنا فإنّ السودان، بتاريخه التعددي وبنيته الثقافية المتشابكة، يُعدّ أرضًا خصبةً لتجريب هذا النوع من التفكير الأخلاقي الكوني، إذ لا يقوم على نفي التعدد بل على جعله شرطًا للسلام (منصور خالد، 2009).

3/  المرأة والطبيعة والحرية في أفق الحداثة الديمقراطية

إن من أبرز ثورات أوجلان الفكرية، هي نقله مركز الفعل التاريخي من الرجل والسلطة إلى المرأة والطبيعة والمجتمع. فالمجتمع الديمقراطي في تصوره لا يُبنى إلا بإعادة الاعتبار للأنوثة بوصفها رمزًا للحياة والتعدد والمشاعر الإنسانية، وللطبيعة باعتبارها الشريك الأول في الوجود( أوجلان، 2020)

أما وفي السياق السوداني، فنجد جذورًا مشابهة لهذا الوعي في بنية الثقافة الشعبية التي منحت المرأة حضورًا رمزيًا قويًا في الغناء والأسطورة والأمثال الشعبية؛ فالمرأة عبر التاريخ عند السودانيين ليست كائنًا هامشيًا بل حاملة للذاكرة الجماعية وركيزة للتماسك الاجتماعي لا سيما وأنها الكنداكة " الملكة" صاحبة السلطة . وقد عبّر عن ذلك سليمان يحيى محمد (2016) حين اعتبر الفن الشعبي السوداني “منظومة قيمية” تُعيد إنتاج الوعي الأخلاقي للمجتمع، وأنّ المرأة في هذا الفن تمثّل “صوت الجمال والرحمة والحياة”.

من هذا المنظور، يمكن القول إنّ التقاء فلسفة أوجلان برؤية الثقافة السودانية في هذا الجانب يُؤسّس لإمكانية  قيام حداثة ديمقراطية ذات جذور محلية، تُعيد صياغة العلاقة بين الإنسان والطبيعة على أسس أخلاقية وجمالية.

4/  من الوعي الوطني إلى الوعي الكوني

إن التحول من الدولة القومية إلى المجتمع الكوني لا يعني الانسلاخ من الجذور، بل الانتقال من الانغلاق إلى الانفتاح.

وقد أظهرت التجربة السودانية، بخاصة في مراحل السلام الأهلي والمبادرات المجتمعية، استعدادًا فطريًا للانتقال من وعي الانتماء الضيق إلى وعيٍ إنسانيٍّ أرحب، يعترف بأنّ المواطنة ليست نهاية الطريق، بل مرحلة نحو الأخوة الكونية.

وهذا الوعي يجد أصله في التراث الصوفي العميق الذي سكن الوجدان السوداني قرونًا، حيث الحب والتسامح والتنوع في جوهر التجربة الروحية (النور، 2015).

فبينما تؤكد الحداثة الديمقراطية أنّ الإنسان هو مركز الكون لا الدولة ولا السوق، فإنّ الفكر الصوفي السوداني، في امتداد ابن عربي والجنيد يجعل الإنسان مرآة للحق ووسيلة للتعارف والتكامل.

بمعنى إنّ التقاطع بين الحداثة الديمقراطية والفكر الصوفي لا يقتصر على المستوى الأخلاقي، بل يمتد إلى الرؤية الكونية للوجود: فكلتاهما تؤمن بأنّ الحرية لا تكتمل إلا بالمسؤولية، وأنّ الوحدة لا تقوم إلا على التنوع.

5/ السودان بوصفه حالة فلسفية

تُظهر هذه المقارنات أن السودان ليس موضوعا للتأمل النظري فحسب ، بل يمكن النظر إليه بوصفه مختبرا فلسفيًا لتجارب العيش المشترك في عالمٍ ما بعد القومية. ففي هذا البلد تتجاور اللغات والأديان والقبائل، لكنّها لا تفقد قدرتها على إنتاج المعنى المشترك، لأنّ الوعي الجمعي ظلّ متقدا على الرغم من الأزمات السياسية، بل ومؤمنًا بأنّ الاختلاف أصلٌ في الخلق لا عيبٌ في الهوية.

