إذ يقترب الوضع في سوريا من لحظةٍ حاسمة، أزعم أنّ تأخير جهود المصالحة الوطنية بات يهدد بتقسيم البلاد وتفتيتها في مدى قريب جدًا. ففي وقتٍ يُبدي فيه نتنياهو دهشته من سرعة التسهيلات التي يقدمها الطرف السوري لدفع المفاوضات الأمنية، تمارس الولايات المتحدة أقصى الضغوط على دمشق لتوقيع اتفاقٍ أمني مع إسرائيل. وفي المقابل، تُصرّ إسرائيل على اتفاقٍ تعاقدي مع الإدارة السورية يُفضي عمليًا إلى تحويل دمشق إلى مدينة ساقطة عسكريًا، وإلى أجلٍ غير مسمى.
وتذهب إسرائيل أبعد من ذلك، إذ تضع شروطًا قصوى لتقييد قدرات سوريا على تطوير دفاعاتها الجوية، بما في ذلك الصواريخ والمسيّرات، وتطالب بتسليم ملفاتٍ أمنية لأشخاص موجودين على الأراضي السورية ترى فيهم تهديدًا لأمنها. وبينما يجري كل ذلك، تكرر السلطات السورية القول إن سوريا لن تكون مصدر تهديد لأيٍّ من جيرانها.
فإذا كانت الإدارة السورية مستعدة للتوقيع على اتفاقات أمنية طويلة الأمد مع إسرائيل، ولا ترغب في الحرب مع أيٍّ من جيرانها “الطيبين” — من إسرائيليين وأتراك وإيرانيين — فمن هم “الأشرار” إذًا؟ ولمن تُقرع أجراس الحرب في سوريا؟ ولماذا يتسلّح الجيش السوري ويستعد؟ وضدّ من؟ ومن هو العدو؟
بدل أن تتجه الحكومة السورية إلى اتفاقات أمنية جزئية مع إسرائيل، يجري تأخير الجهد السياسي التفاوضي الحقيقي الهادف إلى تحقيق مصالحة وطنية طوعية بين السوريين، وصولًا إلى سلمٍ أهليٍّ مستدام، ورسم نموذج دولة وطنية لامركزية. دولة تُبنى على عقدٍ اجتماعيٍّ مدنيٍّ ديمقراطيٍّ جامع، يكون المصدر الأساسي للحقوق، وأساس احتكار الدولة للعنف، وضابط العلاقة بين السوريين بمختلف مشاربهم، التي لا تُختزل — قطعًا — في الطائفة أو القومية.
إن عقدًا اجتماعيًا كهذا يؤسس لعقيدةٍ عسكريةٍ جامعة للجيش السوري الوطني، تُجسّد حياد الدولة العقائدي، وتكون مجردة من الطوائف والعقائد الدينية والقوميات، بما يجعل الجيش مؤسسة وطنية لا أداة تمثيل لفئة بعينها.
فما الذي يعنيه بقاء الجمود الداخلي على حاله، من دون توحيد البلاد طوعًا وتوافقًا؟وماذا يعني الذهاب نحو اتفاقات جزئية مع إسرائيل تمنحها ما تريد، وتسلُب سوريا سيادتها على أجزاء واسعة من أراضيها، وتحوّل دمشق إلى مدينة ساقطة عسكريًا وموضوعيًا؟وما الذي يعنيه السير في توافقات داخلية جزئية، مع التلكؤ في إنتاج عقدٍ اجتماعي ودستورٍ سوري توافقي؟
من دون وحدة الشعب السوري قلبًا وقالبًا، لن تحمي سوريا لا الضمانات الأمريكية — والعبرة في غزة — ولا أوراق الاتفاقات مع الجيران “الطيبين”. بل، كما يُقال، «بالوعد يا كمون».
