بث تجريبي

بدون إحراج .. سيد أبو اليزيد يكتب: القوة لا تصنع الاستقرار

سياسة القوة وحدها لا تصنع الاستقرار، والتفوق العسكري مهما كان ساحقًا لا يؤسس للشرعية السياسية، ولا يمكنه إطفاء شعلة المقاومة. ولذلك من الأفضل التمسك دومًا بالسلام كخيار وضرورة استراتيجية، وهو ما يتماشى ويتناغم مع دعوة القائد الكردي عبد الله أوجلان إلى نداء السلام والمجتمع الديمقراطي، وهو ما يحدث فعليًا على أرض الواقع لإنهاء الحرب في غزة.

ولكن لا سلام بدون عدالة، ولا استقرار بدون حل الدولتين وإعلان دولة فلسطين المستقلة على حدود 4 يونيو 1967 وعاصمتها القدس الشرقية. لذلك تتجه أنظار العالم إلى مصر لإنهاء أطول وأعنف فصول الصراع في غزة منذ عقود، حيث تكتسب القضية الفلسطينية أهمية ممتدة جذورها في التاريخ، ارتباطًا بتحرك الجيش المصري في عهد الملك أحمس لتحرير اللاذقية من الهكسوس، وتكرر الدور في عهد الكردي صلاح الدين الأيوبي محرر القدس الشريف.

إن ما يتحقق في مدينة السلام بشرم الشيخ المصرية ليس مجرد اتفاق سياسي، بل تحول استراتيجي لمصر كفاعل إقليمي ودولي لتحقيق الاستقرار في منطقة الشرق الأوسط. ولذلك ننتظر أن يمتد دورها إلى الشقيقة سوريا والتوصل إلى حل دائم للقضية الكردية أيضًا، وذلك في إطار ما تتمتع به الدبلوماسية المصرية من صوت للحكمة يعلو فوق ضجيج الحروب في أزمنة الصراع.

وما يهمنا في هذه المرحلة هو بدء ترتيب البيت الفلسطيني، حيث من المنتظر أن تستضيف القاهرة خلال الفترة القادمة وفودًا فلسطينية من كافة الفصائل ومن السلطة الفلسطينية، بجانب الدعوة إلى مؤتمر دولي لإعادة إعمار قطاع غزة الذي تم تدميره. وفي الوقت الذي أتوقع فيه مزيدًا من الانقسامات بين التيارات اليمينية والخسارة في إسرائيل، من المؤكد أن الشرخ العميق في البنية السياسية والاجتماعية للكيان الصهيوني من شأنه أن يهدد استقراره، حيث يقودنا المشهد إلى إمكانية الكشف عن ملامح أزمة في إسرائيل تتجاوز حدود الخلاف حول إدارة الحرب إلى أزمة وجود عن معنى جديد لأمنها، والبحث عن جدوى استمرار الصراع بلا أفق سياسي أو أخلاقي.

والدولة التي تنهكها الانقسامات الداخلية لا يمكن أن تستمر في قوتها، ولا يمكن لها استعادة مكانتها الدولية ما لم تعد إلى الحوار وتستعيد بناء ثقة الداخل قبل الخارج. والسلام ليس ضعفًا، بل هو محاولة لاستعادة العقل في مواجهة النرجسية والغطرسة والجنون، حيث إنه السبيل الوحيد لمنح الإسرائيليين أمنهم، والفلسطينيين حقهم، ومنطقة الشرق الأوسط بعضًا من التوازن المفقود.

والمتابع للمشهد المستقبلي لإسرائيل، ومن خلال تحليل الوقائع على الأرض، يمكنه أن يلمس دولة منقسمة بين يمين متشدد يرفض أي حديث عن التهدئة، وبين أصوات أخرى عسكرية ومدنية تدعو لوقف نزيف الدم. حتى داخل المؤسسة الأمنية يبدو بوضوح إدراك متزايد بأن الحل العسكري وحده لم يعد كافيًا، حيث إن تكرار العنف لن ينتج عنه سوى المزيد من العزلة الدولية وتآكل صورة إسرائيل كدولة قادرة على إدارة أزماتها بعقلانية.

ربما تصور البعض أن إعلان الحرب على غزة هو إنقاذ لحكومة نتنياهو التي عانت من احتجاجات غير مسبوقة ضدها قبل اندلاع الحرب، وأن الخطر الخارجي سوف يمهد الطريق للتغلب على أزمة الصراع حول إصلاحات القضاء في تل أبيب وسيؤدي لتوحيد الصف، لكن الفعل جاء عكسيًا، بل أدى إلى تعميق الجرح الداخلي، وخاصة مع مسألة وقضية الرهائن أو المختطفين بيد حماس، الذين لم يتم إطلاق سراحهم بالبندقية أو السلاح ولكن بالتفاوض.

وإنجاز التوصل إلى إنهاء الحرب في غزة يعكس إرادة سياسية شجاعة للرئيس الأمريكي دونالد ترامب، بعد أن مارس ضغوطًا على كل من حماس، التي منحها مهلة ثلاثة أيام وهددها بـ”الجحيم”، وضغوطًا على نتنياهو الذي كثيرًا ما تهرب من الالتزامات العلنية لقبول اتفاق شرم الشيخ، رغم أنه يتعارض مع أيديولوجية اليمين المتطرف، إلا أنه يحقق مكاسب لإسرائيل في استبعاد حماس من المشهد السياسي ونزع سلاح المقاومة.

ويظل السؤال الحائر مستقبلًا حول مدى ديمومة واستمرار سلام شرم الشيخ، الذي أعاد روح كامب ديفيد ولكن بثوب جديد، خاصة بعد أن فرضه ترامب وظهر من خلاله أنه الطرف القادر على المنح والعقاب، بعد أن استخدم لغة حادة محذرًا الطرف الرافض للاتفاق من تحمّل مسؤولية استمرار الصراع ونتائجه المروعة، مما يستلزم مراعاة الوضع في الاعتبار، فغياب الثقة وتربص الأطراف ببعضها البعض وسياسة لغة الحسم قد يقودان إلى هدنة مؤقتة وبناء سلام هش.

قد يهمك