وهكذا يصبح السودان في ضوء الحداثة الديمقراطية أنموذجًا مصغرًا لما يمكن أن تكون عليه الإنسانية في المستقبل: تعددٌ متفاعل، ووحدةٌ في القيم، وسلامٌ يقوم على الاعتراف المتبادل (عبد الله علي إبراهيم، 2007).

 نحو أفق إنساني جديد

يكشف هذا البحث ، في ضوء ما قدم من تحليل مقارن بين فلسفة الحداثة الديمقراطية والرؤية السودانية لفلسفة  التنوع والوحدة ، عن إمكانية تأسيس مشروع فلسفي كوني جديد ينطلق من الجنوب العالمي، ويعيد الاعتبار إلى الإنسان كفاعلٍ أخلاقي في التاريخ.

فالحداثة الغربية، على الرغم من إنجازاتها العلمية، أفرغت الإنسان من بعده القيمي حين جعلت التقدم المادي غاية في ذاته. أما الحداثة الديمقراطية  كما يصوغها أوجلان، فتسعى إلى إعادة الأخلاق إلى مركز الوجود، بوصفها الرابط الحيوي بين الحرية والمجتمع والطبيعة( أوجلان، 2017 م )

وهي في هذا المعنى ليست بديلًا عن الحداثة بقدر ما هي نقدٌ داخليٌّ لها، يعيد بناءها على أسسٍ إنسانية تتجاوز العنف الرمزي للدولة والسوق.

وعلى نحوٍ متوازٍ، يقدّم الفكر السوداني من خلال مفهوم الوحدة في التنوع وفلسفته، تجربة واقعية تبرهن أن المجتمعات قادرة على تحقيق وحدتها دون التنكّر لاختلافاتها. فالتنوع في السودان ليس طارئًا على تاريخه، بل جزء من تكوينه العميق الذي جعل منه أفقًا للتعدد المتصالح، لا ساحةً للصراع بين الهويات (محمد المهدي بشرى، 2010).

ويبرز في هذا السياق ما يمكن تسميته الوعي السوداني بالكونية، وهو وعيٌ أخلاقي قبل أن يكون سياسيًا، إذ يجعل من الاعتراف بالآخر قيمةً عليا تسبق كل انتماء. هذا الوعي يجد امتداده في التصوف السوداني الذي يرى في كل اختلافٍ وجهًا من وجوه الحقيقة، وفي كل إنسانٍ تجليًا من تجليات الكمال الإنساني (النور، 2015).

تحدر الإشارة هنا إلى أن التقاطع بين الحداثة الديمقراطية والتجربة السودانية يفتح الباب أمام فلسفة سلامٍ كونية، تقوم على أربعة مرتكزات رئيسة، هي :

1. المسؤولية الأخلاقية المشتركة: إذ لا يمكن لأي حرية أن تكتمل ما لم تكن حرية الآخرين مضمونة.

2. التنوع هو الشرط للوحدة: فالوحدة ليست نفيًا للاختلاف بل تجليه الأعلى.

3. الإنسان هو مركز الفعل الكوني: لا الدولة ولا الاقتصاد، بل الإنسان بما هو ذاتٌ أخلاقية.

4. الحوار أساس الكرامة: لأنّ الكرامة لا تُمنح بل تُنتج في الفعل التواصلي المتبادل (Habermas, 1984).

هذه المرتكزات ليست شعارات نظرية، بل يمكن أن تشكّل قاعدةً لتجديد الفكر الإنساني في زمن التنازع والتشظي  إذا جرى تحويلها إلى مشروعٍ ثقافي وتعليمي . فالعالم اليوم في حاجةٍ إلى نموذجٍ جديدٍ للحداثة يقوم على المشاركة لا الهيمنة، وعلى القيم لا المصالح، وعلى الأخلاق لا الأيديولوجيا.

فبهذا الأفق، يبدو السودان  بتاريخه وثقافته وثرائه الإنساني  مؤهلاً لأن يكون مختبرا للحداثة الديمقراطية في الجنوب العالمي؛ إذ تتوافر فيه الشروط الفلسفية والإنسانية لبناء مجتمعٍ تعدديٍّ متصالحٍ مع ذاته ومع العالم.

