بث تجريبي

انتخابات سوريا .. بين شرعية التمثيل وإضفاء الغلاف الديمقراطي على السلطة

إن ما تمر به سوريا اليوم هو مرحلة مفصلية في مسارها السياسي والأمني بعد أكثر من عقد من الحرب الكبرى، التي أعادت تشكيل بنيتها المجتمعية والسياسية.

فمع تراجع سلطة المركز وتفكك مؤسسات الدولة التقليدية، ظهرت شبكات أمنية محلية ذات طابع عشائري، مناطقي أو سياسي، لتسد الفراغ الأمني وتفرض أنماطًا جديدة من إدارة المجتمع والسيطرة على الأرض، ناهيك عن محاولات القوى الفاعلة إقليميًا ضبط نفوذها في ضوء المستجدات بالبلاد. هذه التحولات أوجدت مشهدًا مركبًا يعكس هشاشة الدولة من جهة، وتكيف المجتمعات المحلية مع واقع الصراع من جهة أخرى. وفي هذا السّياق، يسعى أحمد الشرع إلى إقامة مؤسسات تمثيلية جديدة، تبدأ ببرلمان يُفترض أن يكون عبر الانتخابات، إلا أن شروط إجراء هذه الانتخابات، من مرسوم مؤقت، آليات غير مباشرة، تعيينات رئاسية لثلث مقاعد البرلمان، تؤشر إلى أن هذه الانتخابات ليست جوهرها تمريناً في تمكين الشعب بقدر ما هي محاولة لإضفاء صبغة ديمقراطية على تركيبة سلطة مُتحكّمة بفعل واقع ما بعد الصراع.

السياق القانوني والدستوري يكشف أن سوريا ليست في وضع استثنائي، بل في حالة مستمرّة من إعادة هندسة المشروعية: إعلان دستوري مؤقت، ممارسات انتخابية مؤقتة، وغير شفافة، وضوابط عامة تتيح سلطة تنفيذية قوية. خلال هذه الفترة، تصاعدت الانتقادات من فئات تمثيلية مهمة: المجالس المحلية، الأقليات، الإدارة الذاتية في الشمال والشرق، منظمات حقوق الإنسان، وحتى بعض الفئات الاجتماعية مثل النساء والشباب. تأجيل الانتخابات في محافظات مثل الحسكة والرقة والسويداء لأسباب أمنية يُنظر إليها على أنها استبعاد مقصود، وليس مجرد إجراء إداري ضروري.

والمشهد الدولي والإقليمي يلعب دوره أيضاً، فالسلطة المؤقتة بحاجة إلى كسب ثقة أطراف خارجية، سواء من جيران أو من المانحين الدوليين، أو المنظمات الدولية، في ظل الضغوط الاقتصادية والمعيشية الشديدة. إجراء انتخابات حتى ضمن هذه الصيغة تُستخدم كدليل على الانتقال إلى نوع من الشرعية المقبولة دوليًا، ما قد يسهم في تخفيف العقوبات، الحصول على استثمارات، وفتح قنوات دبلوماسية. ذلك أن الرأي العالمي لا يكفي فيه فقط إعلان النوايا، بل إرهاصات تتعلق بالمشاركة الحقيقية، الشفافية، وتمكين المجتمعات المهمشة.

تأسيسًا على ما سبق، يسعى هذا التحليل إلى تقديم تقييم دقيق لشرعية الانتخابات المزمع إجراؤها في سوريا، عبر مقارنتها بمعايير الديمقراطية الحقيقية، لاسيما مرونة المنافسة، المشاركة الشاملة، تمثيل الأقليات واللاجئين، ضبط التعيينات الرئاسية، ووجود آليات مساءلة. كما يهدف إلى كشف الفجوات بين الخطاب الرسمي عن التمثيل الشرعي وبين الواقع العملي الذي يظهر فيه أن العملية الانتخابية لا تلبي طموحات التمثيل الشعبي أو التضمين القانوني للمجتمعات المستبعدة.

