ثمّة هاجسان يشغلانني دائماً عندما يتعلّق الأمر بتقييم مسار كبار الكتّابوالمفكّرين من أبناء أمّتنا العربية، أوّلهما، مدى تطابق القول مع الفعل، مصداقاً للعبارة القرآنية التي تقول: "يا أيها الذين آمنوا لمَ تقولون ما لاتفعلون، كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون" (الصف/2)، والعبارة الثانية التي تقول: "أتأمرون النّاس بالبر وتنسون أنفسكم" (البقرة/44)، وثانيهما، وهو غير بعيد عن الهاجس الأوّل، أو هو شقيقه، ويتمثّل في مدى التزام صاحب النظرية بتنزيلها على أرض الواقع.
أي أن لايكون من ذاك الذي يقدّم "علماً لا ينفع"، فكثير من أصحاب الفكر والبحث معتصمون بأبراجهم العاجية متعالون عن النّاس، فلا يؤثرون تأثيراً مباشراًفي العامّة باعتبارهم من الخاصّة، ولا يختبرون أفكارهم في مجتمعاتهم على نحو يساعدهم على تقويمها وتصحيحها، خصوصاً إذا كان مبحثهم من العلوم الإنسانية التي تقتضي النقد والمراجعة من خلال التطبيقات العملية والتجارب الاجتماعية.
ومن منطلق هذين الهاجسين، كانت نظرتي التقييمية لمسيرة الدكتور عبدالحسين شعبان الطويلة، التي لا تضمّ ما يقارب المئة كتاب فحسب، فضلاًعن آلاف المقالات والدراسات التي نشرها طيلة عقود من العطاء الفكريالخصيب لهذه الأمّة، حتّى وصفته ذات مرّة في الاحتفالية (احتفالية العرفان) التي أقمناها له في تونس سنة 2016، بأنّه "رجل بمثابة مؤسسة"، بل تشمل كذلك سيرة عملية عامرة بالأنشطة والإنجازات، ساهم من خلالها في تأسيس عشرات المنظمات والمؤسسات في المجتمع المدني، بالإضافة إلى مئات المبادرات والبيانات والمواثيق والرسائل والدعوات التي ساهمت في تأليف المثقفين والنشطاء والعاملين حولها، من جميع التيارات والمشارب الفكرية والسياسية.
هذا إلى جانب لمساته الشخصية المحبّة والتفاتاته الودّية الراقية نحو أصدقائه من المعروفين والمهمّشين على السواء، فقد أرشد تواضع العلماء الأصيل في شخصيته "النجفية الحمراء" إلى الكتابة التكريمية عن شخصيات مغمورة ومشهورة على السواء، غير آبه بغير المعنى الإنساني العميق، وبـ"الوفاء" الذي هوأعظم ما يمكن أن تتحلّى به الشخصية البشرية، في زمن قلّ فيه الوفاء، تماماً كما أن "التواضع" أفضل ما يمكن أن يسم سلوك العلماء الأجلاء، كما هو حال عبد الحسين شعبان.
لقد عرفت الدكتور عبد الحسين كما أشرت في مجالات اهتمامنا المشتركة، وفي مقدّمتها قضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان والوحدة العربية والقضية الفلسطينية، وهو معلّم كبير فيها جميعاً، قولاً وفعلاً، وتنظيراً وتنزيلاً. ومن الأهمّية القول في هذا السياق، بأنني التقيت هذا المعلّم الكبير، وأنا قادم من الضفّة الفكرية المقابلة للضفّة التي أتى منها، لكنّنا التقينا في "دار الوسط" كما يقول المثل الشعبي عندنا في تونس.
لقد جاء الدكتور عبد الحسين إلى هذه الدار من ضفّة "الماركسية" التي قام بـ"تحطيم مراياها" كما لم يفعل مفكّر عربي يساري مثله من قبل، من حيث القيمة النقدية وعمق المراجعات الفكرية، فيما جئت أنا من الضفّة الإسلامية المحافظة، بعد أن نزعت عنّي رداء الجماعة الضيّق ولبست عباءة الناقد المعتصم بالحرّية.
هكذا سرت مع الدكتور شعبان طيلة ثلاثين عاماً معاً دون أن أشعر يوماً بأنّه "شيوعي سابق" أو يشعرني هو بأنني "إسلاميّ سابق"، فكلانا مؤمن على نحو لا يتزعزع أن الرابطة الإنسانية أقوى من أي رابطة ثانوية أخرى، وعلى هذا النحو قمت معه بـ"تعظيم مشتركاتنا"، وهي أكثر بكثير من "مختلفاتنا"، وهي أولى بالعناية والرعاية والتعهّد لويعلم أبناء جلدتنا.
لقد وجدت الدكتور عبد الحسين شعبان منذ عرفته في مدن اللجوء الأوروبية أوائل تسعينيات القرن الماضي، يفعل فعلاً ما يقول، فهو داعية ديمقراطية وحقوق إنسان حقيقي، يمارس دعوته في سلوكياته تماماً كما نظّر لها في كتبه ومقالاته. يدافع عن حقوق الشيوعيين والإسلاميين والليبراليين والقوميين والبشر أجمعين، لا ترى في دفاعه ما يجعلك تشكّ في إخلاصه، كما يفعل كثيرون، ممن نراهم يكيلون الكيل بمكيالين، ويزنون الأمور بحسب القرب الأيديولوجي والسياسي.