إذ هو بلدٌ يملك ذاكرة طويلة في التفاعل بين الثقافات، وموروثًا روحيًا عميقًا، وتجربة حية ومستمرة بلا انقطاع في مقاومة الاستبداد عبر السلمية و  الحجة والوعي لا بالعنف وحده.

فمن هنا يمكن القول إنّ الوحدة في التنوع بكامل فلسفتها ليست فقط مبدأ وطنيًا سودانيًا، بل رؤية كونية تلتقي مع فلسفة الحداثة الديمقراطية في جوهرها، وتسهم في بلورة حداثة إنسانية جديدة قوامها:

  • الحرية الأخلاقية.

  • المواطنة الكونية

ج. العيش المشترك في رحاب الاختلاف.

بذلك يصبح المشروع الفلسفي المقترح  الذي يربط بين الفكر الأوجلاني والفكر السوداني  دعوةً لإعادة صياغة مفهوم الكونية من منظورٍ إنسانيٍّ تشاركي، لا يقوم على التماثل بل على الحوار بين الحضارات والثقافات.

بالتالي و بهذا المعنى الأعمق للحداثة الديمقراطية  يتحوّل التنوع إلى لغةٍ مشتركة، و تُصبح الكونية نظامًا أخلاقيًا للوجود وليس  نظامًا سياسيًا للعالم  فحسب.

عليه، وبناء على ماسبق يمكن أن نستخلص النتائج التالية :

  1. تمثل الحداثة الديمقراطية مشروعًا كونيًا يعيد تعريف العلاقة بين الإنسان والمجتمع والطبيعة.

  2. يشترك  فكر القائد أوجلان والفكر السوداني في جعل الأخلاق محورًا للتحرر.

  3. إن فلسفة التنوع هي المبدأ الجوهري لأي ديمقراطية مجتمعية.

  4. يمكن للتجربة السودانية في إدارة التعدد أن تصبح تطبيقًا واقعيًا لقيم الحداثة الديمقراطية.

  5. إن الحداثة القادمة، ستكون حداثة الإنسان والأخلاق لا السوق والآلة.

نختم القول بأن هذا البحث  قد خلص إلى أن الحداثة الديمقراطية وفلسفة التنوع تمثلان معًا نواة لفكرٍ إنساني جديد يسعى إلى إعادة التوازن بين الكوني والمحلي، وبين الحرية والمسؤولية. وقد أظهرت التجربة الفكرية السودانية أن الاعتراف بالتعدد الثقافي ليس ترفًا فكريًا بل شرطًا لبناء سلامٍ دائمٍ وأخلاقٍ كونية.

كما أن الحداثة الديمقراطية ليست  نظرية سياسية فقط ، بل هي مشروع وجودي يسعى إلى استعادة المعنى الإنساني في عالمٍ أرهقته المادة والتقنية. أما فلسفة التنوع، فهي الروح التي تمنح هذا المشروع بعده الأخلاقي، لأنها تؤكد أن الكرامة لا تُبنى على الإقصاء بل على الاعتراف المتبادل.

كذلك فإن الفكر السوداني، في تفاعله مع هذه الرؤية، يقدم إمكانية حقيقية لتأسيس حداثة إنسانية جديدة، تستمد قوتها من التجربة التاريخية للشعوب التي عانت من الاستعمار والأفكار المستخلفة منه والانقسام. لذلك، فهي تسعى اليوم إلى بناء عالمٍ أكثر عدلاً وسلامًا. ومن ثم فإن مستقبل السودان لا ينفصل عن مستقبل الفلسفة الإنسانية ذاتها، لأن ما يجري فيه هو مختبرٌ لمستقبل الحداثة الأخلاقية على الصعيد العالمي.

المصادر والمراجع

أولاً: العربية

 

  • إبراهيم، عبد الله علي . (2007). الهوية والوعي: في سياق التجربة السودانية. القاهرة: دار العين للنشر.

