اثنا عشر عاما مرت على ثورة يونيو، ومع ذلك لا يمر عام دون أن يتأكد من جديد وعى الأمة المصرية، وقدرتها على التصرف بوعى جمعى عبر عن نفسه بعد عام واحد من حكم التنظيم الإرهابى لجماعة الإخوان، رغم ما بدا لدى البعض من استعداد المصريين لحكم طويل الأمد للتنظيم، ورغم محاولات الجماعة أيضا تصدير صورة زائفة بأنها تمثل نموذجا للإسلام السياسى المعتدل الذى جاء ليقدم «حلولا إسلامية» للإشكالات والتحديات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
لقد راهن التنظيم على التدين الفطرى لدى المصريين، وأن هذا التدين سوف يساهم فى تمرير شعاراتهم التى تمت صياغتها بشكل بسيط ومقصود، والتى أخفت وراءها مشروعا لتغيير هوية الدولة والمجتمع.
لم يستطع التنظيم أن يفهم النمط المصرى فى التدين، الذى يقوم ــ بجانب سمات أخرى ــ على رفض فكرة الوصاية الدينية، وأن المهلة التى أعطاها المصريون للتنظيم لم تكن سوى اختبار غير معلن لحقيقة مقولاتهم وشعاراتهم، التى سقطت أمام الوعى الجمعى العام للمصريين كما عبر عن نفسه فى 30 يونيو 2013، لينهى المصريون بذلك «خرافة» الإسلام السياسى، وليُنْهُوا أيضا إحدى الظواهر الخطيرة التى عانت منها السياسة فى مصر وهى «تديين السياسة» و«تسييس الدين»، ولينتصروا كذلك لأحد ثوابت الدولة المصرية باعتبارها أقدم دولة وطنية فى التاريخ الإنسانى.
هذا الدرس الكبير الذى قدمه المصريون فى 30 يونيو لم يكن درسا لتنظيم الإخوان وجماعات التكفير الدينى، «التكفير الوطني» فحسب، لكنه كان خبرة مهمة وضعها المصريون أمام الإقليم، بل وأمام العالم.
لقد تأكد عمق هذا الدرس وتجذره فى ضوء المسارات الخطيرة التى أخذتها دول عدة أخرى فى الإقليم ولم تستطع الخروج منها حتى الآن. ولم يكتف المصريون بتأكيدهم لهذا الدرس ولهذه الانحيازات الوطنية التاريخية، فقد نجحوا، ومن خلفهم مؤسساتهم الوطنية، فى تدشين مسارهم الوطنى الخاص بعيدا عن المسار الذى أخذه الإقليم. ففى الوقت الذى غرق فيه الإقليم فى موجات متتالية، ومتزامنة، من الحروب الأهلية، والصراع بين الدولة وتنظيمات الإرهاب، والتدخلات العسكرية الخارجية، انصرف المصريون بعد إزاحة حكم تنظيم الإخوان إلى التعامل مع تحديات ما بعد الإزاحة، وعلى رأسها تثبيت مؤسسات الدولة والقضاء على موجة الإرهاب التى بدأها التنظيم ومعه تنظيمات السلفية الجهادية العنيفة، ثم تدشين المشروع التنموى الذى بدأ فى عام 2014. هذا المسار لم يكن سهلا، خاصة أنه جرى فى بيئة إقليمية ودولية شديدة الاضطراب والفوضى، بل وازدادت اضطرابا وتعقيدا.
نجاح ثورة يونيو لم يكن ليتحقق لولا توافر عدد من الشروط المهمة، أولها، وجود قيادة ذات طابع خاص، استطاعت أن تُجسِد الوعى العام لدى المصريين فى لحظة شديدة الخطورة؛ قيادة توافرت لديها الإرادة والقدرة على تحمل وإدارة المخاطر التى ارتبطت بهذه اللحظة التاريخية. قد تمتلك الثورات الشعبية أهدافا وشعارات جذابة بل وعادلة أيضا، لكن هذا لا يضمن نجاحها بالضرورة أو تحولها إلى مشروع وطني؛ وهذا هو ما قدمه آنذاك المشير، ثم الرئيس عبدالفتاح السيسى.
لقد نجح السيسى ليس فقط فى تجسيد الوعى الجمعى للمصريين فى يونيو 2013، لكنه نجح فى حماية هذا الوعى، ثم تدشين المشروع الوطنى المصرى بعد توليه السلطة فى عام 2014, وتحمل فى سبيل ذلك الكثير من التكاليف والأعباء، الإنسانية والسياسية، لكن هذا هو قدر ذلك النمط من القيادات السياسية التحديثية التى تسعى إلى تنفيذ مشروعات تنموية كبيرة فى بيئات داخلية وإقليمية ودولية معقدة، لا تتوافر فيها الشروط ــ السياسية والاقتصادية والأمنية ــ التى توافرت لدول سبقتنا فى تنفيذ مشروعاتها التنموية.
ثانى تلك الشروط يتعلق بوجود مؤسسات وطنية قوية، مثلت حائط صد للمشروع السياسى لتنظيم الإخوان فى أثناء وجودهم فى السلطة.
وجود هذه المؤسسات، خاصة الجيش والشرطة، لعب دورا رئيسا فى عدم تغلغل هذا المشروع إلى مفاصل الدولة. لقد تحملت هذه المؤسسات عبئا ضخما أثناء حكم التنظيم، لكن العبء الأكبر جاء عقب إزاحة هذا الحكم، من خلال التصدى، أولا، لموجة الإرهاب، ثم التصدى، ثانيا، لحماية الأمن القومى المصرى وحماية المشروع الوطنى فى مواجهة العديد من التهديدات.
إن تحمل هذه الأعباء لا يمكن فهمه إلا استنادا إلى الطبيعة الوطنية لهذه المؤسسات باعتبارها خصيصة رئيسة لها.
اثنا عشر عاما مرت، أثبت فيها المصريون استعدادهم للدفاع عن مشروعهم الوطنى وأمنهم القومى، التفوا خلالها حول دولتهم الوطنية وقيادتهم السياسية، تحملوا خلالها الكثير من الأعباء والتكاليف، قطعوا خلالها ــ بقوة ووعى ــ الطريق على أية محاولات للعودة إلى الفوضى أو انحرافهم بعيدا عن مسارهم الوطنى، ودفعهم إلى الالتحاق بحالة الفوضى والهشاشة السياسية والأمنية التى يعانى منها إقليم الشرق الأوسط.
لكن هذا لا يعنى انتهاء التحديات، فمازال الطريق طويلا وصعبا لتجسيد طموحاتنا فى بناء دولة مدنية وديمقراطية حديثة.
لقد دشنت ثورة يونيو مسارا استثنائيا فى الإقليم. هذا الاستثناء تأسس خلال تلك اللحظة على تفاعل مكونات أربعة استثنائية: شعب يستمد وعيه التاريخى من إحدى أقدم الحضارات الإنسانية، ودولة وطنية متجذرة فى التاريخ الإنسانى، وحتمية جيو ــ سياسية تشكل حركة الدولة المصرية ونخبتها، وقيادة سياسية تحديثية لا تتكرر كثيرا فى تاريخ المجتمعات والدول.
نقلا عن بوابة الأهرام