بث تجريبي

العقل الذي لا يرى الكومونة لا يستطيع رؤية الكرد

1.عقل الكرد:

طريقتنا في فهم المجتمع التاريخي تتغير بشكل راديكالي اعتماداً على نوع العقل الذي نقترب به، فإذا نظرنا إلى التاريخ من خلال التشكيل الطبقي فقط، فإن الكرد يصبحون غير مرئيين، لأن الانقسام الطبقي الكلاسيكي لم يتعمق في كثير من الأحيان في أشكال الحياة الكومونالية مثل المجتمع الكردي، كما أن المنظور الطبقي قد رفض بدايات علم الاجتماع التاريخي ووصفها بأنها "بدائية"، فعندما يستند المفهوم الوضعي التاريخي، إلى سجلات مركزية ومكتوبة وقابلة للملاحظة بشكل مباشر، فإنه يُهمِّش الأشكال التنظيمية مثل الكومونة والقبيلة والعشيرة والكونفدرالية وينظر إليها على أنها غير حضارية، وفي هذه الحالة يظلّ الكرد غائبين عن الأنظار مرةً أخرى، ففي الواقع يُعدّ هذا النهج مثالاً نموذجياً عن كيفية ترميز الحضارة القائمة على الدولة، بتصنيف المجتمعات غير الحكومية على أنها ناقصة-بدائية لإضفاء الشرعية على الدولة الحضارية كما أشار بيير كلاسترس في أطروحته "المجتمع ضد الدولة، وعلى نحو مماثل توضح نظرية الهدية لمارسيل موس وكذلك أسلوب كارل بولاني في الاقتصاد المدفون، أن العلاقات الكومونالية ليست بقايا قديمة، بل هي مبادئ مؤسِسة للتكامل المجتمعي.

بالنسبة لإطار سرد التاريخ الصناعي، تُعتبر الطبيعة والقرية والكومونة والتخلف وعدم التطور مرادفات، وبالتالي يتم وضع المجتمع الكردي خارج نطاق التقدم التاريخي، أما المنظور المتمركز حول الدولة-القومية، فيتم تقييمّ الشعوب التي ليست لديها دولة بتصنيفها ضمن فئة 'ما قبل التاريخ'، وفي هذا الإطار، لا يُعترف بالكرد كموضوع للتاريخ الحديث، لأنهم شعب بلا دولة، وحتى القراءات اللاهوتية تتجاهل في كثير من الأحيان الإبداعات التاريخية-العقائدية الفريدة  للفرد والكومونة والمجموعات، لأنها تُفسّر الإنسان فقط ضمن مستوى الإله-الدولة.

كل هذه أنواع من العقل هي أدوات أيديولوجية تقوم بإخفاء الوجود التاريخي للكرد بشكل منهجي، وتُكبّلهم وتجعلهم غير مرئيين، ولهذا السبب؛ فإن الشرط الأول لفهم التاريخ الكردي هو وضع المجتمع الكومونالي في مركز علم الاجتماع التاريخي، فالكومونة ليست فقط مكاناً للإنتاج والمشاركة، بل هي أيضاً مكاناً للأخلاق والمعرفة والوجود والتنظيم والمعنى، وعندما يتمّ تبنّي هذا النهج، فإن المجتمع الكردي لا يقتصر على "الوجود" في كل مرحلة من مراحل التاريخ فحسب، بل يظهر أيضاً ككيان تحويلي ومقاوم وبَنّاء.

وبالتالي ينبغي النظر إلى عقل الكرد، ليس كمجرد يقظةُ وعيٍ معاصرة، بل كاستمرارية لعلم الاجتماع التاريخي، ولا ينبغي الخلط بين هذه الأشكال من علم الاجتماع التاريخي الذي يشكل منبعاً لعقل الكرد، وبين البنى التي تُصنفها العلوم الاجتماعية الغربية بشكلٍ خاص، على أنها بدائية أو ما قبل التاريخ، بل على العكس من ذلك؛ هذه البنى ليست بقايا عتيقة، بل هي حاملات تاريخية-مجتمعية لحياة أخلاقية-سياسية، فشلت الحداثة الرأسمالية في تفكيكها وتنظيمها. إن الأشكال القبلية والعشائرية ليست مجرّد تنظيمات إدارية، بل هي أنظمة ذات معنى، أي أنها أشكال إدراك المجتمع للعالم وكذلك تفسيره وتنظيمه، لذا يمكن لعقل الكرد إعادة بناء دولته التي حُرِم منها، ليس كنقص، بل كبديل.

2. أنواع العقل وبناء العقل السيادي:

إن الخطوط الفكرية التي تشكل التاريخ البشري لا يتم تحديدها من خلال إنتاج المعرفة فحسب، بل تُحدد أيضاً من خلال الأرضية الأيديولوجية التي يتم على أساسها إنتاج هذه المعرفة، ولأي غرض؟ ومن أجل مَنْ؟ ففي هذا السياق يكون التفكير في "أنواع العقل" ليس مجرد نقاش معرفي، بل هو أيضاً استجواب سياسي واجتماعي وأخلاقي، وخاصةً أن الأشكال المحدِّدة للعقل في العصر الحديث -العقول الألمانية والفرنسية والانجليزية- قادت الثورات العلمية من جهة، ومن جهة أخرى مهّدت الأرضية لدمج هذه الثورات مع الاستعمار والدولتية، والعلموية، والقوموية، والتمييز بين الجنسين.

يتضمن مفهوم هيغل لـ "روح العالم" فكرة أن التاريخ يتقدم نحو هدف نهائي، وعلى الرغم من أن هذا التقدم يستند إلى جوهر الديالكتيكية، إلا أن نظام هيغل يُتوّج في نهاية المطاف بتعظيم الدولة كأسمى مأسسة للعقل، وعند هذه النقطة، يبتعد العقل عن الفرد والكومونة والشعب، ويتجه نحو الدولة المركزية التي يتجسد فيها العقل المطلق، وهكذا تُقوم الفلسفة الألمانية بتقديس العقل المنضبط، الهرمي، ذو الطابع العسكري، في حين ترى كل ما هو كومونالي كــ "حالة طبيعية" يجب تجاوزها.

حتى عندما كان هايدغر يتساءل عن نسيان الوجود، كان يُجادل بضرورة دمج اللغة والفكر مع الجوهر الوطني، حيث تعدّ علاقتهُ الفكرية مع النازية، المثال الأكثر واقعية عن كيفية تحوّل العقل إلى أداة أيديولوجية، فرغم عمق الميتافيزيقيا، يُفضّل هذا العقل الأمة لا الشعب، النظام لا الأخلاق، السلطة لا المعنى.

إن العقل الفرنسي الذي بدأ بمفهوم "كوجيتو" للفيلسوف ديكارت، يضع الفرد في المركز بينما يفصل الفرد عن سياقه المجتمعي، أما الوضعية التي قدمها كوميت فتختزل المعرفة إلى مجرد ملاحظة، مستبعدة المصادر العاطفية والحدسية والأخلاقية للمعرفة، وإن هذا العقل يقدم العلمانية كشكل من أشكال التقدم، في حين يُعلن العقل الديني والتقليدي والمحلي على أنها أمورٌ غير عقلانية، والتقدم بالنسبة للعقل الفرنسي، يعني المركز الذي يُحوّل البيئة، ويقمع جميع الأشكال التاريخية التي تقع خارج نطاق العقل.

في هذا السياق، لم يكن التنوير مجرد حركة تحررية فحسب، بل كان أيضاً استعماراً للعقل، بينما اختزلت الثورة الفرنسية الفرد إلى مواطن عالمي للدولة-القومية، تجاهلت الجموع والجماعات والكومونات، ولهذا السبب فإن العقل الفرنسي، على الرغم من أنه يبدو علمانياً وليبرالياً في ظاهرهِ، إلا أنه يمنح الدولة طابعاً مطلقاً من خلال التفرد والمركزية.

يتشكل العقل البريطاني من خلال نظرية لوك في الملكية، ونظام السوق لآدم سميث، ودولة لوياثان عند هوبز، حيث يتحد العقل هنا مباشرةً مع مفاهيم المصلحة والمنفعة والأمن. هذا العقل البراغماتي يقدّس الفردية، ويرى المجتمعات كأشكال عتيقة، فالفرد الذي هو موضوع الليبرالية، يملك الحق في الملكية، وليس الذاكرة الكومونالية.

