بث تجريبي

المقاتلون الأجانب .. إدلب بين سيادة الدولة وشبكات الظل

لم تعد إدلب اليوم ميدانًا محليًا عاديًا؛ إنما تشكل اختبار وظيفي لمدى قدرة الدولة الوليدة على استعادة احتكار العنف والشرعية بعد تحولات السلطة.

وجود مخيمات تُدار بأساليب شبه حكم ذاتي، قيادات أجنبية تفرض قواعد محلية، وشبكات اقتصادية ظلية تزدهر في ظل فراغ مؤسسي، يجعل أي خطوة أمنية بحد ذاتها سياسة استراتيجية. العملية الأمنية التي استهدفت "مخيم الغرباء"وتحولها إلى مشهد تفاوضي بوساطة مقاتلين أوزبك تكشف أن المواجهة مع "الغرباء" ليست مجرد تطبيق لقانون؛ بل هي ترجمة لصراع نفوذ يمتد من الاقتصاد المحلي إلى خطوط الدعم العابرة للحدود. إذا فشلت الدولة في قراءة هذا التداخل فلن تكون المواجهة الأمنية مجدية، بل ستنتج دورة تصعيدية تستثمرها شبكات الظل لتعزيز نفوذها.

الحضور الأجنبي في إدلب يتخذ أشكالًا متعددة، بين مقاتلين قتاليين، وسطاء مفاوضات، قضاةعرفيين، ومشغلون اقتصاديون لأسواق رمادية. لم يأتي هؤلاء فقط لقتال خصم؛ بل لبناء بيئة بديلةتوفر لهم دخلًا، شرعية محلية جزئية، وملاذاتتشغيل لشبكاتهم. والوساطة التي قادها مقاتلونأوزبك وأطراف أخرى لم توقف القتال فقط، بل أعادتتشكيل قواعد الاشتباك الميداني وأظهرت قدرةمجموعات صغيرة على تقويض أي خطة تنفيذيةغير المصحوبة بخريطة معلوماتية اقتصادية. بهذاالمعنى، الأزمة في إدلب أعمق من وجود مقاتلين؛ إنهاأزمة بنيوية في آليات إدارة السلطات المحلية وطبيعةالعقد الاجتماعي في مناطق الصراع. 

سياسياً، ارتباط ملف إدلب بباقي الجبهات يعكس أن الأزمةمحلية وإقليمية في آنٍ واحد: تحولات الساحل والشرخالطائفي، توترات السويداء، والتحركات الإقليمية على الحدودالجنوبية والشمالية، كلها تخلق بيئة تتقاطع فيها مصالحمتعددة وقد تتسابق لإعادة تشكيل المشهد. لذلك، أي صيغةحل يجب أن تكون مركبة: آليات أمنية دقيقة، برامج بديلةاقتصادية واجتماعية، وترتيبات سياسية محلية تخفف من حدةشرعية الوسطاء المسلّحين. إن عدم دمج الأبعاد الاقتصاديةوالاجتماعية مع الضربات الأمنية سيجعل إدلب ساحة إنتاجمستمر لشبكات الظل، ما يعرقل استقرار الدولة ويحوّلها إلىملف جيوسياسي قابل للاستثمار الإقليمي.

ظل التدخل:

يستند وجود المقاتلين الأجانب في إدلب يستند إلى تراكم منالدوافع، أيديولوجية للعديد منهم، هروب قضائي ولوجستيلمنفذين آخرين، وفرص اقتصادية للشرائح المتحالفة معشبكات التهريب والجباية. حيث لا يعمل هؤلاء جميعًا كوحدةواحدة؛ هم موزعون بين كوادر قتالية صغيرة متخصصة،زعامات محلية تدير مخيمات وتفرض قواعدها، ووكلاءلوجستيين يديرون تدفقات السلاح والمال. في حالات مثل"مخيم الغرباء"، تبرز قيادة شخصية مثل "عمر ديابي" قادرةعلى فرض نظام عقابي داخلي وتجنيد ولاءات عبر طرقمتعددة، كالحماية، العدل البديل، والاقتصاد الأسود. هذاالتعدد يجعل التعاطي مع الوجود الأجنبي معقداً، فهو ليسمجرد تهديد أمني بل بنية اجتماعية ـ اقتصادية متكاملة.