السياق السياسي:

في ظل هذه المرحلة الانتقالية أعلنت الحكومة السورية نظامًا انتخابيًا مؤقتًا بموجب مرسوم رئاسي ينظم عمل البرلمان القادم ويخصص ثلث مقاعده للتعيين الرئاسي، فيما تُنتخب النسبة الباقية عبر آليات غير تقليدية أعلن عنها الجهاز المشرف على الانتخابات. هذا الإطار المؤقت يُعرض كخطوة انتقالية إلى شرعية مؤسساتية، لكنه عمليًا يدمج آليات التعيين الرسمي داخل الهيكل التشريعي، ما يضع تساؤلات أساسية حول قدرة الجسم المُنتخب على تمثيل الإرادة الشعبية أو ممارسة رقابة حقيقية على السلطة التنفيذية. فقد ظلت الصيغة القانونية والآليات التفصيلية للترشيح والتصويت غير واضحة أمام الجمهور، بينما تصاعدت مواقف نقدية محلية ودولية تطالب بإصلاحاته قبل أي اعتبار لشرعية البرلمان.

لا يزال المشهد السوري مجزأ، فهناك مناطق عديدة لها استثناء عملي من عملية التمثيل السياسي بسبب عدم توافقات أمنية وإدارية، وفي المقابل ينتشر التشتت السكاني بسبب النازحين واللاجئين الذين فقد كثير منهم القدرة على المشاركة في آليات التصويت أو تسجيل الأسماء. هذا التوزع الجغرافي والسكاني يولد برلمانًا مفترضًا لا يشمل شرائح كبيرة من المواطنين، ويجعل أي نتيجة انتخابية موضع شك في كونها انعكاسًا لإرادة وطنية جامعة. غياب قدرة الدولة على ضمان شمولية الجغرافيا والسجل المدني يضعف من شرعية العملية من منطلق واسع.

مازالت بؤر التوتر تُستثمر ما ينتج حوادث عنف مجتمعي في الجنوب وتحديدًا بالسويداء، وتبادل نيران في مناطق متفرقة، إضافة إلى نشاطات خلايا مسلحة في البادية ومناطق جنوبية وغربية تؤثر على مناخ الأمان اللازم لإجراء انتخابات حرة. التدهور المعيشي وتآكل الخدمات العامة (غذاء، صحة، كهرباء) يركز أولويات المجتمع اليومية على البقاء وليس على المشاركة السياسية، ما ينعكس في ضعف الطلب الشعبي على انتخابات ذات قيمة تمثيلية حقيقية. في هذا الواقع، أي انتخابات تُجرى بلا معالجة تراكمية لهذه الأزمات ستبدو شكلية وسياسية أكثر منها ممثلة.

وهذه السلطة الانتقالية تواجه رهانًا مزدوجًا، فعلى المستوى الداخلي هي بحاجة إلى إظهار قدرة على الحكم المؤسسي، وخارجيًا تسويق صورة استقرار تفتح أبواب موجة دبلوماسية واقتصادية ـ مباحثات لرفع عقوبات وإعادة انخراط إقليمي ـ لذلك تشكل الانتخابات عملة شرعية تُستخدم في مفاوضات خارجية وتقديم شرعية شكلية أمام شركاء إقليميين ودوليين. في المقابل، المجتمع الدولي وبعض الفاعلين الإقليميين يشترطون معايير شفافية ومشاركة حقيقية قبل منح اعتمادات واسعة، ما يجعل الانتخابات أداة تفاوضية أكثر منها حلًا للشرعية الداخلية المنشودة.