لقد كان هذا النوع من العقل، هو الناقل الأكثر فاعلية للاستعمار الحديث، لأنه في حين يُعلن نفسهُ عالمياً، فإنه يُشفّر أشكالاً أخرى من العقل على أنها غير عقلانية، متخلفة، عاطفية أو بدائية، فهو يُساوي النساء بضعف العاطفة، الشعب بالحشد الخام، الطبيعة بالموارد التي يجب السيطرة عليها. وهكذا يعي العقل البريطاني كلاً من الرأسمالية والبطرياركية في آن واحد.

تتحد هذه الأنواع الثلاثة من العقول الحديثة في خط مشترك، فجميعها تستند إلى عقل الدولة والعقلانية العلمية والبطرياركية والتكوين القومي، حيث ينفصل العقل عن العلائقية والدلالات والعاطفة والأخلاق والطبيعة، ويصبح تقنياً وأداتياً ومركزياً، ففي هذا العصر الجديد، يتمّ قمع عقل المرأة والحدس الكومونالي والعلاقات الأخلاقية وذاكرة المجتمع.

يصبح هذا التحليل أكثر وضوحاً عند مقارنته بمفهوم العقل التواصلي لجورغن هابرماس، حيث ينتقد هابرماس استغلال العقل الحديث ويؤكد أن العقل المجتمعي لا يمكن تحريره إلا من خلال العمليات التواصلية، أي العمليات القائمة على التفاهم المتبادل، أي التواصل. وبالمثل، يكشف تحليل ميشيل فوكو للسلطة-المعرفة، كيف أن أنواع العقل الحديث تُنظّم المجتمع من خلال إنتاج المعرفة، وبالتالي فإن عقل الكرد ليس مجرد وعي تاريخي لشعب ما، بل هو في نفس الوقت خط معرفي بديل ضد هذه المعرفة المُسخّرة والأنظمة الدولتية.

لذا فإن عقل الكرد ليس مجرد طريقةُ تفكيرِ شعبٍ ما، بل هو شكل من أشكال المقاومة المعرفية والوجودية والأخلاقية والسياسية ضد كل هذه الأشكال من القمع. ولتعريف عقل الكرد، لا بد أولاً من معرفة هذه الأنواع من العقول وفهمها وكشفها.

٣.  ولادة القاتل الكاستي وغوبكلي تبه، إضفاء الطابع المؤسسي على العنف:

ارتبطت حياة الإنسان في عصور ما قبل التاريخ ارتباطاً وثيقاً بالطبيعة، وكانت قائمة على علاقات كومونالية، ولكن في خضم هذه الاستمرارية الكومونالية، حدثت قطيعة تاريخية، حيث أصبح العنف أداة، وتزايد هذا الطابع حتى أصبح مؤسساتياً، وكان العامل الرئيسي الذي مكّن من هذه القطيعة هو ظهور النمط الذهني والتنظيمي الذي نسميه القاتل الكاستي.

يظهر النموذج الأولي للقاتل الكاستي في عمليات صيد الحيوانات، حيث أن الصيد ليس مجرد ممارسة للبقاء على قيد الحياة، بل هو تدريب على العنف أيضاً، فاستخدام الأدوات الحادة في هذه العملية -مثل السكين والرمح والحربة- يرمز إلى قوة الإنسان ضد الطبيعة، كما يؤدي إلى نشوء ثقافة عنفٍ قد تم استيعابها داخلياً.

على الرغم من أن الصيادون يؤدون وظيفة تساهم في استمرار بقاء المجتمع، إلا أن هذه الوظيفة تتحول مع مرور الوقت إلى امتياز، ومن ثم إلى شكل من أشكال القوة المنظمة، بينما تُمهِّد ممارسة الصيد، الأرضية لتكوين الكاست الذي يتعلم فرض السيطرة بالعنف، كما أن هذا الكاست يكتشف إمكانية تعلم العنف وإمكانية التحكم والتدقيق من خلال التكرار، فيصبح الصيد بعد ذلك مهارة قابلة للتطبيق ليس فقط على الطبيعة، بل أيضاً ضد المجتمع الكومونالي.

غوبكلي تبه ليست مركزُ الاعتقاد فحسب، بل هي في نفس الوقت أول انعكاس معماري للسلطة الكاستية في عصور ما قبل التاريخ، حيث تشير الأحجار الضخمة، والأشكال الحيوانية، والساحات المغلقة إلى إنتاج قداسة جديدة، منفصلة عن الدورة-البيئية الطبيعية للمجتمع، فلم تعد هذه القداسة متكاملة مع الطبيعة، بل أصبحت نظاماً مبنياً بشكلٍ هرمي يجب حمايته بشدة.

 ما ينبغي الانتباه له في هذه النقطة هو المعنى السياسي لغوبكلي تبه، حيث لم يعد هذا الهيكل يُمثل الحياة الكومونالية، بل أصبح يسحقه، وينظمه بشكل رمزي، وهو ليس تنظيماً من الأسفل إلى الأعلى، بل هو الخطوة الأولى لتنظيم علاقة السلطة المرسومة من الأعلى إلى الأسفل، وهذا هو المجال الأول الذي يتم فيه تنظيم القاتل الكاستي ليس فقط كشخص فردي، بل كنموذج مجتمعي.

يصبح هذا الأمر أكثر وضوحاً عندما يُؤخذ بعين لاعتبار تحليل بيير كلاسترس لأشكال المقاومة التي طورتها المجتمعات التي بلا دولة ضد الدولة، ويُؤكد كلاسترس أن مأسسة العنف تُعطل المنطق الداخلي للمجتمعات، بينما تُطور المجتمعات التي بلا الدولة -على العكس من ذلك- هياكل تحدُّ من العنف والسلطة المركزية، ويُشير النظام الرمزي لغوبكلي تبه إلى نقطة تحوّل، حيث تمّ كسر آليات الحد هذه بحد ّذاتها، وتمّ تقديس العنف، وتمّ تمثيل السلطة لأول مرة على المستوى المعماري.

غوبكلي تبه هي نقطة انكسار، حيث لاتزال المعايير الكومونالية حيّة، ولكن الرموز الذكورية أصبحت مركزية تدريجياً، وخلال هذه المرحلة الانتقالية، تبدأ الرموز والهياكل والطقوس المجتمعية بشكل متزايد في تمثيل هيمنة الذكور، وتصبح الآلهة ذكورية، والمقدسات ذكورية، والحكّام ذكوريون. هذه العملية ليست مجرد تحول للجنس، بل هي أول مأسسة للقطيعة الذهنية والقمع. لم تعد الكومونة متماسكة من الداخل بل يراد تفكيكها، حيث تخترق الذهنية الذكورية الذاكرة الجماعية من خلال الرموز المقدسة.

لكن لم يتقدم هذا النوع من القاتل الكاستي فقط من طرفه، فبالتزامن مع عملية غوبكلي تبه، طورت العديد من المجتمعات الكومونالية في ميزوبوتاميا والمناطق المحيطة بها مقاومة سياسية ضد هذا الشكل الجديد من العنف، استناداً إلى التنظيمات القبلية والعشائرية، فقد كان النظام السياسي الناتج رداً على النظام التنظيمي الذكوري الناشئ، يعتمد على التنظيم القبلي والعشائري، ولم تُجسّد هذه التنظيمات وحدةً بيولوجية فحسب، بل جسّدت أيضاً شكلاً من أشكال الوحدة الأخلاقية والسياسية، وقد تمّ دعم  العلائقية، والتقاسم، وعقل المجتمع، والاقتصاد الأخلاقي في مواجهة المنطق الإقصائي للعنف.

لعب الشعب الكردي وأسلافه دوراً رائداً في هذه الأشكال القبلية والكونفدرالية للمقاومة، وقد استجابت ثقافة المقاومة، لا سيما على طول خط زاغروس-طوروس، ضد العنف المركزي من خلال التنظيمات الكومونالية، فكان هذا الشكل السياسي النموذج الأكثر تطوراً للتنظيم السياسي في فترة ما قبل الدولة، كما شكّل مصدراً للتعريفات المجتمعية التي نشأت نتيجة الديناميكيات الداخلية والبيئية للمجتمع، ومن الملاحظ أن الكرد كانوا رواداً للأشكال المسماة بالعشيرة والقبيلة في عمليات المجتمع الكومونالي.