وقد امتدت أدوار الأجانب إلى الوساطة السياسية والميدانية،كما ظهر مع تدخل الأوزبك لوقف اقتحام المخيم وتأمين ممراتخروج. تعكس هذه القدرة التفاوضية امتلاكهم لقنوات اتصالمع لاعبين محليين وإقليميين، وشبكات للمعلومات والتمويل. ولذلك لم يعُد المقاتل الأجنبي مجرد عنصر قتالي بل لاعبقادر على ضبط موازين القوى، وإعاقة قرارات الدولة أو فرضتسويات مؤقتة بشروطه. إن دولة تفتقر إلى آليات استيعاب أوتقنين لهذه القنوات ستكون دوماً في موقف دفاعي، حيثيتحول تنفيذ القانون إلى معادلة تكلفة/منفعة بالنسبة للوسطاءالذين يوزعون المخاطر والمكاسب بمرونة.

العلاقة بين الأجانب والفصائل المحلية تتسم بالازدواجية، بينشراكة اقتصادية مؤقتة وتنافس على النفوذ. بعض الفصائلالمحلية تستفيد من وجود الأجانب لتقوية قدراتها القتالية أوالمالية، فيما يصنفها آخرون كمنافس يهدد الدولة كما ينافسفي مصدر دخلهم. هذا يؤدي إلى تحالفات ظرفية قابلةللانقسام عند الضغوط، ويصعب مهمة الدولة في رسم خطوطصد واضحة. لذلك، فإن التمييز الدقيق بين فئات الأجانبقابلي الاندماج، المتوسطين، والمتصلبين، هو مفتاح أي سياسةناجعة، لأن التطبيق الواحد يحمل مخاطر تأسيس حالاتانتقامية أو خلق طبقات موازية طويلة الأمد.

شرخ الفصائل:

الشرخ بين المقاتلين الأجانب والفصائل المحلية ليسنزاعًا عرضيًا؛ إنه نتيجة تراكمية لملامح اقتصادية،أيديولوجية ولوجستية؛ تنافس على مصادر دخلرمادية، ولاءات تمتد لخارج الحدود، وحيز سياديمتقلص بعد تحولات السلطة. كل محاولة لفرضالقانون تصطدم بشبكات تتقن قواعد اللعبة الميدانية،وتحوِّل أي هجوم سطحي إلى تفاوض أو صدامطويل. لذلك يجب فهم شرخ الفصائل كظاهرة متعددةالمستويات، اقتصادية، اجتماعية، وميدانية، ولا يمكنمعالجتها بآلية أمنية واحدة دون خلق تداعياتإقليمية. ويمكن قراءة ذلك على النحو التالي:

(١) التنافس على الموارد: تقاس بؤر النفوذ في إدلبمدى قدرة الطرف على السيطرة على موارد مباشرة، سواء معابر، طرق تهريب، أو أسواق محلية وابتزازتجار. المقاتلون الأجانب بقدرتهم على خلق قنواتتمويل عبر مهاراتهم الدولية والروابط العابرةيجعلون من الاقتصاد المظلم مصدرًا للقوة. أي خطةلإضعافهم يجب أن ترافق ضربات أمنية بإجراءاتاقتصادية، كإغلاق مسالك التمويل وتقديم بدائل دخلمقنعة للسكان، لأن السلاح لن يفقد جاذبيته ما دامهناك ربح اقتصادي مضمون.

