بجهودٍ ومسؤوليةٍ تاريخيةٍ للقائد عبدالله أوجلان، فُتحت نافذة أمل لسلامٍ ديمقراطي بين الكرد وتركيا ضمن مسار "السلام والمجتمع الديمقراطي"، غير أن غياب الجدية والمماطلة واستمرار سياسات الإبادة من الجانب التركي يهددون العملية، فيما تبقى حرية القائد عبدالله أوجلان الشرط الحاسم لإنجاح مسار السلام.
منذ 27 شباط/فبراير 2024، دخلنا مرحلة جديدة في العلاقة بين الشعب الكردي والدولة التركية، من خلال الحوارات واللقاءات والإجراءات التي جرت لاستكشاف حقيقة النوايا والأهداف، ووجود القرار السياسي، ومدى إمكانية كل طرف في المضي قدمًا في العملية التي أُطلق عليها اسم "السلام والمجتمع الديمقراطي" من قبل القائد عبدالله أوجلان، المفاوض الكردي الرئيسي، أو كما يسميها السلطة التركية وحزب العدالة والتنمية "تركيا خالية من الإرهاب".
جدير بالذكر أن محاولات السلام بين الجانبين تعود إلى عام 1993، وجميعها انتهت بالفشل، لتتجدد بعدها الحرب والمقاومة بين الشعب الكردي والدولة التركية. وهذا يُظهر عمق الأزمة وصعوبة القضية، وفقدان الثقة بين الطرفين، فضلًا عن التحديات المرتبطة بالعقلية القومية السلطوية التركية، وبالانقسامات داخل مؤسسات الدولة، وبالمواقف الإقليمية والدولية التي ربما ترى مصلحتها في استمرار الأزمة والحرب الممتدة منذ نحو قرنٍ من الزمن.
من الجانب الكردي، وبإرادة سياسية واضحة، مثَّل القائد عبدالله أوجلان ومعه المنظومة النضالية وهياكلها المختلفة، وبمساندة الغالبية من الشعب الكردي، مسارًا نضاليًا طويلًا في إطار حزب العمال الكردستاني، تطور خلاله الفلسفة النضالية وأدواتها إضافة إلى الوعي الجمعي التشاركي والعقلية الكردية الديمقراطية والقوى الذاتية للمجتمع الكردي. وانطلاقًا من ذلك، طرح القائد أوجلان، رغم وجوده في السجن منذ أكثر من 26 عامًا، مبادرات عديدة أخرها مبادرة السلام والمجتمع الديمقراطي، الهادفة إلى الدمج الديمقراطي للشعب الكردي كمجتمع ديمقراطي ضمن الدولة، وبناء جمهورية ديمقراطية تعيد صياغة العلاقات بين شعوب المنطقة، وعلى رأسها الشعبان الكردي والتركي، وإحياء التقاليد الديمقراطية التاريخية القائمة على احترام الهويات والخصوصيات الثقافية والاجتماعية، بما يضمن الحقوق الطبيعية وحرية التنظيم والتعبير والمشاركة.
من المهم الإشارة إلى الأبعاد السياسية والقانونية لهذه العملية التي ما زال القائد عبدالله أوجلان يؤكد عليها في كل لقاء مع وفد إمرالي لحزب المساواة وديمقراطية الشعوب أو محامي مكتب "أسْرين" الحقوقي، إذ لا يمكن للقضية الكردية، بطبيعتها وتطوراتها، أن تتقدم نحو الحل الديمقراطي ولتكون فاعلاً أساسياً للتحول الديمقراطي وإقامة الجمهورية الديمقراطية من دون تغيير جوهري في الذهنية والسياسة والقانون. فالعقلية الأحادية القومية والدينية، وسياسة الإبادة والإنكار التي استهدفت الكرد وأقصتهم عن القانون والحقوق منذ قرنٍ كامل، أوصلت تركيا وشمال كردستان والمنطقة إلى حالة التأزم الراهنة.
من المفيد تسليط الضوء على الخطوات التي تمت منذ 27 شباط/فبراير 2024 حتى اليوم لمعرفة وتيرة هذه العملية.
فعلى الصعيد الكردي، اتُخذت خطوات جريئة وغير متوقعة تدل على جدية الطرف الكردي في السعي إلى الحل والسلام والتكامل الديمقراطي؛ بدءًا من وقف القتال ضد الجيش التركي، مرورًا بـ حلّ حزب العمال الكردستاني، وإعلان إنهاء الكفاح المسلح، ووصولًا إلى حرق بعض مقاتلي الكريلا لأسلحتهم، فضلًا عن الخطاب الكردي المسؤول الذي يعزز مفاهيم السلام والأخوة والجمهورية الديمقراطية.
