بث تجريبي

مثقفون وسياسيون: رؤية أوجلان تدفع باتجاه سلام حقيقي يقوم على الاعتراف بالآخر

نظّمت المبادرة العربية لحرية القائد عبدالله أوجلان، مساء أمس الأحد 30 نوفمبر 2025، ندوة فكرية موسعة بعنوان "السلام والمجتمع الديمقراطي: من فلسفة أوجلان إلى آفاق التحوّل الإقليمي"، وذلك في مكتبة البلد بوسط العاصمة المصرية القاهرة، وسط حضور كبير لنخبة من المثقفين والسياسيين والأكاديميين من مصر وخارجها.

وقد استعرضت الندوة ثلاثة محاور رئيسية تتناول التحولات الفكرية والسياسية في التجربة الكردية ورؤى الحلول الديمقراطية في المنطقة؛ حيث قدم المحور الأول إلهامي المليجي، الكاتب الصحفي والمحلل السياسي ومنسق المبادرة العربية لحرية عبدالله أوجلان، متناولاً مسار الانتقال من الكفاح المسلح إلى السياسة الديمقراطية وربط ذلك بالتجارب العملية والنظرية في السياق الكردي.

أما المحور الثاني فقدمه السفير يوسف زاده، مساعد وزير الخارجية المصري الأسبق، وقد تطرق فيه إلى التجربة الكردية في سوريا حالياً، وتمسك الكرد باللا مركزية وليس الانفصال عن الدولة السورية.

فيما تحدث في المحور الثالث الأستاذ الدكتور محمد رفعت، أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر، حيث قدم قراءة معمقة في مشروع "الأمة الديمقراطية" بوصفه نموذجاً بديلاً عن الدولة القومية، ومجالاً لإنتاج حلول سلمية مستدامة في الشرق الأوسط.

قدرة حزب الله العمال على التطور

أدارت الندوة الكاتبة الصحفية حنان حجاج، مدير تحرير جريدة الأهرام المصرية، والتي استهلتها بالتأكيد على أن حزب العمال الكردستاني يعد أكثر كيان سياسي كان قابلاً للتطور والتكيف، من خلال المراجعات، التي عبرت عن أن الحزب لديه رؤية حقيقية وأفكار حقيقية، ويعبر عن مجتمع له خصوصيته.

وأكدت الكاتبة الصحفية المصرية أن الحزب كان له تأثيره الكبير في المنطقة، لا سيما من خلال عملية التنظيم التي اتسم بها، واهتمامه بالمرأة، وتحوله إلى كيان حي قادر على تطوير نفسه ويقرأ بواقعية الواقع الذي حوله، إلى أن وصل إلى المرحلة التي يعلن فيها حل هيكله التنظيمي في مايو 2025، وما يعنيه ذلك من قراءة جيدة لما يجري في المنطقة من تطورات، وإدراكه أن فكرة الكفاح المسلح أو الحركات المسلحة لم يعد لها قبولاً على مستوى المنطقة.

التحولات العميقة لدى الحزب

انتقلت الكلمة الأولى للكاتب الصحفي إلهامي المليجي منسق المبادرة العربية لحرية عبدالله أوجلان، الذي توقف عند التحول العميق الذي شهدته التجربة الكردية خلال العقود الأخيرة، مشيراً إلى أن الكفاح المسلح لم يكن مجرد خيار عسكري، بل كان تعبيراً عن صرخة هوية في مواجهة الإنكار والتهميش الذين تعرض لهما الشعب الكردي منذ بدايات القرن العشرين.

إلا أنّ عبدالله أوجلان، بحسب المليجي، أدرك مبكراً أن السلاح وحده عاجز عن بناء الحرية إذا لم يكن مصحوباً بوعي يحرر الإنسان من الخوف ويعيد إليه القدرة على الفعل الديمقراطي. وأوضح أن مراجعات آبو الفكرية شكّلت نقطة تحول مركزية في التاريخ السياسي الكردي؛ إذ نقلت النضال من ساحة الصراع المسلح إلى ساحة الوعي، ومن الثورة على الآخر إلى الثورة على الذات.