أما تطبيقيّاً، فسيلاحظ كل منصف أن للرجل أصدقاء من نشطاء وقيادات في جميع هذه التيارات، وهوأمر نادر ربّما، فالدكتور يملك صداقات عميقة وثابتة مع مكوّنات الطيف الفكري العربي، ويستحقّ الإشادة والاقتداء، في تحدٍّ كبير لهذا الواقع العربي الخاضع كلّياً للانقسام والتشرذم والتناحر والصراع، فكيف وفّق الرجل بين تناقضات المشهد العربي في لوحته السوريالية التي هو بصدد رسمها منذ ما يزيد على نصف قرن، ذلك سرّ من أسرار طويّته المحبّة للخلق الباحثة عن بناء الجسور معهم بصدق، ولولا صدقه ما صدقوه أوصادقوه.
إن هذه الشخصية العراقية العربية ذات الأفق الإنساني الرحب، هي المفسّر أيضاً لهذا التعايش السلمي في ذاته، بين الرجل الذي ولد في الحضرة "النجفية"، حيث يزور الناس من كل حدب وصوب أضرحة الأئمة من آل بيت النبي العربي، ثم عاش في الغرب بقسميه الاشتراكي والليبرالي، بكل ما تعنيه هذه العيشة من تشبّع واضح بقيم العقلانية والحرّية والعدالةالاجتماعية، ثم رجع إلى الشرق من حيث أتى، أين نراه "شرقياً" بكل ماتعنيه "روحانية" الشرق من معنى، وذلك في اهتمامه صادقاً بمباحث "التصوّف" و"العرفان" و"التسامح بين الطوائف والأديان"، التسامح الذي يمارسه عمليّاً أيضاً، في سيرته اليومية، من خلال تواصله المحبّ مع أهل الكنائس والرهبان، وحرصه على نصارى أمته الذين وصفهم بـ"ملح الأرض"، بل كذلك على صابئتها المندائية ويزيديّيها وسريانييها وعلوييها وسائر مكوّنات فسيفسائها البديعة.
إذ يحرص الدكتور شعبان أشدّ الحرص على التعريف بأصدقائه لدى أصدقائه وعموم النّاس، مديراً أجندته المتنوّعة في تشبّث استثنائي بالوحدة، وكأنّه يقول لتلاميذه، وأنا من بينهم، و"ماذا تعني الوحدة دون تنوّع؟" أيّها السالكون طريق الحبّ والمعرفة.
أما قوميّاً، فقد كان الدكتور عبد الحسين كما عرفته، من أحرص مفكّري الأمّة العربية على وحدتها، فقد كان وما يزال عضواً فاعلاً في كثير من المؤسسات الوحدوية العربية، حرصه على المساهمة في تأسيس الجديد منها، إيماناً منه بأن "التجديد" هو الذي ينهض بالأمم، وما من أمّة جدّدت نفسها إلّا وضمنت لها موقعاً في "لعبة الأمم"، لكن هذا الحرص لا يتناقض برأي المفكر المجدد مع السعي الدؤوب إلى "التكامل الإقليمي"، فالعرب برأي الدكتور شعبان لا بديل لديهم عن تمتين علاقتهم مع شركائهمالأصليين -لا الدخلاء- من أبناء المنطقة الشرقية.
وفي هذا السياق تتنزل دعوته النظرية والتطبيقية دائماً إلى "الحوار بين الأمم الأربع"، وعلى هذا النحو اشتركنا معاً طيلة العقد الماضي في عقد جولات حوار بين مثقفي هذه الأمم، العربية والكردية والإيرانية والتركية، في تونس وأربيل وعمّان وبغداد وبيروت، وفي كل مدينة لا تمانع في إقامة حوار بهذا المضمون، وإن اختلفت عناوينه أحياناً، سواء كان حواراً ثنائيّاً أو حواراً جامعاً.
وتجدر الإشارة مجدّداً إلى أن صداقات الدكتور عبد الحسين وعلاقاتها المتميزة مع مثقفي الأمم الأربع، كانت خير عون لنا في تنظيم هذه الحوارات واللقاءات، وخير مساعد على تجاوز العقبات والهنات والإشكالات التي عجزت عن تجسيرها دول وأنظمة وحكومات، فتعظيم المشتركات عند الدكتور عبد الحسين ليس مجرّد نظرية أو شعارات، بل هو تطبيقات عملية تجسّدت في عشرات الندوات الجامعة والمؤتمرات الحوارية الناجحة في عواصم ومدن الإقليم المشرقي الواسع.
إن الكتابة عن صديق حميم ورفيق مخلص، ليست بالمهمّة السهلة، فأنت مطالب من جهة بأن تفي الرجل حقّه، ورجل كالدكتور شعبان يصعب أن تفيه حقّه في أسطر وجيزة مهما طالت، كما أنّك مطالب بالتزام الموضوعية والعقلانية في تناول السيرة الشخصية، لأننا كبشر لسنا معصومين عن الأخطاء، بل إن الأخطاء هي من صنعتنا، ولهذا فقد اتبعت في كتابة هذه الشهادة سبيل الصدق، وأردتها شهادة تجمع بين اطلاعي على ما كتبه هذا المفكّر المثابر طيلة عقود، وما عشته معه كصديق ورفيق يزعم أنه يعرفه معرفة تجمع بين السيرتين الفكرية والسلوكية، وهما في واقع الأمر سيرة واحدة متطابقة، وهو ما يشكّل "فرادة" الشخصية "الشعبانية" أو"المدرسة الشعبانية" إن صحّت العبارة، مدرسة "تعظيم المشتركات" والربط بين الفكر المتجدد والممارسة المخلصة في إقامة الوصل بين الحرية والعدالة، وبين العقلانية والعرفان.
منبر الرأي
منبر الرأي
منبر الرأي