شكل الدولة السوريّة الحديثة
مع نهاية الحرب العالمية الأولى، تشكلت ملامح الدولة السورية الحديثة في سياق تحولاتٍ دولية كبرى، إذ كانت المنطقة خاضعة لتجاذبات القوى الاستعمارية المنتصرة (فرنسا وبريطانيا) التي أعادت رسم خرائط الشرق الأوسط وفق مصالحها، كما تجسد في اتفاقية سايكس – بيكو وقرارات مؤتمر سان ريمو ومؤتمر القاهرة، تلك التقسيمات التي أوجدت سوريا بشكلها الجغرافي الراهن تقريباً، والتي لم تراعِ جغرافية مجتمعات المنطقة.
وفي هذا المناخ، أُعلن الأمير فيصل بن الحسين ملكًا على سوريا عام 1920، في تجربة قصيرة جسّدت ـ ولو شكليًا ـ حلم السوريين والدولة الجديدة بالاستقلال والسيادة، ورغم إن هذه الدولة لم تعمّر طويلًا، إلا أنها خلّدت اسم يوسف العظمة الكردي، وزير الحربية آنذاك، الذي قاد معركة ميسلون ضد القوات الفرنسية واستشهد فيها مدافعًا عن استقلال البلاد، لقد أسست هذه اللحظة التاريخية للذاكرة الوطنية السورية التي ربطت منذ ذلك الحين بين الحرية والسيادة والتضحية وتكامل الشعوب السوريّة.
من الانتداب إلى الثورة السوريّة الكبرى
بعد سقوط مملكة فيصل ودخول الفرنسيين دمشق، دخلت سوريا في مرحلة الانتداب الفرنسي (1920 – 1946). غير أنّ إرادة المقاومة لم تتوقف؛ فقد اندلعت حركات متعددة في أرجاء البلاد جسّدت إصرار السوريين على الحرية، ثم جاءت الثورة السورية الكبرى بقيادة سلطان باشا الأطرش عام 1925، لتوحّد مختلف الشعوب السورية تحت راية الاستقلال، ورغم القمع العنيف الذي واجهته الثورة، من جبل الزاوية في الشمال إلى جبل العرب في الجنوب، فإنها عمّقت الحس الوطني ورسّخت فكرة أن الاستقلال لا يُنتزع إلا عبر وحدة السوريين وتكامل تضحياتهم وجهودهم المشتركة.
من الاستقلال إلى الانقلابات
انتهى الانتداب الفرنسي عام 1946 بجلاء القوات الأجنبية وإعلان الاستقلال، لتبدأ سوريا مرحلة الدولة الوطنية الوليدة. غير أنّ هذه الدولة سرعان ما وجدت نفسها في دوامة من الاضطرابات والانقلابات العسكرية المتكررة (1949 – 1970)، ما كشف هشاشة مؤسساتها وضعف النظام المدني أمام تغوّل العسكر والأجهزة الأمنية والعقليات السلطوية الاحتكارية.
وقد رافق ذلك انتشار ثقافة أحادية ضيقة وإقصائية على حساب ثقافة التكامل والوحدة الطوعية، في وقتٍ كانت فيه المنطقة برمتها مسرحًا للتجاذبات الدولية خلال الحرب الباردة، وميدانًا لتصدير نماذج سلطوية تستهدف إضعاف التعاون بين شعوبها وشعوبها. وبدل أن يتحول الاستقلال إلى فرصة لبناء نظام ديمقراطي تعددي، جرى تكريس الانقسام والصراع الداخلي، الأمر الذي مهّد لهيمنة أنظمة عسكرية وحزبية لاحقة.
دولة الأسد: من البعث إلى الاستبداد
مع وصول حافظ الأسد إلى السلطة عام 1970، وقبله حزب البعث عبر انقلابه العسكري عام 1963، دخلت سوريا مرحلة الدولة الأمنية المركزية القمعية، فقد جرى دمج الجيش والحزب والأجهزة الأمنية في منظومة واحدة تخدم السلطة العائلية، فيما رُفعت شعارات القومية العربية والاشتراكية كذبًا ونفاقًا لتغطية واقع من الاستبداد المطلق، غابت فيه المواطنة وحُكم الشعب بالقبضة الحديدية، وأقصيت الشعوب الأصيلة السورية من المشاركة في تقرير مصير البلاد.
