بث تجريبي

تجربة الإدارة الذاتية موضوع كتاب صدر مؤخرًا في القاهرة

في أمسية فكرية ثَرِيّة استضافتها إحدى دور النشر المصرية المعروفة في القاهرة، وأدارها باقتدار شريف عبدالحميد رئيس مركز الخليج للدراسات. وضمت العشرات من المفكرين والباحثين والمسؤولين والدبلوماسيين والصحفيين؛ تم عقد ندوة حول كتاب "اللامركزية وبناء مستقبل سوريا – الإدارة الذاتية نموذجًا" للباحثة ليلى موسى، ممثلة مجلس سوريا الديمقراطية في القاهرة.

حيث احتفى الحضور بصدور الكتاب المهم في بابه والمتفرد في موضوعه والمتقدم في أطروحاته. وهو بالأساس رسالة علمية لنيل درجة الماجستير في العلوم السياسية من كلية الدراسات العليا والبحوث الإحصائية في جامعة القاهرة. كما ناقش الحاضرون على مدى أربع ساعات محتوى الكتاب وأفكاره وأطروحاته ومنهجه العلمي وخلاصاته في ضوء المتغيرات التي تشهدها الساحة السياسية في سوريا ومنطقة الشرق الأوسط عمومًا.

بحث علمي أكاديمي ومهني

وخلال الندوة أشاد الحاضرون بالكتاب كبحث علمي أكاديمي ومهني، تم الإشراف عليه ومناقشته في وقت سابق في أكبر الصروح العلمية المصرية، جامعة القاهرة العريقة. كما نوّهوا بتوقيت الكتاب الذي تزامن مع نهاية حِقبة من تاريخ سوريا وبداية حِقبة أخرى. حيث سقط نظام البعث وانتهى بعد أكثر من خمسة وخمسين سنة، ووصلت مجموعة جديدة إلى السلطة في دمشق. وعلى مدى أكثر  من تسعة أشهر تخبطت هذه السلطة الجديدة في معظم قراراتها وسياساتها. كما ارتكبت مجزرتين طائفيتين خطيرتين راح ضحيتهما المئات من المواطنين السوريين في منطقتي الساحل والسويداء وسط تهدديات وخطاب عنصري معادٍ ومحرّضٍ على الإدارة الذاتية في منطقة شمال شرق سوريا.

ومن جهتها، لفتت المؤلفة إلى أسباب وظروف ومنهج البحث والكتاب، مشيرة إلى أهمية تعميم نموذج الإدارة الذاتية على كل سوريا لضمان قيام حكم رشيد نزيه على أسس علمية ووطنية تتجاوز أخطاء الماضي وجرائمه ومآسيه، وتؤسس لنظام ديمقراطي تشاركي يضمن حقوق كل المواطنين السوريين بغض النظر عن انتماءاتهم العرقية والدينية والطائفية.

كما أشارت المؤلفة إلى طبيعة الدراسة الميدانية "موضوع الكتاب" التي تناولت مناطق وأقاليم الإدارة الذاتية، والتحديات والعقبات، وكيف تطوّرت التجربة وتعمَّق الوعي بها على مدى أكثر من عشر سنوات. كما لفت الكتاب إلى ضرورة تغيير بنية النظام السياسي في سوريا، وليس فقط الأشخاص. حيث لا زالت الذهنية الاستعلائية التمييزية العنصرية المتطرفة موجودة بشكل ملحوظ في بعض المناطق، ومن قبل بعض الأشخاص والفئات. ورأت المؤلفة أن الحل لـ"الأزمات السورية" يكمن في مشاركة جميع السوريين عبر اللامركزية كحل سياسي ودستوري بديل عن النزعات الانفصالية التي ظهرت بعد الثامن من ديسمبر، وما تلا ذلك التاريخ من صدامات طائفية وعنصرية ومجازر تجعل المركزية خيارًا مرفوضًا من كثير من السوريين.