وأضاف أنه هكذا تحولت القضية الكردية من مطلب قومي محدود إلى مشروع إنساني واسع يسعى إلى العدالة والكرامة لكل شعوب المنطقة. فحرية الشعوب، وفق رؤية عبدالله أوجلان، لا تتحقق بامتلاك دولة بقدر ما تتحقق بامتلاك وعي يحول دون إنتاج ديكتاتورية الدولة.

 الفكر القومي

وتناول المليجي نقد القائد عبدالله أوجلان للفكر القومي التقليدي الذي يربط الهوية بالأرض والسيادة، مؤكداً أن الدولة القومية، أينما ظهرت، حملت معها أنماطاً مختلفة من القهر، مشيراً إلى أنه من هنا تأتي أهمية مفهوم "الأمة الديمقراطية" الذي طرحه القائد آبو باعتباره نموذجاً يتجاوز الإشكالات العرقية والحدود القومية، ويقترح إدارة اجتماعية تعتمد على التعددية والمشاركة واللا مركزية.

وأشار إلى أنه رغم سجنه في جزيرة إمرالي، فقد حوّل العزلة إلى مساحة لإنتاج مراجعات فكرية عميقة، أعادت تعريف المقاومة بوصفها فعلاً أخلاقياً وفلسفياً قبل أن تكون نشاطاً مسلحاً. فالمقاومة، لم تعد حبيسة البندقية، بل امتدت لتشمل الوعي والتنظيم والمجتمع.

دور المرأة

وتوقف المليجي كذلك عند الدور المركزي للمرأة في مشروع عبدالله أوجلان؛ فالثورة التي لا تحرر المرأة، وفقاً له، ستعيد إنتاج أنماط القهر ذاتها. ومن هنا ظهرت وحدات حماية المرأة كنموذج غير مسبوق في الشرق الأوسط، وأسهمت المرأة في مقدمة المشهد السياسي والاجتماعي، إلى جانب المشاركة الواسعة في الإدارة الذاتية بإقليم شمال وشرق سوريا، التي قامت على أسس الديمقراطية التشاركية والاقتصاد التعاوني.

وأكد المليجي في ختام حديثه أن فكر عبدالله أوجلان تجاوز حدود القضية الكردية ليصوغ رؤية مُلهمة لتحرير الشرق الأوسط من الهيمنة الرأسمالية ومنطق الدولة القومية، ودفع باتجاه بناء سلام حقيقي يقوم على الاعتراف بالآخر لا على القوة. وبهذا يقدم مفهوم الأمة الديمقراطية أفقاً جديداً لصياغة نموذج سياسي اجتماعي يتناسب مع تنوع المنطقة وخصوصيتها التاريخية.

التجربة الكردية في سوريا

انتقلت الكلمة إلى السفير يوسف زادة مساعد وزير الخارجية المصري الأسبق، والتي استهلها بإعطاء تعريف عام حول الكرد والشعب الكردي وامتداداته الجغرافية، متوقفاً عند التجربة الكردية في سوريا التي يرى أنها مثال واضح على تمسك الكرد بالانتماء الوطني السوري مع المطالبة بنظام ديمقراطي لا مركزي، لا يتضمن أي نزعة انفصالية.

وأشار الدبلوماسي المصري السابق إلى أن الكرد يسعون إلى بناء نموذج إنساني جامع يحفظ حقوق كل المكونات السورية. وتطرق إلى التحديات التي تواجه الكرد اليوم، وعلى رأسها التدخلات التركية التي وصفها بـ"الخبث السياسي"، مشيراً إلى أن سياسة حكومة دمشق المتقلبة تعرقل أي محاولة لإيجاد صيغة للتعايش.

كما انتقد ازدواجية الخطاب من قبل حكومة دمشق الانتقالية بقيادة أحمد الشرع، حيث يتحدث الأخير عن الاندماج فيما يمارس على الأرض سياسات إقصائية، مستشهداً بإلغاء الشرع عبر مرسوم رسمي بعض الأعياد الكردية رغم حديثه عن دولة لجميع السوريين. وأكّد أن التجربة الكردية في سوريا باتت أشبه بمختبر لنموذج ديمقراطي جديد قد يُحتذى به في المنطقة، خاصة من خلال دور المرأة البارز والمشاركة المجتمعية الواسعة.

