بث تجريبي

انتخابات البرلمان السوري… شرعية على الورق وتهميش في الواقع

في الخامس من تشرين الأول ٢٠٢٥، تتجه الأنظار إلى دمشق، حيث من المقرر أن تُجرى انتخابات مجلس الشعب السوري “البرلمان”، في حدث يُسوَّق له رسمياً بوصفه خطوة على طريق الاستقرار السياسي وإعادة الدمج الإقليمي والدولي لسوريا. لكن؛ خلف هذا المشهد المعلن، تتكشف صورة مختلفة تعكس استمرار التقاليد المركزية القديمة، ومحاولات فرض شرعية انتخابية شكلية لا تعكس حقيقة التعددية أو المشاركة الشعبية الحقيقية.

هذه الانتخابات الأولى منذ أكثر من عام على استعادة المجموعات المسلحة السلطة في إطار المرحلة الانتقالية، تطرح أسئلة جدية حول جدواها في ظل نظام انتخابي مؤقت يمنح رئيس الجمهورية سلطة تعيين ثلث مقاعد البرلمان، ويترك ثلثي المقاعد الأخرى رهناً بهيئات ناخبة مُشكَّلة بآلية غير شفافة. وإلى جانب ذلك، يطفو على السطح تهميش سياسي واضح لأربع محافظات ومناطق رئيسية ـ ريف دير الزور الشرقي، الحسكة، الرقة، السويداء ـ التي تمثل فسيفساء التنوع السوري أثنياً ومذهبياً واجتماعياً، لكنها بقيت على هامش العملية الانتخابية من حيث التمثيل الفعلي والقدرة على التأثير في القرارات.

النظام الانتخابي المؤقت.. ثلث بالتعيين وثلثان بالمجالس

أقرّت الحكومة الانتقالية في دمشق نظاماً انتخابياً مؤقتاً ينصّ على أن يتم انتخاب ثلثي أعضاء مجلس الشعب عبر هيئات ناخبة محلية، بينما يقوم رئيس الجمهورية بتعيين الثلث المتبقي. وإذا كان هذا النظام قد سُوِّق باعتباره آلية انتقالية مؤقتة، فإنه في الجوهر يكرّس مركزية السلطة ويحدّ فرص ظهور برلمان مستقل.

وبالنظر إلى الأرقام، فإن توسيع حجم المجلس من ١٥٠ مقعداً سابقاً إلى ٢١٠ مقاعد حالياً لم يُترجم إلى توسيع حقيقي للمشاركة الشعبية، لأن ما يقارب ٧٠ مقعداً سيُعيَّنون مباشرة من الرئيس. أي أن أكثر من ثلث البرلمان سيكون مرتبطاً بالسلطة التنفيذية، بما يعيد إلى الأذهان ممارسات مجالس الشعب في عهد بشار الأسد، حين كان الحزب الحاكم يحتفظ بالسيطرة شبه الكاملة على المقاعد.

هذه المعادلة تثير الشكوك حول نية الحكومة الجديدة في إرساء أسس ديمقراطية فعلية، وتحوّل الانتخابات من أداة محاسبة شعبية إلى مجرد وسيلة لإضفاء شرعية شكلية على خيارات السلطة.

وفي ٢٨ أيلول أعلنت اللجنة العليا لانتخابات مجلس الشعب القوائم الأولية للهيئات الناخبة في بعض المناطق مثل الرقة، وكري سبي/ تل أبيض، وسري كانيه. وفي الوقت نفسه، أُغلق باب الترشح على مستوى ٥٠ دائرة انتخابية، حيث بلغ عدد المرشحين ١٥٧٨ مرشحاً، بينهم نسبة نسائية لم تتجاوز ١٤% فقط.

ورغم الترويج الإعلامي الرسمي لهذه الأرقام كدليل على انفتاح سياسي، إلا أن القراءة المتأنية تكشف محدودية المشاركة النسائية وضعف الحضور الشبابي والمجتمعي في القوائم. كما أن نسبة الترشح هذه ليست متوازنة بين المحافظات، إذ أظهرت بعض المناطق مشاركة ضعيفة، خصوصاً في المحافظات التي تعيش حالة من التهميش السياسي والأمني.

إن هذه الأرقام، وإن بدت على الورق ضخمة، لكنها تعكس في الحقيقة استمرار العوائق أمام مشاركة المرأة والمكونات المهمشة في الحياة السياسية، لتبقى العملية أقرب إلى إعادة إنتاج النخب القديمة بشكل جديد.

المناطق المهمشة.. تكريس للمركزية

لا يمكن مقاربة الانتخابات البرلمانية المقبلة في سوريا من زاوية تقنية أو إجرائية فحسب، لأنّ جوهرها يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالبعد الجغرافي والاجتماعي، وهو البعد الذي يكشف هشاشة الخطاب الرسمي عن “شمولية” العملية السياسية.