عمل جريء

خلال الندوة، اعتبر الخبير الاستراتيجي والأمني، اللواء خالد مطاوع، الكتاب/الدراسة عملًا علميًا "جريئًا" و"سابقة" وإضافة مُثرية إلى المكتبة العربية. كما أشار إلى أن الإدارة الذاتية ظهرت في لحظة فراغ سياسي وأمني. وأن دراستها مهمة في مجال الإدارة والنظم السياسية والدستورية. كذلك نوّه مطاوع بالدور المحوري الذي لعبته الإدارة الذاتية ومؤسساتها الأمنية والعسكرية في محاربة الإهارب ومكافحة التطرف. وأنها تصدّت بأبنائها وبناتها نيابة عن شعوب الدول العربية ودول المنطقة. كما قامت بمهمة نبيلة تستحق كل الإشادة والتقدير. وساهمت وساعدت في حفظ أمن واستقرار كل دول الإقليم وخصوصًا سوريا ودول الخليج العربي.

مفتاح الاستقرار

ومن جهته، ركّز الدكتور مختار غباشي أمين عام مركز الفارابي للدراسات الاستراتيجية خلال مناقشته على الإجابة عن سؤال: هل يمكن للإدارة الذاتية جلب الاستقرار لسوريا؟. مشيرًا إلى أن اللامركزية ليست بدعة في النظم السياسية العربية والإقليمية. وأن هناك العديد من الدول العربية تعتمد اللامركزية بمختلف أشكالها وتنويعاتها. كما أشاد بالكتاب الذي "اقتحم" عمق تعريفات اللامركزية، وأوضح وبسّط الكثير من المفاهيم المُلغزة، مع التركيز على اللامركزية كإطار لحل الأزمات السياسية المستعصية كالأزمة السورية. بالإضافة إلى البحث عن مخرج وإيجاده والمفاضلة بين الحلول الممكنة والمتاحة. خصوصًا في الوقت الراهن حيث تتنامى لدى بعض المجموعات الإثنية النزعات الرافضة للمركزية المطلقة كالتي كانت سائدة في سوريا إبّان فترة النظام المخلوع.

تطبيق عملي لفلسفة الأمة الديمقراطية

من جانبه تحدث الكاتب الصحفي إلهامي المليحي عن واقع تجربة الإدارة الذاتية، وما الذي تحقق خلالها للسوريين على مدى عقد من الزمن. وأنّ الكتاب رصدٌ علميٌ لتطبيق نظرية الأمة الديمقراطية التي يُنادي بها المفكر عبدالله أوجلان. مشيدًا بنجاح التجربة رغم التحديات الداخلية الخطيرة متمثلة بكل من تنظيم داعش الإرهابي ونظام الأسد المستبد الفاسد المجرم. فضلًا عن التحديات الخارجية كالخطر المتجسد في الوحشية التركية التي عملت كثيرًا على إحباط التجربة وفشلت. كذلك أشار إلى آليات معالجة الإخفاقات والتعامل مع التحديات، مثل غياب الاعتراف الدولي والحصار الاقتصادي والحاجة إلى إعادة المأسسة بعد انتهاء الحرب الإهلية وسقوط نظام البعث وهروب بشار الأسد إلى روسيا.

التدخلات المشبوهة

هذا وتناول الكاتب والمحلل السياسي الأردني، الدكتور ذيب القَرَالة، الظروف والملابسات التي ظهرت فيها الإدارة الذاتية، والأوضاع السياسية والأمنية التي شهدتها سوريا منذ اندلاع الثورة السورية عام 2011 حتى اليوم. ولفت إلى التدخل الخارجي الذي عمّق الأزمة السورية وأحْدَثَ ما يُعرف بالحرب بالوكالة بين مختلف الأطراف السوريين لصالح قوى عالمية وإقليمية جيّرت الصراع لتحقيق أهدافها في السيطرة والتمدد في سوريا. كما أشار إلى "صراع النفوذ" بين تركيا وإسرائيل على الأرض السورية. تركيا التي تعارض اللامركزية وتحارب الإدارة الذاتية، وإسرائيل التي تشجّع بعض الدروز على الانفصال. هذا فضلًا عن التدخل غير النزيه من قِبل بعض الأطراف العربية. كما ذكّر القرالة أن سوريا بحاجة لدعم عربي يساعد على الاستقرار وإعادة بناء الدولة على أسس تحفظ كلًا من الأمن الوطني السوري والأمن القومي العربي.