التمثيل والإدماج:

لا تُقاس الشرعية الواقعية لأي برلمان بمجرد اقتراع شكلي بل بمدى شمولية ممثليه وانعكاسه للتنوع الاجتماعي والجغرافي والديموغرافي. وفي الحالة السورية الحالية، تلتقي ثلاثة عوامل لتقويض التمثيل: (آليات قانونية تمنح للرئيس قدرة مباشرة على وضع عناصر في البرلمان ـ غياب مشاركة أجزاء واسعة من الجغرافيا - انتشار فجوة تمثيلية بين الداخل والشتات). وبالتالي، فإن النتيجة المتوقعة هي جهاز تشريعي يعكس إعادة إنتاج النخبة الحاكمة، مع شرعنة علاقات القوة الحالية بدلًا من إقامة منصة تفاوض وطنية. هذا النمط من "التمثيل الممنوح" لا يخلق قنوات فعالة للضغط الشعبي أو آليات مساءلة دائمة، بقدر كونه يعمل كغلاف شرعي مؤقت يسهل على السلطة تنفيذ سياساتها دون تحويل بنيوي للعلاقة بين الحاكم والمحكوم. في هذا السياق، يمكن رصد وتحليل هذه التقاط فيما يلي:

(1) استبعاد اللاجئين والنازحين: يشكل اللاجئون السوريون في تركيا ولبنان والأردن وأوروبا وغيرها، إضافة إلى ملايين النازحين داخليًا، شريحة اجتماعية وسياسية ضخمة. عوامل الإقصاء هنا تقنية وسياسية، بين فقدان وثائق، إقفال القنوات اللوجستية للتصويت، وحواجز قانونية لإعادة تسجيل النازحين. بالتالي، تفقد أي عملية انتخابية لا تضمن آليات تمكين هذه الشريحة أحد أركان التمثيل الوطني. علاوة على ذلك، فإن استخدام ملف اللاجئين كورقة تفاوضية مع أطراف إقليمية يزيد من وطأة البعد السياسي لقضية المشاركة، العودة القسرية أو فرض شروط لإعادة التسجيل سيحول التمثيل إلى مكافأة سياسية وليس انتخابيًا بشكل حقيقي.  

(2) مسألة شرق الفرات: يخلق النفوذ الكردي والإداري في شمال شرق يخلق واقعًا موازٍ يصعب دمجه بإطار انتخابي موحد من دون تفاهمات سياسية وأمنية مسبقة. رفض المشاركة في تمرد صيغ تمثيلية تفرضها دمشق دون ضمانات سياسية وأمنية يفتح مسألة شرعية مزدوجة، إذ تجمع بين شرعية المركز وشرعية الحاضنة المحلية. ويتطلب دمج هذه المنطقة ترتيبات وضمانات عملية تشمل: (حماية الحقوق، مشاركة إدارية لامركزية، التزام بعدم المساءلة السياسية التعسفية)؛ غياب ذلك يجعل أي برلمان وُلد اليوم ناقص التمثيل الجوهري.

(3) الطائفية المتزايدة: التوزيع الطائفي والمناطقي في بعض المحافظات يجعل من البرلمان ساحة صراعات تمثيلية إن لم تُصمَم آليات احتوائية. أحداث عنف محلية – مثل ما شهدته السويداء – أظهرت هشاشة العقد الاجتماعي ومخاوف المكونات من سياسات انتقامية أو مصادرة أراضٍ. وإذا لم تُنفذ ضمانات حقيقية للحقوق المدنية والملكية والمساءلة عن الانتهاكات، ستبقى نتائج الانتخابات مُعرضة لرفض شعبي في دوائر واسعة، وهو ما يعمق أزمة الشرعية بدلًا من معالجتها.

(4) المعارضة والمنفى وفقدان قناة للاندماج: لم تعد المعارضة السياسية المنقسمة بين الداخل والشتات كحاضنة مشاركة في صيغة اختيارية فعالة؛ فالعناصر الأكثر تنظيمًا في الخارج تفتقد وجودًا عمليًا في بنية الترشيح والتصويت، بينما حواضن شعبية محلية قد تكون ممثلة بشكل شكلي أو متوازٍ. أي عملية لا تضم خطة واضحة لإعادة إدماج القوى السياسية الوطنية بشروط تحفظ أمنهم وتمنحهم مساحة سياسية حقيقية، ستنتج برلمانًا يعيد إنتاج القطيعة بين الداخل والمنفى ويضعف فرص التسوية الشاملة.

