تقف سوريا اليوم، بعد كل هذه التغيرات الدراماتيكية والدمار والحرب، على حافة مفترق طرق مصيري، فإما يذهب السوريون نحو وطن يستعيد عافيته بجهد أبنائه جميعاً، أو تتحول البلاد إلى كيان سيتلاشى مع الوقت، إن ظلوا أسرى الخلافات والأجندات الضيقة والولاءات الخارجية.
والمهمة الرئيسية لتحديد مسار سوريا بكل تأكيد هي على عاتق من يديرون الحكم، ليس تحاملاً بقدر ما هو طبيعة المسؤولية التي عليهم بحكم موقعهم كسلطة تدير مرحلة انتقالية. فكل المؤشرات، السياسية منها والميدانية، تؤكد أن الأزمة السورية لم تعد أزمة نظام أو معارضة الآن، ولا صراعاً على سلطة أو نفوذ، بل أصبحت أزمة وطن مهدد في كيانه ووحدته وهويته.
الخطر الأكبر
الخطر الأكبر على سوريا استمرار غياب التوافق الوطني الحقيقي، والإقصاء والتهميش، وانعدام الثقة بين مكونات المجتمع السوري. والتجارب التاريخية أثبتت أن الأوطان تبنى بالحوار والعدالة والمشاركة.
والمؤشرات حتى الآن ليست مبشرة للأسف، حيث لا تزال حكومة دمشق الانتقالية تصر على إدارة مرحلة انتقالية بما يناسب أهوائها فقط، تصرف بمنطق الأهل والعشيرة، على غرار ما فعله الإخوان في مصر حين وصلت الجماعة إلى الحكم، كان التمكين لكل ما هو إخواني وإقصاء لكل من عدا ذلك.
وفي سوريا أتت الفرصة تلو الأخرى أمام هيئة تحرير الشام أو أحمد الشرع أو الحكومة الانتقالية للبرهنة على أن من يدير يمثل كل السوريين، إلا أن الاختبارات كلها فشلت؛ فالإعلان الدستوري جاء بشكل فوقي، ومؤتمر الحوار الوطني جرى انتقاء المشاركين فيه، وتشكيل الحكومة كلها تقريباً طيف واحد. ثم أتت انتخابات مجلس الشعب وإذا أردت نقدها فحدث ولا حرج.
مصالح القوى الخارجية
ولعل ما يزيد الأمر تعقيداً في المشهد السوري هو الارتهان السياسي لمصالح قوى خارجية جعلت من سوريا ساحة لتصفية الحسابات الإقليمية والدولية، حتى بات القرار الوطني السوري رهينة الإملاءات، لا يخرج من دمشق ولا من أي عاصمة سورية أخرى، بل من عواصم تتقاسم النفوذ على الجغرافيا السورية الممزقة، لدرجة أن إحدى الدول يتحدث وزير خارجيتها فيما يخص الشأن السوري كما لو كان مندوباً سامياً.
إن أي حل سياسي لا يقوم على شراكة حقيقية بين جميع السوريين، عرباً وكرداً، مسلمين ومسيحيين، سنة وعلويين، وبدون تمييز مناطقي أو طائفي، لن يكون سوى هدنة مؤقتة على جرح مفتوح. ومن ثم فإن هذا التعايش بين الجميع يتطلب عقداً اجتماعياً جديداً، يقوم على الاعتراف بأن سوريا لكل السوريين ولأبناء هذه الأرض وليس غيرهم.
فلا يمكن لسوريا أن تنهض طالما ظل طرف يرى نفسه المنتصر وصاحب الحق، وآخر يعيش شعور المهزوم، وطالما ظل صوت السلاح أعلى من صوت العقل، وصوت الخارج أقوى من صوت الداخل، وطالما لم يتم التسامح وتطوى صفحة الماضي.
مصالح الشعب السوري
ومن الأمور المؤسفة في المشهد السياسي السوري أن كثيرين ممن يتحدثون باسم هذا البلد، لا يعبرون عن مصالح شعبها، بل عن أجندات تمولهم أو تحميهم. في حين أن من يدفع الثمن الحقيقي هو المواطن السوري البسيط، الذي أنهكته الحرب، وهجرته الظروف، وسلبت منه كرامته وبيته ومستقبله.
أرى أن الفرصة لا تزال بيد السوريين – وفي القلب منهم من يمسكون بالسلطة – وسوريا لن تُشفى إلا إذا جلس أبناؤها جميعاً، دون استثناء، إلى طاولة واحدة، ليعيدوا رسم خريطة وطنهم بأيديهم، على أسس جديدة من العدالة والمواطنة والكرامة، في دولة لا إقصاء فيها لأي مكون مهما كان.
حكومة دمشق
إن حكومة دمشق مطالبة أن تتعاطى مع الوضع الحالي بوطنية، فتفتح صفحة جديدة مع العلويين والدروز، وتبتعد عن إثارة المشاكل مع الكرد، الحذر الحذر من فتح جبهة توتر مع المكون الكردي؛ ففي رأيي الوئام والتوافق مع الكرد سيكون بادرة إيجابية لتوافق أوسع مع كافة المكونات السورية.
إن استمرار حكومة دمشق على نهجها الحالي، أو بعض القوى الأخرى على نفس مسار الإقصاء والتهميش والتقليل من الآخر، لن يكون معه هنا أي إمكانية للحديث عن سوريا كدولة موحدة.
إن لم يتوافق السوريون على عملية سياسية شاملة تضمن مشاركة كل المكونات في صناعة القرار، وتتحرر البلاد من وصاية الآخرين، فقل على سوريا السلام، إن لم يكن هناك عقداً اجتماعياً جديداً في سوريا فقل عليها السلام. إن الوطن الذي يفقد وحدته يفقد روحه، وإن ضاعت الروح فلن تنفعه كل محاولات الإحياء.