أما على الجانب التركي، فما زال التجريد والعزلة في إمرالي مستمرين، كما لم يُسمح للمفاوض الرئيسي بالتواصل اللازم مع الخارج، ولا تزال لغة التهديد والكراهية والعنف سائدة في الخطاب الرسمي، رغم بعض التصريحات الإيجابية من بعض الشخصيات لأسباب غير واضحة. أما لجنة "التضامن الوطني والأخوة والسلام" التي شُكِّلت في البرلمان، فما تزال تفتقر إلى الأساس القانوني والتشريعي، ولم تلتقِ بعد بالمفاوض الرئيسي للقضية الكردية رغم عقدها لقاءات متعددة. بل إن اللجنة منعت الأمهات الكرديات من التحدث بلغتهن أمامها، في خطوة تعكس استمرار الذهنية الإقصائية وسياسة وعقلية الإبادة.
إن الهدف الكردي المتمثل في الحل الديمقراطي للقضية الكردية يندرج ضمن رؤية شاملة لتحول الدولة التركية نحو الديمقراطية وتغيير القوانين والدستور، بما يضمن الدمج الديمقراطي للكرد ضمن الدولة عبر آليات التفاوض السياسي. لكن السؤال يبقى: ما هي أهداف تركيا الرسمية من هذه العملية، سواء سُمّيت "السلام والمجتمع الديمقراطي" أو "تركيا خالية من الإرهاب"؟ حتى الآن، لا توجد إجابات واضحة تختلف عن سياساتها السابقة تجاه الشعب الكردي وسائر شعوب المنطقة.
صحيح أن السياق الإقليمي والدولي المتأثر بفصول الحرب العالمية الثالثة في العالم والشرق الأوسط يفرض تحولات جديدة تدركها بعض القيادات التركية، إلا أن السلطة الحاكمة، ممثلة بحزب العدالة والتنمية وأردوغان، ما تزال تستخدم القضايا الداخلية والخارجية لتكريس بقائها في الحكم، بينما تؤدي سياساتها ضد المعارضة إلى إبعاد تركيا عن مسار الحلول الديمقراطية وعملية السلام المنشودة.
أمام تركيا والشعب الكردي اليوم فرصة تاريخية ومحطة مصيرية، بوجود القائد عبدالله أوجلان بثقله الفكري والسياسي ودوره المركزي في هذه العملية. فاستمرار العملية، وإن ببطء، يعود أساسًا إلى جهوده ومبادراته رغم ظروف السجن والعزلة المفروضة عليه. ومن هنا، فإن تحقيق الحرية الجسدية للمفاوض الرئيسي وحقه في "الأمل" – كما تنص عليه القوانين والمواثيق الدولية – شرطٌ أساسي لتقدم عملية السلام، لأن الشعب الكردي لا يثق في أي مسار سلام لا يكون القائد أوجلان طرفًا حرًا واساسياً وضامنًا له.
لقد قدّم الطرف الكردي الكثير، بما في ذلك خطوات غير مسبوقة وصعبة، بينما ما تزال الدولة التركية تراوغ وتماطل، ظنًّا منها أنها قادرة على تجاوز المرحلة الراهنة أو تخطي آثار الحرب العالمية الثالثة دون تغيير جذري في سياساتها. غير أن الواقع يشير إلى أن تركيا مقبلة على تحولات مصيرية داخلية وإقليمية في ظل إعادة رسم المشهد الإقليمي من قِبل نظام الهيمنة العالمي وبروز قوى جديدة.
ولعل الحلّ الحقيقي أمام تركيا، كما كان في التاريخ، هو الاتفاق الكردي-التركي الذي يُعيد بناء الشراكة التاريخية بين الشعبين، كما حدث في معركة ملازكرد عام 1071 وحرب الاستقلال (1919–1921)، ولكن هذه المرة عبر بناء جمهورية ديمقراطية جديدة تُصان فيها حقوق الكرد ولغتهم دستورياً وقانونياً، ويُؤسس فيها عقد اجتماعي جديد يقوم على الأخوة والسلام والمواطنة والمجتمع الديمقراطي، وعليه بين المبادرة الكردية والمماطلة التركية يبقى السلام والمجتمع الديمقراطي هو الطريق الصحيح والصعب نحو الجمهورية الديمقراطية والأخوة الحقيقية بين الشعبين الكردي والتركي.