خلال هذه العملية، يبدأ العقل الكومونالي -المعرفة القائمة على العلاقة، ومعايير السلوك الأخلاقي، والتوازن التحليلي العاطفي- بالكبت تدريجياً، فالعقل الكاستي لا يسبب انكماشاً جسدياً فحسب، بل معرفياً وأخلاقياً أيضاً، فلم تعُد المعلومة الصحيحة تُشْتَق من العلاقة والمعنى، بل من القوة والإكراه، وهذه إحدى المراحل المبكرة لكبت عقل الكرد.

يبدأ الانقسام المجتمعي تحديداً عند هذه النقطة، فبينما يدافع العقل العاطفي عن حياة أخلاقية وتشاركية، يتحور العقل التحليلي إلى بنية مركزية قائمة على قوة ذات عقلانية أداتية، وسيتحول هذا الانقسام الداخلي لاحقاً إلى انقسامات طبقية وجنسية ومؤسساتية أكثر وضوحاً، ولكن يمكن ملاحظة أولى آثاره بوضوح في غوبكلي تبه ومراكز مشابهة.

4. العقل الكومونالي والمنطق الداخلي لعقل الكرد:

يجب فهم عقل الكرد ليس فقط كشكل أثني أو جغرافي للعقل، بل أيضاً كامتداد لذهنية كومونالية مكبوتة تاريخياً لكنها صامدة، ولا يمكن اختزال هذا العقل في المنطق الشكلي للعقل اليوناني، ولا في الأشكال الأداتية والاختزالية للعقل الغربي الحديث، بل على العكس إنه يتمتع بتماسك داخلي متأصل، واستمرارية أخلاقية، وتنظيم علائقي.

السمة الأساسية الأولى للعقل الكومونالي، هي أن المعرفة لا تُبنى من خلال الأشياء الخارجية فحسب، بل من خلال العلاقات، حيث تنبع المعرفة الصائبة من خلال الحفاظ على الروابط الهادفة بين الفرد والمجتمع، الإنسان والطبيعة، الماضي والحاضر، وهذا النمط من التفكير العلائقي يُوَلِّد أيضاً معرفة متداخلة مع الأخلاق، إذْ لا تكون المعرفة ذات قيمة إلا بالفائدة المجتمعية والمسؤولية الأخلاقية، ومن هذا المنظور؛ فإن المعرفة الكومونالية ليست أداتية أو محايدة، بل على العكس، تكتسب معناها في سياق الوجود المجتمعي.

هذا النهج يحمل موازاة قوية مع نظرية 'اقتصاد الهدايا' لمارسيل موس، فوفقاً لموس، الهدية ليست مجرد تبادل اقتصادي، بل هي أيضاً آلية تعيد إنتاج العلاقات والروابط والمعنى المجتمعي. وبالمثل، فإن مفهوم 'الاقتصاد المُدمَج' لكارل بولاني يظهر أن الاقتصاد ليس مستقلاً عن العلاقات المجتمعية، بل هو ممارسة مدمجة داخلها، فعند التفكير في مفهوم عقل الكرد حول المعرفة العلائقية في ضوء هذه الأطر النظرية، فإنها تصبح بمثابة بديل تاريخي ضد النموذج الحديث للعقل الرأسمالي، المتمثل بالفرد المفكك وتصوّر السوق، علاوة على ذلك؛ فإن فلسفة العملية لألفريد نورث وايتهيد تصف الكينونة ليس من خلال الأشياء الثابتة بل من خلال العمليات العلائقية، وهذا ما يتوافق مع أسلوب عقل الكرد في تصوّر وحدة (الطبيعة-المجتمع-الإنسان).

إن سر بقاء عقل الكرد عبر التاريخ لا يكمن فقط في الحكمة الفردية، بل في الشكل التنظيمي، أي في شكل الوجود الكومونالي، فالسمة الأساسية لهياكل مثل الكلان، العشيرة، الجماعة، المجلس والكومونة هي تجسيد القيم الأخلاقية وتنظيمها في ممارسات حياتية.

هذا التنظيم ليس مجرد آلية فحسب، بل هو أيضاً وسيلة لإنتاج المعنى، فالأخلاق هي الروح الباطنية لهذا العالم من المعاني، وفي هذا السياق؛ يمكن تعريف عقل الكرد بأنه نوع من العقل الأخلاقي-التنظيمي، حيث يبني هذا العقل نظاماً معرفياً شاملاً في مواجهة الطبيعة الإقصائية لعقل الدولة، وعلائقياً ودافئاً في مواجهة الموضوعية الباردة للعقل الحديث.

العقل الكومونالي ليس أخلاقياً فقط، بل هو أيضاً عقل يوازن بين العناصر العاطفية والتحليلية، فالعقل التحليلي يهتم بالأشياء والعمليات وحل المسائل، بينما العقل العاطفي يهتم بالعلاقات والحساسيات والاستمرارية المجتمعية. في عالمنا الحديث، انفصل هذان الشكلان من العقل عن بعضهما بشكل صارم، واعتُبر العقل العاطفي "غير عقلاني".

إلاّ أن عقل الكرد لم يتبنَّى هذا الانقسام جذرياً أبداً، بل على العكس، إن العاطفة والتحليل، والحدس-العقل، الأخلاق والمنطق، الحياة-المعرفة، متداخلة مع بعضها البعض دائماً، وإن اختلال هذا التوازن لم يخلق شرخاً لدى الفرد فحسب، بل مجتمعياً أيضاً، وقد رسّخت الحضارة القائمة على الدولة هذا الانقسام، وقامت بقمع العقل العاطفي-الأخلاقي.

في مواجهة كل هذه الأشكال من القمع، لم يختف عقل الكرد بكاملهِ بأي شكلٍ من الأشكال، ففي كل مرحلة من مراحل التاريخ، تمكنت أشكال العقل الكومونالي المقاوم من إعادة إنتاج نفسها بأشكال مختلفة -لدى dengbêj/المغنّي، في المراسم المجتمعية، في حقوق العشيرة، في الحياة الأخلاقية المتشكّلة من قِبل المرأة- ومن هذه الناحية، فإن عقل الكُرد ليس مجرد ذاكرة، بل هو أيضاً شكل من أشكال المقاومة التاريخية.

5. مرحلة أوروك-سومر وقمع العقل الكومونالي:

حدث أكبر انقطاع دراماتيكي في المسار التاريخي لعقل الكرد خلال مسيرة حضارة أوروك-سومر، ولا تقتصر هذه العملية على ظهور نمط إنتاج جديد، أو حياة حضرية، أو الكتابة، بل يجب تعريفها أيضاً من خلال القمع المنهجي للذهنية الكومونالية، ولا ينبغي تفسير هذا القمع على أنه هيمنة طبقية، بل كتغيير أعمق في النظام الذهني.

هذا النموذج الحضاري الجديد، الذي تبلور في مثال دولة مدينة أوروك، تَشكّل بفضل تحالف ثلاث قوى رئيسية: طبقة الكهنة، أرستقراطية المحارب، البنية السلالية، وقد كانت هذه البنية الثلاثية تتمتّع بالشرعية الأيديولوجية، والإكراه الجسدي، والسيطرة الإدارية.

لقد تمّ تأسيس الشرعية من قِبل طبقة الكهنة عبر السماوات (الآلهة)، ومن قِبل الأرستقراطية عبر السيف، ومن قِبل السلالة عبر النسب، وقد شكّل هذا التحالف هجوماً مباشراً على أسس البنية الكومونالية المتمثلة بـ (الإرادة الحرة، قرار المجتمع، التوازن بين الجنسين، التضامن الأخلاقي).

مع عملية أوروك-سومر، أصبحت المعرفة الآن مستمدة ليس من ممارسات حياة الشعب اليومية، بل من الروايات الأسطورية المرفوعة إلى السماء وتفسيرات الكهنة، حيث أن هذه المعرفة رُفِعَت إلى الأعلى إلى الآلهة، ورُفِع القرار إلى الملك، والقداسة إلى المعبد، وقد اتّخذ هذا التكيف المجتمعي شكلاً مركزياً وهرمياً، وهذا الوضع يعني تجمّد الدياليكتيكية؛ فلم يعد المجتمع قادراً على التفكير أو النقد أو الإنتاج داخل ذاته.

