بث تجريبي

ترجمات "المبادرة" .. قضية بيكير أصلان تؤكد تزايد القيود على الحريات في تركيا

في مشهدٍ يعكس واقع الحريات المتدهور في تركيا خلال السنوات الأخيرة، أصدرت محكمة تركية في إسطنبول حكماً بالسجن لمدة عام ونصف على صانع المحتوى الشهير بيكير أصلان، المعروف باسم "باسل"، بتهمة "نشر دعاية لتنظيم إرهابي" عبر منشورات على منصة "إكس" (تويتر سابقاً).

هذه القضية لم تمر كحادث فردي، بل جاءت لتؤكد نهجاً متصاعداً تتبعه السلطات التركية لقمع الأصوات الناقدة، خصوصاً عبر وسائل التواصل الاجتماعي التي أصبحت المتنفس الوحيد للمعارضة والمجتمع المدني بعد إغلاق الفضاء العام وتقييد الإعلام المستقل، بحسب تقرير لصحيفة "توركيش مينيت" التركية المستقلة.

بداية القضية

القضية بدأت عندما نشر أصلان ثلاثة منشورات تضمنت إشارات رمزية إلى حركة شبابية يسارية تُعرف باسم "الشباب الثوري"، وإلى فرقة "غروب يوروم" المحظورة منذ عام 2016 بسبب أغانيها المنتقدة للسلطة.

ورغم أن المحتوى لم يتضمن دعوات مباشرة للعنف، فقد اعتبرته النيابة العامة "ترويجاً لتنظيم محظور"، ليُعتقل الشاب في 11 أبريل 2025، ويُحتجز لمدة 77 يوماً قبل الإفراج عنه مؤقتاً.

لكن الحكم الصادر في 17 أكتوبر الجاري لم يكن مجرد إجراء قضائي، بل رسالة سياسية واضحة. فالمحكمة ألغت شرط المراقبة الشرطية لكنها أبقت على منعه من السفر، مما يضعه تحت ضغط دائم، كما هو الحال مع مئات النشطاء والصحفيين والمعارضين الذين تُستخدم ضدهم القوانين الفضفاضة المتعلقة بـ"الإرهاب" و"إهانة الرئيس" و"الإضرار بمصالح الدولة".

سياق سياسي متوتر

وتأتي هذه الواقعة في سياقٍ سياسي متوتر، إذ كانت منشورات أصلان متزامنة مع الاحتجاجات الواسعة التي شهدتها تركيا عقب اعتقال رئيس بلدية إسطنبول، أكرم إمام أوغلو، في مارس 2025، بتهم "فساد" وُصفت بأنها ذات دوافع سياسية.

هذه المظاهرات، التي شملت نحو 40 مدينة، شهدت اعتقال قرابة 2000 شخص، من بينهم طلاب ومحامون وصحفيون وحقوقيون، وفق تقارير منظمات تركية مستقلة.

تضييق يتسع

هذا التضييق لم يقتصر على الأفراد العاديين، بل امتد إلى مؤسسات الإعلام والمعارضة. فبحسب بيانات "اللجنة التركية لحرية الصحافة"، تحتل تركيا المرتبة 158 من أصل 180 دولة في مؤشر حرية الصحافة لعام 2025 الصادر عن منظمة "مراسلون بلا حدود"، بعدما كانت في المرتبة 98 عام 2010.

كما تشير تقارير مركز "ستوكهولم للحرية" إلى أن أكثر من 16 ألف مواطن يواجهون حالياً قضايا تتعلق بـ"إهانة الرئيس"، وهي تهمة شائعة منذ تعديل القوانين عام 2014.

أما على صعيد الملفات الحقوقية، فقد سجلت المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان (ECHR) رقماً قياسياً هذا العام عندما أبلغت الحكومة التركية بتلقي 4800  شكوى إضافية تتعلق بأحكام صادرة بحق متهمين على صلة بجماعة جولن أو بقضايا سياسية.

هذه الأرقام تكشف حجم الانتهاكات التي باتت ممنهجة، وتوضح أن القضاء التركي لم يعد يمارس دوره باستقلالية، بل أصبح أداة في يد السلطة التنفيذية لإسكات المعارضين.

قيود على المجال الرقمي

ويرى مراقبون أن النظام الحاكم بقيادة رجب طيب أردوغان يسعى، من خلال هذه الممارسات، إلى فرض قيود على الفضاء الرقمي الذي تحول في السنوات الأخيرة إلى مساحة حيوية للنقاش العام، خاصة بعد إغلاق أكثر من 180 وسيلة إعلامية منذ محاولة الانقلاب المزعومة عام 2016، وتوقيف ما يزيد على 120  صحفياً وفق إحصاءات منظمة "هيومن رايتس ووتش".

ومع تصاعد دور منصات التواصل الاجتماعي في الحشد الشعبي، باتت الدولة تنظر إليها باعتبارها تهديداً أمنياً أكثر من كونها وسيلة للتعبير.

قانون تنظيم المعلومات المضللة

وفي هذا السياق، أقر البرلمان التركي عام 2022 قانون "تنظيم المعلومات المضللة"، الذي يمنح السلطات الحق في ملاحقة أي مستخدم ينشر محتوى تعتبره "زائفاً" أو "مضللاً"، وهي صيغة فضفاضة تستخدم لتكميم الأفواه، خاصة في أوقات الأزمات السياسية أو الانتخابات.

ومنذ تطبيق القانون، تم حجب أكثر من 150 ألف موقع إلكتروني، وإغلاق مئات الحسابات المعارضة، بحسب منصة "فريدوم هاوس" التي صنّفت تركيا دولة "غير حرة" في تقريرها لعام 2025.

حلقة جديدة

إن قضية بيكير أصلان ليست إلا حلقة جديدة في مسلسل طويل من قمع الحريات في تركيا، حيث يعامل الرأي المختلف كجريمة، والنقد كتهديد للأمن القومي. وفي ظل استمرار هذه السياسات، تتجه البلاد نحو مزيد من الانغلاق السياسي والاجتماعي، ما يعمق من أزمة الثقة بين الدولة والمجتمع، ويجعل من أي أفقٍ للإصلاح الحقيقي أكثر صعوبة.

فكلما ضاق هامش الحرية، اتسعت الفجوة بين السلطة والشعب. وما لم تدرك القيادة التركية أن احترام حرية التعبير هو ركيزة الاستقرار لا تهديد له، فإن قضايا مثل تلك التي طالت "باسل" ستظل تتكرر، لتصبح شهادة دامغة على أن القلم في تركيا ما زال يحاكم قبل أن يكتب.

 

قد يهمك