بث تجريبي

د. سوزان القليني تكتب لـ"المبادرة" .. الإعلام وإعادة بناء الوعي بعد الأزمات: من صناعة الخبر إلى صناعة السلام

في مجتمعات عاشت عقودًا من الصراع والتوتر، لم يعد الإعلام مجرد أداة لنقل الأخبار أو تسليط الضوء على الأحداث، بل أصبح شريكًا أساسيًا في عملية إعادة بناء الإنسان قبل العمران.

ففي مرحلة ما بعد الأزمات، يقف الإعلام أمام تحدٍ مصيري: كيف يسهم في ترميم الوعي الجمعي، وصياغة خطاب يوحّد ولا يفرّق، يزرع الأمل بدل الخوف، ويرسم صورة لمستقبل ممكن رغم كل الجراح؟

الإعلام بين الحياد والانحياز إلى الوطن

التجربة العربية، والسورية بشكل خاص، كشفت أن الإعلام ليس محايدًا في الأزمات، بل يترك بصمة عميقة في تشكيل الرأي العام وتوجيه المزاج الشعبي. فالخطاب الإعلامي قد يكون أداة للاستقطاب وبث الكراهية، لكنه أيضًا قادر على أن يصبح مساحة للحوار وبناء الجسور بين المختلفين. من هنا تنبع أهمية أن يتبنى الإعلام قيم الاعتدال، احترام الاختلاف، ومقاومة خطاب الكراهية، حتى يتحول من مجرد ناقل للخبر إلى شريك في المصالحة الوطنية وإعادة اللحمة المجتمعية.

من الخبر إلى صناعة الأمل

إعادة بناء الوعي الجمعي ليست عملية تلقائية أو عفوية، بل هي مشروع يحتاج إلى رؤية استراتيجية وإرادة مجتمعية. ويأتي الإعلام هنا باعتباره المنصة التي يمكن أن تحوّل هذه الرؤية إلى واقع ملموس. فالرسائل الإعلامية الإيجابية التي تركز على القواسم المشتركة أكثر من نقاط الخلاف، هي القادرة على إعادة الثقة بين الناس. كما أن إبراز النماذج الملهمة من الشباب والنساء والرواد الذين تحدوا الظروف ونجحوا، يسهم في تعزيز روح المبادرة ويمنح الأمل للأجيال القادمة.

الحوار… لغة جديدة للإعلام

لا يمكن إعادة بناء وعي مجتمعي دون فتح أبواب الحوار. الإعلام هنا مدعو لأن يتحول إلى مساحة آمنة لتعدد الآراء والأصوات، من خلال البرامج التفاعلية، المناظرات، وحتى النقاشات على المنصات الرقمية. فالحوار العلني والمفتوح يرسخ ثقافة المشاركة، ويقلل من احتمالية عودة الاحتقان أو الانغلاق.

التحدي الأكبر: مواجهة التضليل

من أبرز التحديات التي تواجه الإعلام بعد الأزمات، سيل الأخبار المضللة والشائعات التي تنتشر بسرعة البرق عبر شبكات التواصل الاجتماعي. هنا تقع على وسائل الإعلام مسؤولية مضاعفة: ليس فقط تقديم المعلومة الصحيحة، بل ترسيخ ثقافة التحقق لدى الجمهور. فالوعي النقدي هو خط الدفاع الأول ضد التضليل، والإعلام المهني هو الحصن الذي يقي المجتمع من الوقوع في فخ المعلومات الزائفة.

الإعلام كقوة ناعمة لبناء السلام

لقد تغيّر مفهوم الإعلام جذريًا. لم يعد يكفي أن يُنقل الخبر بموضوعية باردة، بل أصبح من الضروري أن ينخرط الإعلام في صناعة السلام. فمن خلال الدراما التي تروي قصصًا عن التعايش، والبرامج التي تفتح نوافذ للأمل، والحملات الرقمية التي تدعو للتسامح، يتحول الإعلام إلى قوة ناعمة ترسّخ السلم الأهلي وتعيد للمواطن ثقته بوطنه.

خاتمة: الكلمة دواء الجراح

إذا كان السلاح يترك في الذاكرة ندوبًا غائرة، فإن الكلمة قادرة على تضميدها. وفي سورية، كما في سائر الأوطان العربية التي مرّت باضطرابات، يحتاج المواطن إلى إعلام يعيد إليه الطمأنينة، ويمنحه يقينًا بأن المستقبل قابل للبناء، وأن الوطن أكبر من كل الخلافات. فالإعلام ليس مجرد مهنة أو مؤسسة، بل هو رسالة أخلاقية، ومشروع وطني، وأداة استراتيجية لإعادة بناء الوعي الجمعي وصناعة السلام المنشود.

 

قد يهمك