فسّر هنري ليفيبفر هذه العمليات بمفهوم 'الدياليكتيكية المجمَّدة'، ووفقاً له، تأتي حيوية الدياليكتيكية من إعادة إنتاج التناقضات المجتمعية باستمرار، لكن الحضارة الدولتية تقمع هذه التناقضات، مما يخلق نظاماً ظاهرياً، ولكنه في الواقع ركوداً فكرياً، وبالمثل، تؤكد نظرية إرنست بلوخ حول 'مبدأ الأمل' على وجود إمكانيات للتحرر، مكبوتة ولكن غير مفقودة، في كل مرحلة من مراحل التاريخ، كما أن في حضارة أوروك-سومر، يُعد تجمد الدياليكتيكية، على حد قول بلوخ، بمثابة إخفاء لما "لم يكن بعد"، عدا أن هذه الإمكانية ظلت قائمة ومحفوظة في عقل الكرد والذاكرة الكومونالية.

وهكذا، سادت معرفة سماوية وآمرية وفردية، بدلاً من المعرفة الاستفسارية والعلائقية والجوهرية، وهذا الأمر يُمثل ثورة معرفية وكذلك ثورة مضادة سياسية.

تعمل الدولة هنا ليس فقط كأداة قسرية، بل كشكل من أشكال العقل، أمّا ما يُقمَع، فهو لم يعد مجرد مجتمع، بل ذاكرة وبنيتها، فبدءاً من هذه العملية، تتحوّل كتابة التاريخ إلى تاريخ الملوك والحروب والمدن والسلالات الحاكمة، أما الكومونة وعقل الكرد، فإن أشكالهم التاريخية من كلانات وعشائر وقبائل وتنظيمات ذات طابع كونفدرالي، تُستبعد وتبقى خارج هذه الكتابة. حتى في العلوم الاجتماعية، تُعرّف مثل هذه الهياكل الخارجة عن الدولة على أنها بدائية أو خارجة عن نطاق الحضارة.

يتجلى هذا التحول في النظام الذهني بشكل أكثر وضوحاً في شخصية المرأة والبنية الكومونالية، فبينما كانت المرأة مركز الإنتاج والحكمة والخصوبة واتخاذ القرار، تم تحويلها إلى أسيرة في فترة حضارة سومر، وحصرها داخل المنزل، وخفض مستواها لتصبح أداة قانونية، وكان إقصاء المرأة يعني في نفس الوقت إقصاء الكومونة. العقل المجتمعي المتشكل من الأخلاق الكومونالية يحل محله عقل هرمي قائم على الأمر-التحكّم.

هذا التحول يعني قمع عقل الكرد، لأن عقل الكرد يُعد من أقدم أشكال هذا النمط من التفكير الكومونالي والمتمركز حول المرأة، وأكثره تَجذّراً، فما يتم قمعه ليس فقط المكانة المجتمعية للمرأة، بل شكل التفكير الأخلاقي والتنظيمي بشكل شامل.

من خلال هذه العملية، تم الاحتفاظ بعقل الكرد، كشكل من العقل المكبوت ولكن لم يُدمّر، وفي شكل "دماغ عالق في المنتصف" لا هو استسلم تماماً لعقل الدولة ولا استمر في وجوده بشكلهِ القديم، حيث أن هذا الدماغ العالق في المنتصف، في حين أنه يحمي جوانبهِ العاطفية والأخلاقية من ناحية، فإنه من ناحية أخرى يؤدي إلى عدم القدرة على الوصول إلى التفكير العلمي التحليلي.

إن السمات؛ كالحكمة الحدسية، والذاكرة التاريخية، والمقاومة التنظيمية التي نراها في مجتمع الكرد، هي تجليات لهذا العقل المقموع ولكنه مستتر، حيث لن يتمكن هذا العقل من بناء نفسه من جديد، إلاّ من خلال تركيبة أخلاقية وتنظيمية وتحليلية.

6. ثورة مضادة ذهنية، بدءاً من قمع الزرادشتية وصولاً إلى عقل الدولة:

لم يكن العصر المحوري الذي امتد بين عامَي 800 -200 ق.م، مجرد ظهور لأنظمة فكرية عالمية، بل شهد أيضاً إعادة صياغة الكومونالية أيديولوجياً، حيث أنّ السمة المشتركة لهذه الأنظمة تتمثل في اعتمادها على الكومونالية، لا على السلطة-الدولة، وأهم تيارات ورموز العصر المحوري، يبدأ بالفلسفة الأخلاقية لزرادشت وظهور الديانات السماوية، والعقل السقراطي، والتقاليد والأعراف البوذية والكونفوشيوسية، فقد لاقت جميعها بدعواتها الأولية إلى العدالة الأخلاقية والاجتماعية، صدىً في ضمير المجتمع، متحررةً من العقليات القائمة على الدولة-السلطة.

لم يكن القمع التاريخي للعقل الكردي سياسياً فحسب، بل كان أيضاً من خلال ثورة ذهنية مضادة عميقة، حيث يحمل تاريخ هذه الثورة المضادة في طياته عودة ظهور العقل الكومونالي أيضاً، ففي هذا الصدد؛ الزرادشتية ليست مجرد نظام عقائدي أو أخلاقي، بل هي ولادة للعقل الكردي ونهضته في ظل حضارة الدولة، وبالتالي نهج زرادشت هو نهجٌ قائم على ثورة أخلاقية-فكرية ضد القمع الناجم عن القتل الكاستي، وعن نظام السلالية لدى أوروك-سومر، والعقل الكهنوتي الميتافيزيقي الذي تطور بعد حقبة غوباكلي تبا.

كان كارل ياسبرز أول من استخدم مفهوم العصر المحوري، فمن المسلَّم به أن تحولاتٌ فكرية ودينية كبرى قد حدثت في الصين والهند وميزوبوتاميا وإيران واليونان وإسرائيل خلال هذا العصر، وقد عرّف كارل ياسبرز العصر المحوري (Achsenzeit) بأنه القفزة الأكثر جذرية من حيث الوعي في تاريخ البشرية، حيث واجه الفرد خلال هذا العصر أسئلة تتعلق بالأخلاق والحقيقة الكونية، إلا أن هذا المفهوم ظلّ محصوراً في تفسير غربي، لكن لاحقاً وسّع شموئيل آيزنشتات نطاق ياسبرز بنظريته عن "الحداثات المتعددة"، مؤكداً أن كل حضارة شهدت عملياتها الفريدة من الحداثة الفكرية والاجتماعية، لذا من هذا المنظور؛ لا تُعدّ الزرادشتية فلسفة أخلاقية كونية فحسب، بل أيضاً تُمثّل تجربة "الحداثة" الفريدة في ميزوبوتاميا، وهذا يُتيح النظر إلى عقل الكرد على أنه حاضن لعصرٍ محوري غير غربي.

في هذا العصر؛ بدأت مرحلة اكتساب الكومونالية شكلاً أيديولوجياً، حيث شهدت تحولاً من كومونات قبلية وعشائرية إلى كومونات ذات أساس أيديولوجي، وقد برز زرادشت كـ نبي لهذه المرحلة، وظهرت الكونفدرالية الميدية على الساحة التاريخية كاتحاد الكوموناليات، وليس كنظام دولة.

الزرادشتية عصرٌ يشهد مواجهةً واضحة بين الخير والشر، الحقيقة والكذبة، الوعي الاجتماعي وأيديولوجية العنف، وهذه المواجهة ليست دينية فحسب، بل ديالكتيكية وأنطولوجية واجتماعية أيضاً، فبدلاً من التوفيق بين العقل البشري وما هو إلهي، اختار زرادشت التوفيق بين العقل البشري وما هو أخلاقي، وجعل منزلة العقل في المجتمع دنيوية، لا سماوية، وأعاد التناقضات المتجمدة إلى المجتمع، ففي هذا الصدد؛ تُمثل الزرادشتية ولادة عقل الكرد المكبوت من جديد في صورة كومونالية، وهذا العقل الذي نظّم النور في مواجهة الظلام، أعاد ولأول مرة، تنشيط الديالكتكية من خلال وضع تناقض الخير-الشر في مركز الحياة الاجتماعية.

سقراط هو صدى هذا العقل الكومونالي في الغرب، ففلسفة سقراط، شأنها شأن التقاليد الزرادشتية، هي ديالكتيكية بين الأخلاق الاجتماعية والشجاعة الفكرية، إلا أن هذا الخط انكسر مع بروز أفلاطون، ووُضِعت "فكرة" الدولة في قمة الفلسفة، ففي عالم الأفكار لدى أفلاطون، لم يعد الواقع يكمن في الحياة الاجتماعية، بل في النظام المقدس للدولة، حيث يتم استبدال تساؤل سقراط وعقله الأخلاقي، في نظر أفلاطون، بعقلٍ ميتافيزيقي يُضفي شرعية على الدولة المثالية. إذن هكذا يتم قمع العقل الكومونالي من خلال الفلسفة.