(٢) الولاءات العابرة للحدود: تمنح الروابط مع شبكاتفي آسيا الوسطى، شمال إفريقيا، وأوروبا للمقاتلين الأجانبملاذات تمويلية وشرعية موازية. هذه الولاءات تضاعف تكلفةالمواجهة وتجعل أي عملية محلية معرضة لتدخلات غير مباشرةأو فتح مسارات دعم جديدة. لذلك مواجهة إدلب تقتضيتشغيل بوابة دبلوماسية واقعية، عبر الضغط على المصادر،مراقبة الحدود، وإقناع دول المنشأ بالتحقق من مواطنيها، حتى لا تتحول العمليات الأمنية إلى حروب وكيل.

(٣) القابلية للاندماج مقابل العسكرة: ليس كل المقاتلينقابلاً للاندماج؛ فبعضهم يمتلك مؤهلات مدنية تسمح بتقديمبدائل، فيما آخرون متجذرون في العسكرة وروايات لا تقبلالتنازل. البرامج الناجحة تبدأ بفرز دقيق من خلال إعدادلائحة واضحة للفئات، وحزم وآليات إدماج محترفة (تدريبمهني، مناصب محلية مشروطة)، مع إجراءات قضائيةواضحة لمن يصر على العنف. في ظل غياب هذا الفرز يفشلالإدماج في وقت قصير.

(٤) شبكات الوساطة والشرعية الموازية: تظهر الوساطات التي قادها الأوزبك وجود قنوات حكم بديلةتستطيع إلغاء أو فرض قرارات ميدانية. تحويل هذه الشبكاتإلى شركاء مقننين من خلال عقود محلية أو أدوار رسميةمحدودة قد يقلل استقلاليتها، لكن ذلك يتطلب موافقة سياسيةوشفافية حتى لا تتحول إلى امتيازات مشروطة تعيد إنتاجولاءات موازية. ويبقى الخيار الآخر، هو القمع المباشر، لكنه قد يدفع الوسطاء إلى ربط مصيرهم بشبكات أوسع ويقوي منسطوتهم.

(٥) التداعيات الإقليمية: قد يفتح فشل ضبط الملفالمحلي الباب أمام توظيف إدلب كورقة ضغط إقليميةسواء لتهريب أسلحة، شبكات تهريب تربطهابالعراق وتركيا، أو إمكانية استغلالها لفتح جبهاتتوتر. لذلك، يجب ربط استراتيجية إدلب بخطةدبلوماسية إقليمية، تشمل تنسيق مع أنقرة، ضوابطعلى الحدود، وضغط على دول المنشأ، لمنع تدويلالأزمة وتحويلها إلى ساحة تنافس إقليمي.

سيناريوهات عديدة:

إدارة أزمة المقاتلين الأجانب في إدلب هي اختبارحقيقي لشرعية الدولة الجديدة، بالقدرة على تحويلقوتها الرمزية إلى أدوات عملية لاستعادة النظام، بمزيج من استخبارات دقيقة، حزم اقتصادية بديلة،أدوات قضائية فعالة، وتحالفات دبلوماسية محليةإقليمية. على الدولة أن تطرح خارطة زمنية متدرجة، تشمل ضربات استخباراتية محددة ضد قياداتالعسكرة، مبادرات إدماج للقابلين، وبرامج دعممجتمعي تقلص الاعتماد على السوق السوداء. بهذاالتوازن بين الحزم والبدائل تصبح استعادةالمشروعية عملية ممكنة بدلاً من صدام دائم يعيدتكريس الفراغ. وتتراوح السيناريوهات المتوقعة في هذه التطورات الميدانية في ضوء ما يلي:

(١) احترام منضبط: مقاربة قائمة على استخبارات دقيقة وضربات محدودة تستهدف قيادات العسكرة وشبكات التمويل، مرفقة بحزم اقتصادية عاجلة تكسر الحافز المالي للبقاء تحت السلاح. هذه الاستراتيجية يمكنها أن تقلص مساحة المناورة للمقاتلين الأجانب من دون إشعال تصعيد إقليمي، شرط ربط التنفيذ بخريطة معلوماتية، آليات رقابة قضائية، وبرامج دخل بديلة للسكان المحيطين. الخطر الرئيسي هو استمرار القنوات الخارجية للتمويل أو تحول الضربات إلى دوافع للانتقام؛ لذا فنجاحها يعتمد على تزامن أمني-اقتصادي ودعم دبلوماسي لإغلاق المسالك عبر الحدود.