 

  • البصري، هداية تاج الأصفياء. (2025). وحدتنا تصنع السلام. القاهرة : دار نفرتيتي للدراسات والنشر والترجمة .
  • البصري، هداية تاج الأصفياء.( 2025 م ). اللغة والهوية والتنمية في السودان، جدلية السياسة والتخطيط اللغوي. القاهرة :دار نفرتيتي للدراسات والنشر والترجمة(تحت الطبع )

 -الجابري، محمد عابد. (1990). نقد العقل العربي. بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية.

-  القدّال، محمد سعيد. (2002). تاريخ السودان الحديث: من الاستقلال إلى اليوم. بيروت: دار الفارابي.

- النور، أحمد الصادق. (2015). التنوع الثقافي والوحدة الوطنية في السودان. الخرطوم: مركز دراسات الوحدة الوطنية.

- أوجلان، عبد الله. (2017). مانيفستو الحضارة الديمقراطية. سوسيولوجيا الحرية. مصر : مركز القاهرة للدراسات الكردية.

- أوجلان، عبد الله. (2017). مانيفستو حضارة ديمقراطية، المجلد الأول: عصر الآلهة المقنّعة والملوك المتخفّين. مصر : مركز القاهرة للدراسات الكردية.

- بشر، يوسف آدم.() ندوة بعنوان المدخل الصحيح للتأسيس الدستوري السليم. أكاديمية الأحلام للتنمية وبناء القدرات. 3 شارع محمد طلعت متفرع من شارع الهرم الرئيس. أبراج نصر الدين فوق مكتبة شقاوة بنات - الطابق الأول. 06/08/2025.

- بشرى، محمد المهدي. (2010). الثقافة والهوية في السودان: دراسات في التنوع والوحدة الوطنية. الخرطوم: دار جامعة الخرطوم للنشر.

- حنفي، حسن. (1992). التراث والتجديد: موقفنا من التراث القديم. القاهرة: دار التنوير.

- خالد، منصور. (2009). السودان: أهوال الحرب وطموحات السلام. بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية.

عبد الله، عبد الله الطيب. (1980). من نافذة القطار: تأملات في الشخصية السودانية. الخرطوم: دار جامعة الخرطوم للنشر.

- صالح، الطيب. ( 2009). موسم الهجرة إلى الشمال. بيروت : دار العودة.

-محمد، سليمان يحيى. (2016). الفن والهوية الثقافية في السودان: مقاربات في فلسفة الجمال والتنوع. الخرطوم: الهيئة القومية للثقافة والآداب والفنون.

- محمد، سليمان يحيى. (2025). مناهج البحث العلمي، أسسه وقواعده. القاهرة :دار نفرتيتي للدراسات والنشر والترجمة.

- محمد، سليمان يحيى. (2025 ). تاريخ الفن، من فنون الحضارات القديمة إلى المدارس المعاصرة في السودان. القاهرة : دار نفرتيتي للدراسات والنشر والترجمة.

- محمد، سليمان يحيى.( 2007). المثل الشعبي : الأصل والمصدر والوظيفة. الخرطوم : شركة مطابع العملة السودانية.

- محمد، سليمان يحيى.(2025 ). ندوة بعنوان الهويّة الثقافية السودانية. المنتدى الثقافي للمجموعة السودانية للدفاع عن الحقوق والحريات بالتعاون مع هيئة محامي دارفور. دار حزب الكرامة بالدقي ٧ شارع الموسيقار على إسماعيل. 22/10/2025 م.

-  منصور، عبد السلام عبد الله. (2018). المواطنة في الفكر السياسي السوداني المعاصر. مجلة دراسات إفريقية، 12(2)، 45–67.

- طه عبد الرحمن. (2006). روح الحداثة: المدخل إلى تأسيس الحداثة الإسلامية. الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي.

ثانيًا: الأجنبية

 

Habermas, J. (1984). The Theory of Communicative Action (Vol. 1). Beacon Press.

 

Levinas, E. (1998). Entre Nous. Columbia University Press.

 

Taylor, C. (1999). The Ethics of Authenticity. Harvard University Press.

 

Wallerstein, I. (2004). World-Systems Analysis. Duke University Press

قد يهمك