يُديم أرسطو هذه العملية من خلال العلم، فهذا النهج الذي يُقسّم الطبيعة إلى فئات، ويُقسّم المجتمعات إلى تسلسلات هرمية، ويعتبر المرأة مخلوق ناقص وغير فعال، يُقدّم منطق الدولة على أنه طبيعي وعالمي. هذا المفهوم الذي يجعل الزرادشتية دين الدولة لدى الساسانيين، يُعيد بيروقراطيتها، حيث تُستخدَم الأخلاق الزرادشتية لخدمة المصالح السياسية الساسانية، وهنا يتم إضفاء الطابع الدولتي إلى العقل الكومونالي، من خلال إفراغه من محتواه وتغيير شكله.

يتجلى نمط مماثل في التاريخ الإسلامي، حيث كانت بنية الأمة في عهد النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) مزيجاً جديداً من المبادئ الزرادشتية والسقراطية، مقترحةً نظاماً أخلاقياً واجتماعياً وقائماً على المساواة، إلا أن هذا النهج تحوّل مع معاوية إلى مفهوم جديد متمثل بإسلام القصر وثيولوجيا السلطة، وهذا المفهوم الذي استبدل العقل بالحكم، الأخلاق بالطاعة، فصل الإسلام عن جوهره الكومونالي وحوّله إلى أداة أيديولوجية للدولة، وهذا القمع دفع في نفس الوقت عقل الكرد إلى التماهي مع التيارات التحررية في الإسلام عبر التاريخ (مثل أهل البيت المناهضين للأموية، والعلويين، ونهج أحمد الخاني).

كان عصر النهضة بمثابةِ إيقاظٍ للعقل الكومونالي المكبوت، حيث قامت كومونات المدن، والمطالبات بالمساواة الاجتماعية، ومساعي الحرية، بإعادة العقل إلى الحياة والمجتمع والإنسانية، إلا أن هذا العقل في عصر النهضة سرعان ما تحوّل إلى عقل وضعي وأداتي، فهذا النوع من العقل، الذي بدأ مع ديكارت وأسّسه كونت وسميث وهوبز وهيغل، يُفتّت الفرد، ويُشيّع الطبيعة، ويختزل المجتمع إلى آلة يُسيطَر عليها. وهكذا أُعيد قمع العقل الكومونالي هذه المرة من خلال الاستغلال باسم "العلم" و"العقلانية".

في حين أصبحت الجامعات مراكز إنتاج لهذا العقل الأداتي، استخدمته الدول كأداة أيديولوجية. قدّم هيغل ولوك وسميث وكونت، الشخصيات المؤسسة للعقل الغربي، شرعية الدولة والسوق والتسلسل الهرمي على أنها "من أثر العقل"، إلا أن الكُرد لم يجدوا لهم مكاناً في هذا النوع من العقل، فإما تم تهميشهم أو سعَوا إلى تغييرهم ضمن هذا الإطار الذي لا يعبر عن شكلهم الاجتماعي الخاص (الكومونة).

لقد أثّرت الفلسفة الزرادشتية على العالم أجمع بانطلاقتها هذه، حيث يُمثّل المنهج السقراطي تعميقاً فلسفياً لمفاهيم مستمدة من جغرافية ميديا، وكذلك برزت البوذية كأيديولوجية كومونالية معارضة للأرستقراطية، وانتشرت في الصين والهند، كما أن المانوية واصلت إرث الزرادشتية، لكنها انقسمت إلى طريقات تحت ضغوطات الأرستقراطية.

إذن عقل الكرد هو استذكار وإعادة بناء من جديد، إنه استذكار للعقل الكومونالي المكبوت، الممتد من زرادشت إلى سقراط، ومن فجر محمد إلى كومونات المدن، فبعد كل قمع قد وُلِد هذا العقل من جديد، متسلّحاً في كل مرة بعمق أخلاقي أقوى.

7. الثورة الذهنية المضادة وتأسيس عقل الدولة:

سرعان ما طغت موجة مضادة على التيارات التي تحتوي إمكانيات المقاومة الكومونالية في العصر المحوري، إذْ لم تُنظَّم هذه الموجة المضادة سياسياً أو عسكرياً فحسب، بل أيضاً كثورة مضادة على المستوى الذهني، فبناء عقل الدولة يكمن في مركز هذه العملية، ولم تعد الدولة مجرد أداة للعنف، بل هي أيضاً نظام ذهني يُعيد بناء المجتمع من خلال المعرفة والأخلاق والإيمان والفلسفة والفكر.

ولدت الزرادشتية بجوهر شعبي، كتعاليمِ حياةٍ قائمة على الأخلاق والعدالة، إلا أنه خلال العصر الساساني، جعلت هذه التعاليم أيديولوجية رسمية، من خلال دمجها بعقيدة ملك-إله، وتحولت إلى جهازِ حكمٍ مركزي، حيث كان هذا التحول عبارة عن عملية تحويل الأخلاق إلى مجرد شيء-أداة للسلطة. وهكذا، تم خلق شخصية "مَلكٍ حكيمٍ" جديدة، تتحدث لغة الآلهة والصلوات، حيث يتم التحكم بعقول الشعب من خلال الشرعية الإلهية.

هذه العملية تعني محاصرة عقل الكرد من قِبَل عقلية الدولة، حيث أصبح العقل الأخلاقي المنبثق من الزرادشتية أيديولوجية رسمية في عهد الساسانيين، مما أدى إلى نشوء هرمية فككت التنظيم الكومونالي للشعب. وهكذا نشأ وعي متناقض في الذاكرة التاريخية للكرد، حيث أصبحت الزرادشتية ونسختها الدولتية (التراث الساساني) معاً.

يوجد تناقض مماثل في الفلسفة اليونانية، حيث كان سقراط من مدافعي الفكر الكومونالي، وكان الحوار والبحث الأخلاقي وأسلوب التفكير مع الشعب منهجه الأساسي، إلا أن تلميذه أفلاطون أعاد صياغة هذا الفكر بمفهوم الدولة المثالية، ففي كتابه "الدولة" (بوليتيا)، جادل بأن المجتمع يجب أن يُقسَم إلى طبقات منذ النشأة، وأن الفلاسفة يجب أن يكونوا ملوكاً، إلا أن أرسطو شرع هذا الفكر بالقوانين الطبيعية، مؤسساً نظاماً اعتَبَر العبودية ودونية المرأة أمراً "طبيعياً".

يُمثل هذا الوضع قمعاً للعقل الكومونالي، من خلال شرعنته فلسفياً، فالدولة لا تصبح نظاماً سياسياً فحسب، بل أيضاً نظاماً وجودياً ومعرفياً، حيث يجوز النقاش حول الحكام فقط، أما الدولة فبتاتاً. وهكذا يتحقق إضفاء طابع الدولة على الفكر، أي ترسيخ عقل الدولة على أرضية فلسفية.

يُعد مفهوم "العقلنة" لماكس فيبر أساسياً لفهم هذه العملية، فوفقاً لـ فيبر، يُهيمن العقل الأداتي، والقدرة على الحساب، والنظام البيروقراطي، تدريجياً وبشكلٍ متزايد على فكر المجتمعات الحديثة، لكن تكمن جذور هذه العملية في الفكر الدولتي لأفلاطون وأرسطو، أي من خلال جعل الفروق الاجتماعية مألوفة وربطها بالسلطة المركزية، ففي هذه النقطة يلعب مفهوم "الهيمنة" لأنطونيو غرامسي دوراً توضيحياً في هذا الصدد: الدولة ليست جهازاً للعنف فحسب، بل تُولّد أيضاً شرعيتها في مجال الفكر والثقافة. وهكذا يتحول عقل الدولة إلى نظامٍ مهيمنٍ يُحدد ليس فقط علاقات السلطة، بل أيضاً مفهوم الحقيقة ذاته، وبالتالي يتم إدامة قمع العقل الكومونالي على المستويين الفلسفي والثقافي، من خلال هذا العقل المهيمن لدى الدولة.