المرأة شريك أساسي

الباحثة والكاتبة الدكتورة أسماء الحسيني، من جهتها، ركّزت في مداخلتها على دور المرأة السياسي كشريك أساسي في إعادة بناء الدولة السورية. مشيدة بما حققته وأثبتته المرأة في منطقة شمال شرق سوريا أنها جديرة بتحمّل المسؤولية كاملة في كل أوجه العمل العام، من السياسة والإدارة والخدمة المجتمعية، وصولًا للانخراط الفعّال والمؤثّر والمؤطّر في المهام العسكرية والأمنية. كما ركّزت على أن مشاركة المرأة الواضحة والبارزة في الإدارة الذاتية كانت عاملا حاسمًا في نجاح هذه الإدارة في تحقيق رسالتها وأداء واجباتها.

أيضًا أشارت الدكتورة أسماء الحسيني إلى أن المرأة قدمت من خلال مشاركتها في الإدارة الذاتية نموذجًا مثاليًا للمرأة الملتزمة بقضايا شعبها ومجتمعها في مواجهة التطرف والإرهاب والدفاع عن نفسها وبنات جنسها ضد أي خطر من أي جهة. كما كشفت المرأة في الإدارة الذاتية عن إرادة قوية في الالتزام الفكري والتنظيم الإداري والتدريب العسكري واكتساب الخبرة الأمنية. مشيرة إلى أن النساء في مناطق الإدارة الذاتية عِشْن مرحلة صعبة تُوّجت بتحوّل المجتمع نحو المساواة الكاملة بين الجنسين.

الخيار القابل للحياة

أيضًا كان للكاتب والمفكر مجدي الدقاق، الرئيس الأسبق لتحرير مجلتي الهلال وأكتوبر، مداخلة لافتة أشار خلالها إلى اللامركزية باعتبارها الخيار الوحيد القابل للحياة والاستمرار بعد انتهاء عصر الدولة المركزية، ونزوع الشعوب نحو مزيد من الحرية والتخلص من القيود التي تعطل التنمية. كما لفت إلى أن تطبيق اللامركزية بشكل ناجح يحتاج مشروعًا ديمقراطًا حاملًا ينهض باللامركزية عبر إشراك المواطن والمناطق الهامشية بالسلطة والثروة والتصدي للفاشية الدينية. كما نوّه بأن الخلاف بين التنظيمات المتطرفة كالإخوان المسلمين والقاعدة وداعش هو فقد في "عدد الجلدات التي يلهبون بها ظهور مخالفيهم أو المختلفين عنهم". ووجود مثل هذه المنظمات في مجتمعاتنا مع صعود اليمين المتطرف سواء في الغرب أو في إسرائيل يُأزّم الأوضاع الأمنية ويهدد السلم الإقليمي والدولي.

مداخلات وتعليقات

من جهتهم، تفاعل الحاضرون سواء المصريون أو السودانيون أو اليمنيون أو العراقيون أو الفلسطينيون أو السوريون مع المنصة بالعديد من المداخلات والتساؤلات والاستيضاحات. حيث تمت الإشادة بالكتاب وموضوعه وكاتبته. بالإضافة إلى لفت النظر إلى العديد من القضايا التي تطلبت المزيد من الشرح والتعليق من الكاتبة. وبدورها قدمت إجابات شافية على كل التساؤلات.

كما ناقشت مداخلات الجمهور الظروف السياسية والأمنية الراهنة في سوريا والإقليم. ومدى قدرة وقابلية الإدارة الذاتية على التعامل بفاعلية وإيجابية مع مجمل التحديات والصعوبات الداخلية والخارجية. بالإضافة إلى بحث آفاق تعميم تجربة الإدارة الذاتية في كل ربوع سوريا. ونوع وحجم الصعوبات التي تعترض هذا المسار. ومدى قدرة وكفاءة المثقفين السوريين المؤمنين بخيار اللامركزية على خوض هذا المسار وحشد الرأي العام لصالح هذا المشروع الذي أثبت نجاحه ونجاعته في منطقة الجزيرة السورية شرقي الفرات بهمّة وعزيمة السوريين من كل المكوّنات. مستلهمين فلسفة وأفكار ونظريات المفكر عبدالله أوجلان في التعايش والتعاون بين كل المكوّنات العرقية والدينية سواء على مستوى دول الإقليم أو على مستوى العالم أجمع.

 

 

قد يهمك