ففي الوقت الذي تروج فيه الحكومة الانتقالية لهذه الانتخابات على أنها خطوة نحو إعادة بناء الشرعية السياسية، يتضح من المشهد العملي أن أربع مناطق رئيسية – دير الزور “الريف الشرقي منه”، الحسكة، الرقة، السويداء – ما زالت تعاني من تهميش منظم، لم يأت صدفة بل جاء نتيجة خيارات مقصودة تكرّس المركزية وتبقي القرار السياسي محصوراً في دمشق. هذا التهميش لم يقتصر على إقصاء عددي أو حرمان من حصص تمثيلية متوازنة، بل تعداه إلى تغييب كامل للأصوات المحلية، وإضعاف دور المكونات الاجتماعية التي كان من المفترض أن تكون الحاضنة الأولى لأي مسار ديمقراطي حقيقي.

في ريف دير الزور الشرقي، على سبيل المثال، حيث النفط والموارد التي تمثل عصباً للاقتصاد السوري، بقي الحضور الانتخابي مجرد واجهة صورية، فيما تم التعامل مع المجتمع المحلي وكأنه مصدر إزعاج يجب احتواؤه بآليات شكلية لا تمنحه حق المشاركة في القرار. أما الحسكة، التي تختزن تنوعاً استثنائياً بين الكرد والعرب والسريان، فقد تحولت إلى دليل حي على فشل الحكومة الانتقالية في إدارة التعددية، إذ وُضعت ضمن إطار هيئات ناخبة محدودة التأثير، بحيث لا تستطيع أن تعكس حقيقة هذا النسيج الاجتماعي ولا تطلعاته. وفي الرقة، ورغم إعلان اللجنة العليا للانتخابات عن قوائمها في الثامن والعشرين من أيلول، بقيت المشاركة محكومة بالسقف الذي يفرضه المركز، لتغدو العملية برمتها رمزية أكثر منها سياسية. أما السويداء، التي حملت على مدى الأعوام الأخيرة صوت احتجاج متكرر ضد التهميش والحرمان، فقد جرى عزلها بصورة شبه كاملة عن أي مشاركة مؤثرة، لتتكرس الفجوة بينها وبين دمشق على نحو أعمق.

إن المسؤولية هنا لا تقع على الظروف الموضوعية وحدها، بل تعود بالدرجة الأولى إلى أداء الحكومة الانتقالية التي تجاهلت كل تلك المؤشرات، ولم تتعامل معها بجدية، بل تعاملت بمنطق الإقصاء والانتهاك. فهي من جهة ترفع شعارات الإصلاح والانفتاح، ومن جهة أخرى تُعيد إنتاج أسلوب قديم في إدارة المناطق، قائم على الإملاء من المركز وتهميش الأطراف. هذا النهج لا يضعف فقط الثقة بين الشعوب والدولة، بل يزرع شعوراً متنامياً بأن الانتخابات ليست سوى امتداد لسياسات القمع والتمييز التي عرفتها البلاد طويلاً، وأن ما يُقدَّم كمرحلة انتقالية ليس إلا نسخة معدلة من الماضي بوجه جديد.

الدعاية الانتخابية.. بين الصمت والقيود

وإذا كان التهميش الذي طال مناطق مثل دير الزور والحسكة والرقة والسويداء قد عكس إرادة سياسية واعية من جانب الحكومة الانتقالية لإبقاء القرار بيد المركز، فإن ما جرى في ملف الحملات الدعائية لا يقل خطورة، إذ يكشف غياب أي نية حقيقية لإطلاق فضاء سياسي مفتوح. فحسب القرارات الرسمية، بدأت الحملات صباح ٢٩ أيلول ٢٠٢٥ واستمرت يومين، قبل أن يُخصص اليوم الثالث كصمت انتخابي، لكن هذه المواعيد بقيت إطاراً شكلياً أكثر منها مساحة فعلية للعمل السياسي. فالمرشحون، خصوصاً من المناطق المهمشة أو من خلفيات مستقلة، وجدوا أنفسهم محاصرين بجملة من القيود التي منعتهم من طرح برامج انتخابية تتناول القضايا الحقيقية، لا سيما قضايا العدالة الاجتماعية، التمثيل المناطقي، والحقوق الاقتصادية.

في المقابل، فُتحت الأبواب على نحو شبه حصري أمام الوجوه المقرّبة من دوائر النفوذ، ممن حصلوا عملياً على امتيازات غير معلنة، بدءاً من تغطية إعلامية في القنوات الرسمية، وصولاً إلى تسهيلات لوجستية في تعليق الصور والملصقات على المباني الحكومية. وبغياب المناظرات العلنية أو النقاشات المفتوحة، جرى تجريد الناخبين من حقهم الطبيعي في المقارنة بين البرامج والرؤى، وتحول المشهد الانتخابي إلى مجرد سباق صور وشعارات عامة، لا تحمل مضموناً سياسياً حقيقياً.