لقد تحوّل النظام ذو الطابع الكومونالي والمتعدد المجتمعات، الذي أسسه النبي محمد (ص) بعقد المدينة، إلى نظام السلطنة الإسلامية في عهد معاوية بن أبي سفيان، إذْ أننا نلاحظ هنا أيضاً، ثورة مضادة مماثلة، حيث قامت سلطة السلالة باستغلال الدين، ليصبح مركزياً وهرمياً. يتم قمع مشاركة الشعب والتعبير عن الرأي والمطالبة بالعدالة، ليحل محلها ثقافة الطاعة وعقلية الولاء.

أثّر حكم معاوية بشكل مباشر على جغرافية الكرد، حيث اضطرت التقاليد الشعبية الزرادشتية والمانوية والمزدكية، إلى التراجع أمام هذه العقلية الإسلامية ذات الطابع المركزي، وهذا لم يعني انحلالاً للمعتقدات فحسب، بل أيضاً للتنظيم الكومونالي لدى المجتمعات.

كومونات المدن التي عادت للظهور مع عصر النهضة، إلى جانب تطويرها لفكر الحرية، تشهد في الوقت نفسه ظهور نظام معرفي جديد، إلا أن هذا النظام المعرفي يتحول مجدداً إلى أداة للسلطة تحت اسم الوضعية، فالعلم لم يعد محايداً، بل هو في خدمة الدولة ورأس المال والفكر الذكوري.

وفقاً لهيغل؛ الدولة هي "شكل تحقيق الروح"، بمعنى آخر؛ الدولة هي العقل الأسمى. نجد أن هذه الفلسفة تؤدي إلى نشوء القوموية الألمانية واستبدادها، وكذلك إن تمييز ديكارت بين الفاعل والمفعول به (الذات-الموضوع) يمهّد الطريق للاستغلال العلمي من خلال تشييء الطبيعة. أما لوك وآدم سميث، فيصبحان مؤسسَين لعقل الاقتصاد الليبرالي وذلك بتقديسهما للملكية. أما كونت، فينظّم الهرمية الوضعية كـ "دينٍ علميٍّ".

من الخصائص المشتركة لهؤلاء المفكرين: تهميشهم للفكر الكومونالي، تجريدهم للفرد، إعادة تعريفهم للمجتمع وفقاً للسلطة المركزية. وهكذا يضفون طابعاً مؤسساتياً على العقلية القوموية، والملكية، والعلموية، والقائمة على التمييز بين الجنسين، المتناقضة تماماً مع عقل الكرد.

تُصبح الجامعة الحديثة مختبراً لعقلية الدولة هذه، في حين تتخذ الأكاديمية شكلاً وفقاً لمصالح الدولة والسوق والنظام الأبوي وليس وفقاً للحقيقة، وبالتالي ما يتم إنتاجه هو معرفة متخصصة ومجزأة وأيديولوجية، وليست معرفة كومونالية. يُعتبر عقل الكرد "غير علمي" أو "متخلفاً" لأنه خارج نطاق هذا النظام، علماً أن هذا الإقصاء ليس رفضاً، بل وجوداً لنظام مستقلٍ ومتميزٍ للحقيقة.

8. قوة عقل الكرد الفاتحة للآفاق في الشرق الأوسط والباراديغما الجديدة :

إن أعمق شرخ لدى لشعب الكردي يكمن في عدم عيشه بعقله الخاص، إذ أُجبر لقرون على بناء نفسه استناداً إلى عقل الآخرين، فالاستعمار والتفكيك والإذابة داخلياً ليسوا مجرد احتلالٍ للأرض؛ بل أيضاً احتلالٌ ذهني، حيث أن أخطر أشكال هذا الاحتلال الذهني هو اعتقاد الشعب الكردي أن تاريخ الآخرين هو تاريخه، وقبول نظام الآخرين هو قدره، وكذلك محاولته لفهم واقعه من خلال مفاهيم الآخرين. فهذا هو محوٌ لعقل الكرد وقمعه، وهنا عندما نقول عقل الكرد فإننا نقصد التغلب على هذا القمع الذهني تاريخياً، فعقل الكرد ليس مجردُ وجودٍ للشعب، بل هو إدراكُه لهذا الوجود وتحويله إلى مفاهيم وإعادة بناء لهذا الوجود، لذلك إن عقل الكرد ليس مجرد تكوين فكري، بل هو كلٌّ متكامل من حيث الأخلاق، علم الاجتماع التاريخي، السياسة، علم الوجود، علم المعرفة، العلائقية، المعنى.

عقل الكرد ليس مجرد وعيٍ ناشئ من نضال الحرية ليومنا هذا، بل هو إرث ذهني واجتماعي لعشرات آلاف السنين من الحياة الكومونالية، حيث تكمن جذور هذا العقل في جبال شانيدار، وسفوح قراج داغ، ووادي الزاب، ومنحنيات جبال طوروس-زاغروس، وتل حلف، وفي أصوات تلك الكلانات الأولى التي تشكلت وتطورت بريادة المرأة، وفي المجتمعات الأولى التي تشبثت بالأرض. إن أنثروبولوجيا الكرد هي مفتاح ليس لفهم ماضي الكرد فقط، بل هي أيضاً عملية أنسنة البشرية، فالانتقال من لغة الإشارة إلى اللغة الرمزية، ومن حياة الكلان إلى كونفدرالية العشائر، هي مراحل حدثت في جغرافية الكرد، لذلك فإن عقل الكرد ليس حاملاً لوعي أثني فحسب، بل هو أيضاً حاملٌ لأول وعي اجتماعي كومونالي للبشرية، وقد شهد العصر المحوري حوالي عام 800 قبل الميلاد، التكوين الأيديولوجي لهذه الكومونالية، لكن قُمِع هذا العقل بظهور فلسفة الدولة، وكل هذه الأشكال من القمع التاريخي هي أمثلةٌ شاملة عن القمع السياسي والاجتماعي والفكري للعقل الكومونالي. في الحقيقة إن عقل الكرد هو ذاكرة هذا القمع، فالحوريون والسوباريون والنائيريون والكوتيون والكاستيون والميديون، وزرادشت وماني والغيلاني والمرواني، والتسع وعشرون انتفاضة، وغيرها؛ جميعها سلسلة من الحلقات التاريخية لعقل الكرد، قاسمها المشترك هو الدفاع عن القيم الكومونالية، لكن دائماً كان يتم ممارسة القمع نتيجةً للتأثير العميق والحاسم للانحلال الاجتماعي الداخلي، مقترناً بعوامل خارجية.

عقل الكرد ليس مجرد تذكير بالماضي، بل هو إعادة بناء الحاضر والمستقبل، لذا يجب أن يتحول هذا العقل إلى ثورة ذهنية معاصرة من خلال منظور الحداثة الديمقراطية، فظاهرة الكورمانج هي الأساس الاجتماعي لهذا التحول، فالكورمانج هو شكل من أشكال التحول الغير قَبَلي، هو التحول إلى شعب، لكنه لم يصبح أمة بعد. هذا الشكل هو مجموع مراحل المقاومة التي مرّ بها الكرد، من تحضر واعتناق مذهب وتكوين نظام المعتقدات في الجغرافيا الجبلية. لقد تحول عقل الكرد إلى شعبٍ من خلال طابع الكورمانج، لكنه لم يؤسس إدارته الذاتية بعدْ، لذلك مفهوم علم الاجتماع التاريخي أمر بالغ الأهمية. يجب أن يتم تأريخ عقل الكرد بأنه مبني على الكومونة لا الطبقة، على نمط العلاقات لا نمط الإنتاج، على المجتمع لا السلطة. يكشف علم الاجتماع التاريخي عن ماضي الكرد الغير الطبقي والبنّاء للمجتمع. التاريخ المدوّن بهذه الطريقة يحرر عقل أي شعب.

الأمة الديمقراطية هي التجسيد السياسي والاجتماعي لهذا العقل، لذا يجب الاعتراف بالقبيلة والعشيرة والطريقات والمعتقدات والتنوع الأثني والظاهرة الطبقية، على أساس الحقوق الكومونالية-المجتمعية، ويجب أن يعيشوا بشكل ديمقراطي داخل هيكل كونفدرالي. إذا كانت جغرافية كردستان بشكل خاص، وجغرافية الشرق الأوسط بشكل عام، أقدم الأراضي اليهودية والمسيحية والإسلامية، فمن الواضح أن هذا الثراء لا يمكن عيشه إلا من خلال عقل الأمة الديمقراطية، لذا يجب أيضاً إعادة تعريف العلاقات بين الكرد والفرس والعرب والترك بناءً على هذا العقل. في الحقيقة لم يحدث أي تحول سياسي كبير في الشرق الأوسط إلا بوجود الكرد، ولم يتمكن الفرس والسلاجقة والعرب والعثمانيون من إنشاء نظام بدون الكرد، لأن الكرد دائماً كانوا أفضل الجنود وأكثر المؤيدين الحازمين في هذه العمليات، فَهُم لم يعيشوا بعقولهم الخاصة، بل بعقول الآخرين، لذا يجب كسر هذه الدورة، فالتحالف الذهني والسياسي القائم على المساواة والحرية والطواعية بين شعوب كل بلد من هذه البلدان، من شأنه أن يجعل المستقبل ممكناً.