وأزعم أنّ تأخير المصالحة الوطنية التوافقية والتعاقدية، وتأخير إنجاز العدالة الانتقالية، يعني عمليًا استمرار الخطابات التكفيرية من جهة، وتكريس خطابات “تحرير القدس” بذريعة غياب السلام من جهة أخرى. لكنه، في المحصلة، يكرّس حالة التقسيم في البلاد إلى أجلٍ غير مسمى، ويُبقي جذوة الحرب الداخلية مشتعلة، بما يهدد بتقسيمٍ نهائيٍّ للبلاد.
وسواء في شرق الفرات، أو في جبل العرب، أو في شمال غرب سوريا حيث تسيطر الفصائل الموالية لتركيا — والتي عاقبتها بريطانيا مؤخرًا — يتكرس واقعٌ عملي خارج سيطرة الدولة المركزية.
ثمّة خطرٌ كبير يتهدد مستقبل البلاد نتيجة الاندفاع نحو اتفاقات أمنية جزئية وخطرة مع الخارج، مقابل تباطؤٍ في إنجاز مصالحة وطنية تعاقدية في الداخل. فالقضية الجوهرية هنا هي قضية الأولويات:أيهما ينبغي أن يسبق الآخر؟هل تُبنى الدولة من الداخل أولًا — بعقد اجتماعي جديد — ثم تُدار الملفات الخارجية من موقع وحدة وطنية؟أم تُدار المخاطر الخارجية على حساب تأجيل “العقد”، بما يكرّس الانقسام، ويُصلّب الضعف، ويُطلق منطق التكفير والاقتتال الداخلي، فتستعيد الساحة لغاتها القصوى: خطابًا دينيًا متشددًا من جهة، وخطابًا تعبويًا واسعًا من جهة أخرى، وواقعًا يتفتت تدريجيًا؟
عندها لا يعود الانقسام مجرد اختلافٍ سياسي، بل يتحول إلى خرائط نفوذ، ومؤسسات موازية، وولاءات اقتصادية وأمنية، و«سرديات» متصارعة عن الشرعية لا تلتقي.
ما ينبغي العمل عليه هو مصالحة وطنية تعاقدية لامركزية، تُنتج عقدًا اجتماعيًا مدنيًا ديمقراطيًا جامعًا، يكون مصدرًا للحقوق والواجبات، ويعيد تعريف علاقة السوريين بالدولة على أساس المواطنة، لا الطائفة ولا القومية. فالدولة لا تُبنى بالدساتير وحدها، بل أيضًا بترسيخ حياد المؤسسات السيادية تجاه الهويات الفرعية، لتصبح وظيفة القوة حماية المجال الوطني لا تمثيل جماعة بعينها، ولتغدو مقاربة الملفات الخارجية مرآةً لوحدة الداخل لا لأزمته؛ إذ إن كل تأجيلٍ للتسوية الداخلية هو فرصة جديدة للتدخل الخارجي.
إن مأزق الترتيبات الأمنية أنها تفترض، أصلًا، وجود دولة واحدة موحدة، قادرة على تحويل الهدوء إلى بناء سياسي. أما حين يكون الداخل موزعًا بين سلطاتٍ فعلية ومناطق نفوذ، فإن الهدوء لا يتحول تلقائيًا إلى إعادة توحيد، بل يكرّس الانقسام.
لذلك، لا سلام على الحدود ما لم يسبقه سلام في الداخل.يقول غرامشي عن “المرحلة الانتقالية”: حين يحتضر القديم ولا يولد الجديد، تخرج الوحوش — أي تظهر أشكال الفوضى، والتطرف، والاقتصاد المسلح. وما يتكرس على الأرض في الشرق الأوسط هو ما يدوم؛ فـ«المؤقت» يخلق وقائع تستقر وتستمر.
وعليه، لا تعود أجراس الحرب سؤالًا، بل جوابًا:إنها تُقرع حين تُترك الدولة بلا عقد، والجيش بلا عقيدة جامعة، والسيادة بلا إجماع وطني.وكما يقول جون دن: «لا تسأل لمن تُقرع الأجراس؛ إنها تُقرع لك».
-------
تقلاً عن موقع مدونة