هذا الواقع لم يكن مجرد خلل إداري، بل انعكاس مباشر لنهج الحكومة الانتقالية في التعامل مع العملية السياسية كإجراء بروتوكولي، لا كمساحة لإعادة بناء العقد الاجتماعي. فكما عزلت الأطراف والشعوب السورية المختلفة عن التمثيل المؤثر في البرلمان، عمدت أيضاً إلى تفريغ الحملات الانتخابية من مضمونها، بما يحوّل المنافسة إلى استعراض شكلي يعزز سطوة المركز. وبهذا، يصبح ما يُقدَّم على أنه “مهرجان ديمقراطي” امتداداً طبيعياً للتهميش السياسي والاجتماعي الذي فُرض على المحافظات والمناطق الأخرى.

مشاركة شكلية أم بداية تحول؟

يرى بعض المحللين أن الانتخابات تحمل دلالة رمزية باعتبارها خطوة انتقالية من مرحلة “المجالس الصورية” إلى برلمان أكثر تعددية. لكن هذه الرمزية تصطدم بجملة من الحقائق:

التعيين الرئاسي لثلث المقاعد.

تهميش أربع مناطق ومحافظات رئيسية.

غياب المشاركة النسائية والشبابية الفاعلة.

استمرار نفوذ السلطة التنفيذية على العملية برمتها.

كل ذلك يجعل من الصعب النظر إلى الانتخابات باعتبارها تحولاً جوهرياً، بل أقرب إلى محاولة لشراء الوقت وكسب الثقة الدولية والإقليمية عبر واجهة انتخابية محدودة.

المجتمع الدولي يراقب هذه الانتخابات عن كثب، إذ يعتبرها اختباراً لمدى استعداد دمشق للانخراط في مسار سياسي إصلاحي. الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي ودول الإقليم يشترطون انتخابات حرة وشفافة كأحد مؤشرات جدية الإصلاح.

غير أن التحديات الأمنية والاقتصادية، إلى جانب الطابع الشكلي للنظام الانتخابي، تجعل من الصعب إقناع هذه الأطراف بأن سوريا تسلك فعلاً مساراً ديمقراطياً. بل قد تُستخدم أي إخفاقات في العملية الانتخابية ذريعة لتمديد العقوبات أو تجميد أي تعاون اقتصادي في ملف إعادة الإعمار.

من برلمانات الأسد إلى الشرع

لا يمكن فهم انتخابات ٢٠٢٥ دون استحضار تاريخ برلمانات سوريا. ففي عهد بشار الأسد، كان البرلمان مجرد أداة بيد الحزب الحاكم، خاضعاً لهيمنة مطلقة من “حزب البعث” وتحالفاته الشكلية. لم يكن مجلس الشعب سوى غرفة تصديق على قرارات السلطة التنفيذية، دون أي استقلالية أو معارضة مؤثرة.

اليوم، رغم تصريحات رئيس المرحلة الانتقالية أحمد الشرع الذي أكد أن المجلس الجديد “مرحلة انتقالية وليس حالة دائمة”، فإن جوهر السلطة ما زال بيد الرئيس. ما يجعل البرلمان القادم مهدداً بأن يتحول إلى نسخة معدلة من البرلمانات السابقة، دون تغيير جوهري في معادلة القوة.

مع اقتراب الخامس من تشرين الأول ٢٠٢٥، تبدو الانتخابات البرلمانية السورية محمّلة بالدلالات، لكنها تفتقر إلى الجوهر الديمقراطي.

٧٠ مقعداً سيُعينها الرئيس مباشرة.

١٥٧٨ مرشحاً يتنافسون في ظروف غير متكافئة.

١٤% فقط من النساء على قوائم الترشيح.

أربع محافظات ومناطق مهمشة عن التأثير الحقيقي.

عملية انتخابية تُدار بآليات مركزية وتحت قيود دعائية صارمة.

هذه المعطيات تجعل الانتخابات أشبه بمحاولة لإنتاج شرعية شكلية أكثر من كونها مساراً ديمقراطياً حقيقياً. وبينما تسعى دمشق لتسويق العملية كخطوة على طريق الاستقرار، يبقى السؤال مفتوحاً: هل يستطيع برلمان يُشكَّل ثلثه بالتعيين، ويُهمَّش فيه تنوع سوريا، أن يكون فعلاً ممثلاً للشعب؟ أم أنه مجرد نسخة جديدة من مجالس شكلية سابقة، تغيرت فيها الوجوه لكن بقيت البنية ذاتها؟

إن الجواب، كما يرى مراقبون، لن يُقاس بعدد المقاعد أو الأسماء، بل بمدى قدرة المجلس على ممارسة سلطة تشريعية حقيقية، وهو ما لا تظهر مؤشرات جدية لحدوثه في المدى المنظور.

... نقلا عن صحيفة روناهي

قد يهمك