تتضح هذه الرؤية أكثر عند النظر إليها بالتزامن مع مفهوم كورنيليوس كاستورياديس للإدارة الذاتية، حيث يرى كاستورياديس أن الديمقراطية الحقيقية تكمن في قدرة الأفراد والمجتمعات على إنشاء مؤسساتهم الخاصة وتطويرها، فالأمة الديمقراطية تجسد هذا المبدأ بحد ذاته في الإدارة الذاتية من خلال الكومونات والمجالس والهياكل الكونفدرالية، كما أننا نجد في الوقت نفسه، أن مفهوم مايكل هاردت وأنطونيو نيغري عن "التعددية"، يتوافق مع المنطق التنظيمي التعددي والأفقي للحداثة الديمقراطية، فالتعددية -على عكس بناء المواطن المتجانس للدولة القومية- تدل على وحدة مشتركة بين مختلف الفاعلين الاجتماعيين، لكن ليس بشكل فردي. في هذا السياق؛ يحوّل عقل الكرد منظورات الإدارة الذاتية والتعددية التي طرحتها النظريات السياسية الحديثة، إلى نموذج ملموس على الأرضية التاريخية-الكومونالية للشرق الأوسط.

يجب الاعتراف بأن عقل الكرد قد قُمِع بفعل تنامي نزعات الدولة والدين والقومية والعلمية والتمييز بين الجنسين، وأنه قد عاش من خلال عقول الآخرين وتواريخهم ومفاهيمهم. إن عقل الكرد الذي قُمِعَ وهُمّش وتعرّض للانقطاع عبر التاريخ، ولكنه لم يُستأصل قط، يبرز الآن من جديد على المسرح التاريخي. هذه ليست مجرد صحوة شعب واحد، بل ثورة ذهنية قد تُمهّد الطريق للشرق الأوسط بأكمله. عقل الكرد لا يُشبه العقل الفردي والقوموي والوضعي للحداثة الغربية، ولا التقاليد الثيوقراطية والأبوية والمركزية في الشرق، بل إنه إعادة بناء للعقل الأخلاقي والاجتماعي القائم على علم الاجتماع التاريخي والمفهوم السياسي.

إن الباراديغما التي تمت صياغتها بريادة السيد أوجلان، هي في جوهرها إعادة إحياء لهذا العقل الكومونالي المكبوت، فما يشير إليه السيد أوجلان بمفهوم "xwebûn/إدراك الأنا" ليس الوعي الفردي فحسب، بل أيضاً إرادة بناء العقل الجماعي من جديد، وهذه الإرادة لا تطغى عليها العقلية العالمية للغرب، ولا هي ضمن نظام الولاء التقليدي للشرق.

إن باراديغما السيد أوجلان لا تُحدد الشعب الكردي على أساس الحقوق القومية فحسب، بل أيضاً تحوّله إلى كيان يُكوّن عقله الخاص أخلاقياً وسياسياً وتنظيمياً وفكرياً. وهكذا يتم تجاوز النقد القائل بأن أوجلان "يهمّش حقوق الشعب الكردي"، فالمسألة لم تعد مسألة حقوق فقط، بل أيضاً مسألة عقل ووجود. بهذا المعنى نجد أن باراديغما السيد أوجلان تنشئ عقلاً كردياً يُضاهي العقول الألمانية والفرنسية والانكليزية.

إن انبعاث عقل الكرد، يُتيح مخرجاً لجميع شعوب الشرق الأوسط، وليس فقط حرية الشعب الكردي، لأن الجرح المشترك لهذه المنطقة هو غيابٌ للعقل الأخلاقي-الاجتماعي المكبوت، وقد تم ملء هذا الفراغ بالدول القومية والقوى المذهبية والأنظمة الذكورية وعقلية السوق. وفي مواجهة هذا الحصار الذهني، يُعيد عقل الكرد طرح عقل جماعي، علائقي، مرتكز على الأخلاق.

إن الأشكال الملموسة لهذا العقل الجديد هي: الكونفدرالية الديمقراطية، مجالس الشعب، الكومونات، أيديولوجية حرية المرأة، منظور الحياة الإيكولوجية، التنظيم الاجتماعي التعددي. هذا النموذج ليس "دولة كردية"، بل منظومة ذهنية، وبهذه المنظومة، لن تُحكم شعوب الشرق الأوسط بالاستعمار الغربي، ولن تعود إلى التقاليد الاستبدادية القديمة.

يلتقي عقل الكرد بالذاكرة الكومونالية للشعوب المضطهَّدة، للنساء، للهويات المهمشة، للطبقات المُستغَلّة عبر التاريخ، وهذا الالتقاء يُمثل إعادة تأصيل للديالكتيكية الأخلاقية-الاجتماعية التي بدأت في العصر المحوري، ثم كُبِتت لاحقاً.

ما نحتاجه لتحقيق ذلك هو ثورة ذهنية، فعقل الكرد ليس مجرد طريقة تفكير، بل هو أيضاً أسلوب حياة، وشكل من أشكال التنظيم، وطريقة لإنشاء المعنى، وهذا لا يُعتَبَر عودة إلى الماضي ولا تشبهاً بالحداثة، بل هو تاريخياً؛ قفزة نوعية جديدة.

إن أعظم مأساة تاريخية عاشها الشعب الكردي لم تتشكل فقط من خلال الاحتلال المادي-الجسدي، بل من خلال القمع الذهني أيضاً، ففقدان الحقيقة أعمق من فقدان الأرض، ويتجلى هذا الفقدان في شكلِ خلطٍ بين تاريخه وتاريخ الآخرين، وخلطٍ بين واقعه ومفاهيم الآخرين، وكذلك تبني عقول الآخرين على أنه فكر خاص به، وذلك لأنه لفترة طويلة من الزمن؛ أُجبِر الكرد على التفكير بأنظمة فكرية أنتجها الآخرون، وليس التفكير بعقلهم، وهذا ليس مجرد صَهر ثقافي، بل إنه إنكارٌ وجوديٌّ. إن الهجمات التي تحمل طابع الحرب الخاصة، والنقد الفكري الدوغمائي، والخطابات القومية الضيقة، والتفكير بعقول الآخرين، والمحفوظات الاصطلاحية، التي تتطور في العديد من المجالات المختلفة اليوم، هي الآثار الجانبية لعالم فكر الآخرين.

عقل الكرد هو تخطي كل هذه الأقاويل، إنه ليس مجرد وعي فكري، بل هو أيضاً بعث تاريخي واجتماعي وأخلاقي وأنتولوجي، هذا العقل هو أسلوب إعادة بناء المعنى والعلاقة والحقيقة والحرية داخلياً، إنه الجرأة لإعادة تفسير وجوده ضمن إطار كومونالي، إنه حاضنٌ للتراث الثقافي المتمحور حول المرأة، وللعلاقة المتناغمة مع الطبيعة، ولأسلوب الحياة المبني على المعنى والأخلاق.

كل شعب يبني شكلاً من أشكال العقل من خلال تجاربه التاريخية، فالعقل الألماني أضفى الصيغة الفلسفية على عقل الدولة، من خلال مفكرين مثل هيغل وهايدغر، فبينما أشاد هيغل بالدولة باعتبارها "تجسيداً للعقل"، سعى هايدغر إلى إيجاد أرضية أنتولوجية للأزمة الوجودية للشعب الألماني. أما العقل الفرنسي فقد اعتمد مع ديكارت على العقلانية، ومع كونت على الوضعية. أما العقل الإنجليزي فقد اعتمد على براغماتية لوك وهوبز، وعلى الاقتصاد السياسي لآدم سميث. إذن هذه العقول قد أنتجت أسس أيديولوجية الدولة-القومية للرأسمالية الحديثة، وقد تشكلت كل واحدةٍ منها وفقاً للطبقة والسلطة والذكورة والتحكم على الطبيعة.

