تمثل تجربة المرأة الكردية في شمال وشرق سوريا واحدة من أكثر التجارب النسوية راديكالية وتأثيرًا في العالم العربي والشرق الأوسط خلال العقود الأخيرة، حيث لا تنحصر التجربة فقط في مشاركة المرأة في المجالات التقليدية كالتعليم والصحة، بل تتجاوز ذلك إلى العمل السياسي، والإدارة الذاتية، والمجال العسكري وأصبحت المرأة الكردية فاعلًا أساسيًا في مشروع اجتماعي يطمح إلى بناء مجتمع ديمقراطي تشاركي قائم على المساواة الجندرية.
لمن تكن التجربة الكردية النسائية وليدة لحظة عابرة أو ردة فعل مؤقتة على الصراع في سوريا، انها تجربة انبثقت من رؤية أيديولوجية متكاملة عُرفت بـ"الجنولوجيا"، وهي علم المرأة الذي أسسه عبد الله أوجلان، المفكر الكردي وزعيم حزب العمال الكردستاني حيث تعتبر الجنولوجيا أن تحرير المرأة هو شرط أساسي لتحرير المجتمع، وترى أن النظم الأبوية هي أصل الاستبداد السياسي والاقتصادي والديني. لذلك، فإن مشروع الإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا تبنّى منذ البداية مبدأ المساواة الكاملة بين الجنسين، ليس كشعار بل كمنهج عمل وبنية حُكم.
مع تأسيس الإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا بعد عام 2012، تم إقرار نظام الرئاسة المشتركة، الذي يفرض وجود امرأة في كل منصب إداري أو سياسي يشغله رجل، من البلديات إلى المجالس التشريعية. وفرضت قوانين الإدارة الذاتية تخصيص ما لا يقل عن 40% من التمثيل في جميع المؤسسات للنساء، اسهم في بناء طبقة سياسية نسوية قوية ومتمرّسة كما لعبت منظمات نسوية مثل مؤتمر ستار دورًا رياديًا في تمكين النساء من التعبير عن مطالبهن وتشكيل تنظيمات مستقلة تدير شؤونهن الذاتية، سواء على المستوى الاجتماعي أو القانوني أو الاقتصادي وتم إنشاء مجالس نسائية مستقلة تعالج قضايا العنف الأسري، والطلاق، وحضانة الأطفال، وتمنح النساء آليات دفاع قانوني ومجتمع.
فمشاركة المرأة الكردية في القتال ضمن صفوف وحدات حماية المرأة التي تأسست عام 2013، واحدة من أبرز التجارب النسائية في مناطق النزاع. وقد تشكلت هذه القوات كجناح مستقل عن وحدات حماية الشعب وضمت آلاف المقاتلات اللواتي لعبن دورًا محوريًا في معارك مصيرية، أبرزها تحرير كوباني والرقة من سيطرة تنظيم داعش.
لكن تجربة السلاح لم تكن بالنسبة للنساء الكرديات مجرّد خيار دفاعي أو ظرفي، بل تحولت إلى أداة للتمكين وكسر القيود فقد انتقلت المرأة من موقع الدفاع إلى موقع القيادة، وأسهمت في صياغة القرار السياسي والمجتمعي، وفرضت حضورها الفاعل في الفضاءين العام والعسكري.
لقد أكسبت هذه التجربة النساء الكرديات احترامًا واسعًا، محليًا وعالميًا، إذ قدمن تضحيات جسيمة، وكرّسن صورة جديدة للمرأة في زمن الحروب: ليست ضحية فقط، بل فاعلة وشريكة في صناعة المصير وبذلك كسرن الصور النمطية التي طالما حصرت أدوار النساء في الظل، وأثبتن أن النضال لا يُحتكر من طرف دون آخر، وأن الحرية تبدأ حين تنهض النساء في وجه الاستبداد، مهما كانت أدواته.
وفي ظل النزوح الكبير الذي شهدته المنطقة بسبب الحرب، لعبت النساء الكرديات دورًا كبيرًا في تنظيم الحياة في المخيمات، ففي مخيمات مثل "الهول" و"روج"، حيث يقيم نازحون ولاجئون من خلفيات متعددة، قادت النساء مبادرات تعليمية وصحية وتنظيمية تهدف إلى حماية النساء والأطفال من الجهل والتطرف عملت النساء على تأسيس مجالس محلية داخل المخيمات، وتنظيم حملات توعية، وإنشاء مدارس ومراكز تدريب مهني، بل وحتى محاكم محلية لحل النزاعات اليومية كل هذه المبادرات لم تكن مدعومة دائمًا من المنظمات الدولية، بل قامت على جهود محلية أثبتت فاعليتها في غياب الدولة والمنظمات الكبرى.
جزء كبير من مشروع تمكين المرأة الكردية تمثل في إطلاق مشاريع اقتصادية جماعية بقيادة نسوية، تُعرف باسم "التعاونيات النسوية" هذه التعاونيات تعمل في مجالات الزراعة، الخياطة، إنتاج الأغذية، وتقديم الخدمات المجتمعية، وتهدف إلى تحقيق الاستقلال الاقتصادي للنساء، وخلق بديل نسوي واقعي عن اقتصاد السوق الرأسمالي. التعاونيات لا توفر فقط فرص عمل للنساء، بل تُدار بأنظمة تشاركية تقرر فيها النساء جماعيًا كيفية التوزيع والإنتاج والربح، وهو ما يعزز فكرة الديمقراطية القاعدية.
رغم ما تحقق، تواجه هذه التجربة تحديات كبيرة، أبرزها التهديدات الأمنية المستمرة من قبل تركيا، التي ترى في الإدارة الذاتية الكردية خطرًا استراتيجيًا، وتشن هجمات متكررة على مناطق سيطرتها كما تعاني النساء من محاولات القوى التقليدية المحلية إعادة فرض أنماط الهيمنة الذكورية، بالإضافة إلى ضعف الدعم الدولي، والحصار الاقتصادي المفروض على المنطقة. ومع ذلك، تستمر المرأة الكردية في شمال وشرق سوريا في لعب دورها كمؤسسة، ومقاتلة، ومشرّعة، ومربية، لتؤكد أن مشروع الحكم الذاتي القائم على العدالة الجندرية ليس حلمًا طوباويًا، بل خيار سياسي ومجتمعي واقعي يمكن أن يُلهم حركات نسوية أخرى في المنطقة.
وأخيرا نصل ان تجربة المرأة الكردية لا تختصر في كونها امرأة حملت السلاح، أو جلست في منصب سياسي، بل في قدرتها على إعادة تعريف موقع المرأة من الهامش إلى المركزوالى صناعة القرار ، ومن الرمز إلى الفاعل، في ظل ظروف سياسية وعسكرية معقدة، لتُثبت أن النضال من أجل الحرية لا يكتمل دون حرية النساء أولًا.
أصداء المرأة
أصداء المرأة