لكنه أبدى في الوقت ذاته تشاؤمه تجاه استجابة الحكومة السورية الحالية لأي مشروع ديمقراطي حقيقي، معتبراً أن مستقبل سوريا سيبقى رهناً بمدى قدرة النظام على تبني اللامركزية كخيار سياسي. كما توقع الدبلوماسي المصري السابق أن تلعب المرأة دوراً قيادياً في المرحلة المقبلة داخل الحراك الكردي السوري، انسجاماً مع التجربة التنظيمية والسياسية التي رسختها خلال العقد الأخير.

المشروع الأوجلاني

عقب ذلك انتقلت الكلمة الأخيرة إلى الأستاذ الدكتور محمد رفعت الإمام والذي سلط الضوء على المشروع الأوجلاني القائم على فكر الأمة الديمقراطية، مؤكداً أنه مشروع يستمد جذوره من عمق التاريخ والثقافة في الشرق الأوسط، فهو ابن أصيل لهذه المنطقة، ولا يُعد نموذجاً مستورداً أو غريباً عن المنطقة.

واعتبر أستاذ التاريخ أن أزمة الشرق الأوسط ليست أزمة موارد أو حدود بقدر ما هي أزمة ذهنية سياسية ترسخت بفعل الدولة القومية والسلطوية، مشيراً إلى أن أوجلان تعامل مع الشرق الأوسط ليس من حيث أهميته كموارد وثروات كما فعلت الدول الغربية، ولكن من حيث ما يحمله من تنوع وثراء قومي وعرقي وديني وثقافي.

وقارن الإمام بين مشاريع الإصلاح التي طُرحت في العقود الماضية وبين مشروع القائد عبدالله أوجلان، مبيناً أن تلك المشاريع ركزت على إصلاحات إدارية وسياسية سطحية دون معالجة البنية الفكرية والثقافية للشعوب، وكانت تراهن فقط على النخب والأنظمة، وتجاهلت الشعوب واحتياجاتها الحقيقية وإرادتها. ولذلك، برأيه، فشلت في خلق تغيير مستدام.

ويضيف أنه في المقابل فإن المشروع الأوجلاني يتميز بقدرته على الجمع بين البعد الفلسفي والتطبيق العملي، فهو يعالج جذور الأزمة عبر إعادة بناء الوعي المجتمعي، وينتقل من الإصلاح النخبوي إلى الديمقراطية الذاتية والمشاركة الشعبية. وهنا تكمن أهمية تجربة الإدارة الذاتية الديمقراطية في إقليم شمال وشرق سوريا بوصفها نموذجاً عملياً للمجتمع الديمقراطي، حيث تتحول من سلطة فوقية إلى تنظيم اجتماعي يعبر عن إرادة المجتمع.

عملية السلام

وأكد أستاذ التاريخ أن التحول الذي قاده القائد عبدالله أوجلان نحو السلام يمثل بداية مرحلة جديدة من النضال، تنتقل من العمل المسلح إلى العمل السياسي السلمي، لكنه شدد على أن ذلك يتطلب من النظام التركي خطوات مقابلة لاحترام الحقوق الثقافية والسياسية للشعب الكردي. كما أشار إلى أن علاج أزمات الشرق الأوسط، وفق رؤية آبو، لا يبدأ إلا بكسر عقلية الإنكار وفتح مسارات ديمقراطية داخل الأنظمة القائمة، بما يسمح بإصلاح جذري من الداخل.

وفي ختام كلمته، أكد أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر أن مشروع "الأمة الديمقراطية" يقدم رؤية متكاملة قادرة على إعادة بناء المجتمعات في الشرق الأوسط، عبر التحرر من المركزية القومية والانتقال إلى فضاء تشاركي يحترم التعدد الثقافي والإثني، ويمنح المجتمع القدرة على إنتاج حلوله ذاتياً.

 

قد يهمك