(5) التمثيل الرمزية لا الفعلي: المجتمع المدني، وبصفة خاصة منظمات الحقوق والنساء والشباب، يواجه قيودًا إدارية وسياسية تحول دون مشاركته الفاعلة في العملية السياسية. إدراج وجوه من هذه الفئات ضمن قوائم مرشحين أو تشكيل مجالس استشارية بقرارات عليا يحول التمثيل إلى عملية تجميلية إن لم تصاحبها سياسات تمكين حقيقية (تمويل مستقل – حرية عمل – ضمان مشاركة حقيقية في التشريع).

تثبيت شبكات النخب الداخلية:

إحدى الوظائف العملية لهذا النوع من الانتخابات هي إعادة تركيب وتحالف النخب بعد مرحلة انتقالية مضطربة، ومنح مقاعد برلمانية للموالين أو تقوية شخصيات تنفيذية تقنية يتيح للسلطة إضفاء غطاء مؤسسي على شبكات نفوذها، ويمنحها أدوات لصياغة قوانين مريحة لأجندتها. بذلك، يتحول البرلمان من مؤسسة رقابية مستقلة إلى أداة شرعية لتعزيز استقرار النظام الجديد عبر آليات تشريعية تقنينة للقرارات الإدارية والاقتصادية، بما قد يؤدي إلى تثبيت علاقات استبدادية مخففة بتقنيات مؤسسية.

كما أن إجراء انتخابات مرحلية يمكن استغلاله لإقناع دول بالخوض في استثمارات أو تخفيف عقوبات تدريجيًا، وأيضًا لفتح قنوات دبلوماسية، مثل زيارات وزراء ومسؤولين. هذه الوظيفة تكاد تكون عملية تقايض، تشمل الاستعراض الداخلي مقابل مرونة دولية محدودة، لكنها لا تضمن اعترافًا شاملًا أو رفعًا فوريًا للعقوبات ما لم تُرافق العملية مع تنازلات واضحة في مجال حقوق الإنسان والشفافية.

وبالتالي، يضع ذلك الوضع أمام ثلاثة مسارات محتملة:(النجاح الشكلي: برلمان يُنتج بمزيج انتخابي تعييني يقدم صورة استقرار مؤقتة ويجذب بعض التعاون الدولي دون تغيير جذري ـ تفاقم التمثيل: الرفض المحلي الموسع بما يقود إلى احتقان سياسي وربما تصاعد عنفي في مناطق مستبعد - ربط المساعدات بشروط: ضغط مانحين دوليين لشرط إصلاحات مؤسسية قد يخلق فرص تحديث حقيقي لكن مع ثمن سياسي ومقاومة داخلية. وأي مسار يعتمد على قدرة السلطة على استجابة مطالب الشمول والشفافية وبُعدها عن سياسات الإقصاء.

إجمالًا، يمكن القول إن إجراء انتخابات في ظل صيغة تتيح للرئيس تعيين ثلث البرلمان وتُجرى في واقع جغرافي وسياسي مُجزأ لا يمكن اعتباره حلًا شرعيًا جامعًا؛ بل هو خطوة تكتيكية لإنتاج غلاف مؤسسي يسهل على السلطة تمرير سياساتها وإدارة علاقاتها الإقليمية والدولية. لإخراج العملية من دائرة الشك يجب أن ترافقها إجراءات ملموسة، بما يشمل إصلاح قانوني واضح يلغى التعيينات السياسية أو يقلّصها تدريجيًا، مع آليات تسجيل وتصويت خاصة للاجئين والنازحين، وضمان حماية الحريات العامة وحرية العمل المدني، ودعوة مراقبة دولية مستقلة مع شروط على المساعدات والإعمار.

قد يهمك