القاسم المشترك بين العقل الألماني والفرنسي والإنجليزي هو الانطلاق من العلاقة وصولاً إلى الدولة، ويُعدّ مفهوم هيغل: "عقل الدولة" أوضح مثال على ذلك، فوفقاً له يبلغ العقل أسمى صوره في الدولة، أي أنه يتم تخطي التناقضات في الدولة، ويتحقق التوليف أي "الوحدة"، وهذا يعني محاولة لإلغاء سلبية التناقض من الناحية الفلسفية. أما الوضعية الفرنسية (ديكارت، كونت) فهي عندما تقوم بترميز المجتمع بالعلم، لم تترك مجالاً للتناقض. أما البراغماتية البريطانية (لوك، هوبز، سميث) فقد عرّفت المجتمع من خلال الملكية والأمن، وعزت الحل إلى الدولة. إذن جميع هذه الأنواع من العقل الغربي ترتبط في نهاية المطاف بعقل الدولة الذي يقمع التناقض من جانب واحد.

إن طبيعة الدولة تعني قمع التناقضات، وليست تغييرها، وهذا هو المبرر الأنتولوجي لوجودها. ترى الدولة الاختلافات الاجتماعية "خطراً"، لذا تجمّدها، وتقمعها، وتجبرها على التجانس، إنها تنظر إلى التناقض، كتهديد وليس كمنتِج، لهذا السبب؛ إن عقل الدولة بطبيعته مجمِّد وقمعي.

إن كل من نهج السيد أوجلان وعقل الكرد هو نقيض ما ذُكِر تماماً، فبدلاً من دولةٍ كما في نهج هيغل، يبدأ السيد أوجلان بالعلاقات الكومونالية ومن هناك يصل إلى الكونفدرالية الديمقراطية، أي يبدأ بالعلاقات، ومن خلال الكونفدرالية الديمقراطية، يقود إلى تجربة التناقضات وتحويلها. هنا؛ لا تُقمع التناقضات، بل تُعاش وتُناقَش وتُحوَّل، لتصبح أرضية ليبني المجتمع نفسه من جديد. هذا العقل يُجدد التناقضات التي تقمعها الدولة من خلال مجتمع أخلاقي-سياسي منظم.

بهذا الشكل؛ عقل الكرد لا يعارض الدولة فحسب، بل يعارض أيضاً العلم المعرفي لعقل الدولة، فعقل الكرد عقلٌ علائقي كومونالي، لا يرى التناقض انحرافاً، بل ديالكتيكيةُ الحياة، يُظهر حقيقة المجتمع بتحويل التناقضات عبر تنظيم علائقي، وليس بقمعها، لذلك يُعطي السيد أوجلان الأولوية لتحويل التناقضات عبر نظام كومونالي، بدلاً من نموذج الدولة عند هيغل.

تُبيّن هذه النقطة أن بدء عقل الكرد بالكومونة كان في الواقع إرادةً لإقامة نظام قائم على تحويل التناقضات، وهذا ليس مجرد شكل من أشكال الإدارة، بل هو شكل ذهني. يقوم العقل الكومونالي بتحويل التناقض، منتجاً "حقيقة حية"، بينما يخلق عقل الدولة "نظاماً زائفاً" بتجميد التناقض.

لكن عقل الكرد يقف في مواجهة هذا النهج تماماً، فهو ليس طبقياً بل كومونالياً، ليس دولتياً بل مجتمعياً، ليس متحيزاً جنسياً بل متمحور حول المرأة، لا يُشيّء الطبيعة باسم العلموية بل يتناغم معها. يجد المعنى داخلياً؛ في العلاقات، وفي الحياة نفسها، وليس خارجياً. هذا العقل حاملٌ للذاكرة الجماعية لشعوب العصور القديمة، فجميع المساعي الأخلاقية والاجتماعية، من العصر المحوري إلى الزرادشتية، ومن الفكر السقراطي إلى ماني، هي جذور تاريخية لعقل الكرد.

في هذه النقطة؛ تكتسب القطيعة التأسيسية للسيد أوجلان، أهمية تاريخية خاصة، فقراءة التاريخ الكردي من خلال مفهوم الكومونة بدلاً من الطبقة، والتركيز على نمط العلاقات بدلاً من نمط الإنتاج، وتطوير تحليلات مجتمعية وأخلاقية بدلاً من تحليلات السلطة، كل هذه الجوانب تُمثل قطيعة باراديغماتية عن اليسار الكلاسيكي وفكر الغرب. السيد أوجلان ليس قائداً سياسياً فقط، بل هو أيضاً المؤسس التاريخي لعقل الكرد.

في هذا السياق؛ لا يُعد مفهوم "xwebun" مجرد وعي فردي، بل ثورة ذهنية تاريخية وجماعية، ولم يعد عقل الكرد عنصراً تابعاً للآخرين، أو جندياً عند الآخرين، أو حاملاً لأيديولوجية الآخرين؛ بل هو الكيان المؤسس لتاريخه الخاص، وأخلاقه الخاصة، وفلسفته الخاصة، وتنظيمه الخاص.

إن أزمة الشرق الأوسط المُعاشة اليوم، ليست مجرد أزمة سياسية، بل هي صراع بين أشكال العقل، فالعقول الدولتية، الوضعية، التمييزية بين الجنسين، المجزأة، هي في طريقها إلى الانهيار، لذا يقدم عقل الكرد نموذجاً جديداً للحياة الأخلاقية والسياسية والاجتماعية في عصر الانهيار هذا. الحداثة الديمقراطية هي المشروع المؤسس لعقل الكرد، لذا يمثل هذا العقل بديلًا تحررياً، ليس للكرد فحسب، بل لشعوب الشرق الأوسط والبشرية جمعاء.

كنتيجة؛ إن النقاش حول عقل الكرد، ليس مجرد إعادةُ بناءِ ذاكرةٍ مكبوتة لشعب ما، فهذا العقل يُشير إلى إمكانية الحرية التي تتجاوز الفخ المعرفي الذي أوجدته أشكال العقل الحديثة القائمة على الدولة والطبقية والتمييز الجنسي والوضعية. فعلى مر التاريخ، يثبت كل قمع وانبعاث استمرارية عقل الكرد، من غوبكلي تبا إلى سومر، ومن زرادشت إلى سقراط، ومن الأمة الإسلامية الأولى إلى المجتمعات الحضرية في عصر النهضة.

إن عقل الكرد، كما يُصاغ اليوم من خلال بارارديغما السيد أوجلان، ليس مجرد وعي أثني أو قومي، بل إنه نوع من العقل القائم على المعرفة العلائقية، والتنظيم الكومونالي، والمجتمعية الأخلاقية-السياسية. في هذا الصدد، يُطوِّر عقل الكرد باراديغما مضادة قادرة على التأثير على نطاق عالمي، إلى جانب العقل التواصلي لهابرماس، والاقتصاد المُدمَج لبولاني، والمجتمعات اللادولتية لكلاستر، والإدارة الذاتية لكاستورياديس، والتعددية لهاردت- نيغري، في مواجهة القمع الدولتي للعقول الألمانية والفرنسية والبريطانية.

لذا، فإن عقل الكرد ليس مجرد أن يعي الشعب الكردي بالحرية، بل هو أيضاً ثورة ذهنية جديدة للإنسانية. إنه عقل يُحوّل التناقضات بدلاً من قمعها، ويُدمج الطبيعة مع العلاقات بدلاً من تشييئها، ويُعيد بناء المجتمع من خلال الروابط الكومونالية بدلاً من تفكيكه. إنه يبرَز كبديل للعقلانية الأداتية للحداثة الغربية، وللمركزية الثيوقراطية للشرق.

لهذا السبب يُعدّ عقل الكرد قوةً رائدةً ليس للكرد فقط، بل لشعوب الشرق الأوسط والبشرية جمعاء. إن استحضار العقل الكومونالي الذي أُجِّلَ وكُبِّحَ وطُوِيَ على مر التاريخ، هو حجر الزاوية في منظور حضاري جديد في عصر الأزمات اليوم. فعقل الكرد، في اتحاده مع الحداثة الديمقراطية، لا يهاب التناقضات، بل يعيشها ويحوّلها، ويحمل في طياته البحث عن الحقيقة، نحو مستقبل البشرية المشترك.

قد يهمك