(٢) الاستيعاب المنظم: نهج سياسي طويل الأمد يفصل بين طبقات المقاتلين، لاستيعاب الوسطاء والقابلين للاندماج عبر حزم قانونية واجتماعية، ومحاكمة واستهداف المتطرفين عن طريق آليات قضائية واضحة. هذا السيناريو يحول بعض عناصر القوة الموازية إلى أجهزة ضبط محلية، ويخفض تكاليف الصراع الطويل عبر استحداث علاقات منطقية مع المجتمع المحلي. مخاطر ذلك تتعلق بشرعية القرار داخليًا وإمكانية استغلال المناصب الجديدة من قبل قادة سابقين، ما يتطلب آليات رقابية مؤسسية وشفافية في الحوافز.

(٣) الحسم العسكري الموجز: خيار سريع وفعال لتمزيق هياكل العسكرة وقطع رؤوس الشبكات، يتطلب استخبارات دقيقة، قدرة تنفيذية كبيرة وإجراءات لاحقة لتثبيت الأمن ومنع الفراغ. يحقق رداً فورياً ويعيد هيبة الدولة لكنه الأعلى مخاطرة، حيث أنه قد يولد خسائر مدنية وتصدعات سياسية أو تدخلات إقليمية، ويحتاج إلى خطة موازية لإعادة استقرار المناطق المتضررة. يستخدم كأداة نسبية فقط عندما تكون البدائل قد فشلت أو التهديد يتطلب إزالة عاجلة للبنى القيادية، ومع ضمان آليات محاسبية وبدائل مدنية فورية لتفادي فراغ يعيد إنتاج العنف.

ختامًا، يمكن القول إن إدارة أزمة إدلب ليست اختبارًا تكتيكيًا فحسب، بل لحظة تأسيسية لشرعية الدولة الجديدة؛ النجاح فيها يتطلب حزمًا مدروسًا مصحوبًا ببدائل عملية تقوي الحاضنة المدنية وتفكك اقتصاد السلاح. فلا يكفي طرد المقاتلين أو توقيف قادتهم، بل يجب تفكيك شبكات التمويل والشرعية الموازية عبر خريطة معلوماتية دقيقة، تجمع بين تحالفات دبلوماسية لقطع الملاذات، وبرامج إدماج واقتصاديات بديلة تكسر دوافع البقاء تحت السلاح. من يفشل في الدمج بين القوة والبدائل سيجد إدلب مستمرة كحجرة في ظل نفوذ إقليمي؛ وإذا نجحت الحكومة، ستحولها إلى نموذج استعادة سيادة شرعية ومستقبل مستقر للدولة.

ولن يولد مخرج إدلب بقوة السلاح وحدها، بل من وحدة البيت السوري أولاً. فالمعادلة الحاسمة لتثبيت الأمن تمر عبر تنسيق سوري–سوري يشمل أبناء المنطقة ولاسيما "قسد" لبناء جبهة وطنية موحدة ضد الفوضى والمقاتلين الأجانب، بالتوازي مع تحجيم النفوذ الإقليمي، خصوصاً التركي الذي يحول الشمال إلى ورقة تفاوض لا أرض وطن. إن جمع القوة الوطنية تحت قرار مركزي واحد، وتفكيك شبكات الولاء الخارجية، سيسقط هذه المشاريع ويعيد السيادة إلى مسارها الطبيعي. فحين تتماسك القوى الوطنية على هدف واحد، يُنتزع القرار السوري من يد الآخرين، وتُفتح الطريق نحو دولة مستقرة لا تُدار بالوكالة عن أحد.

قد يهمك