وفي هذا السياق، جاءت انتفاضة قامشلو عام 2004 كحدثٍ بارز كشف زيف خطاب النظام، إذ عبّرت عن رفض التمييز القومي والسياسي الذي مورس ضد الكرد وسائر الشعوب، وكانت بمثابة جرس إنذار مبكر لما سيحدث لاحقًا، فقد أظهرت إن المجتمع السوري بكل تنوعه لم يعد يحتمل استمرار القمع والإقصاء، وإن الصدع بين النظام والشعب آخذ في الاتساع. ومع انتقال الحكم إلى بشار الأسد عام 2000، لم تشهد سوريا أي إصلاح، بل تراكمت الأزمات حتى انفجرت الثورة عام 2011، التي أنهت شرعية النظام وأسقطته كسلطةٍ وطنية، رغم بقاء شكله المتهالك بفعل الدعم الخارجي المعروف.
ما بعد الأسد: مناطق النفوذ
بانهيار الدولة الأسدية المركزية، وقدوم هيئة تحرير الشام إلى دمشق وفق إرادة دولية وإقليمية، ازدادت الأوضاع تعقيدًا، فلم تنجح سوريا بعد الثامن من كانون الأول في إنتاج نظام وطني ديمقراطي لكل السوريين، بل تأسس حكم مكرَّر من البعث القوموي بنسخة إسلاموية جديدة.
وقد كانت خريطة مناطق النفوذ قائمة قبل الثامن من كانون الأول، وما زالت مستمرة إلى اليوم، مع توسّع ملحوظ في نفوذ الشرع وهيئته مقارنةً بما سبق.
خريطة مناطق النفوذ
الشرع وهيئته في إدلب، والتي توسّعت بعد الثامن من كانون الأول لتشمل مناطق إضافية في حلب وحماة وحمص ودمشق والساحل وبعض مناطق الجنوب، حيث فرض نفسه كحاكم في مؤتمر مجموعاته العسكرية ومجموعات أنقرة (التي كانت تُعرف باسم الجيش الوطني السوري) تحت مسمّى “الدولة السوريّة”.
الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا، التي طرحت نموذجًا للامركزية والديمقراطية المباشرة في إطار منظومة الإدارة الذاتية وقوات سوريا الديمقراطية (قسد)، وكان لها الدور الأساسي في محاربة داعش ومقاومة الاحتلال التركي.
مناطق النفوذ والاحتلال التركي، التي خضعت لمجموعات مسلحة وإشراف الاستخبارات التركية، وعملت على التغيير الديمغرافي لصالح الأجندات التركية ضد الشعوب السورية، ورغم إعلان المجموعات المدعومة من تركيا (أو ما يُسمى الجيش الوطني السوري) حلّ نفسها والانضمام إلى الجيش الجديد الذي شكّله الشرع، فإن الكتلة الأكبر ما تزال باقية في مناطقها السابقة وتحت السيطرة والقرار التركي.
جنوب سوريا، الذي عاش وما زال يعيش على وقع سلطات محلية درزية وعشائرية متغيّرة.
منطقة التنف قرب الحدود الأردنية، حيث يوجد جيش سوريا الحرة إلى جانب قوات التحالف الدولي.
مناطق البادية السوريّة، حيث توطّد وجود داعش وزادت قوته، نتيجة لغياب أي مواجهة حقيقية له من قبل هيئة تحرير الشام، الأمر الذي سمح له بإعادة تنظيم خلاياه وتعزيز نشاطه في المنطقة
من الأسد إلى الشرع: إعادة إنتاج الاستبداد والمجازر
رغم اختلاف الشعارات، يتشابه الأسد والشرع في جوهر السلطة:
ـ الأسد حكم باسم “الأمة والقومية العربية”، والجولاني (الشرع) باسم “الشريعة والمذهبية السياسية السنيّة”.
ـ كلاهما اعتمد على العسكرة والقمع بدلًا من الحوار والشرعية الشعبية.
ـ كلاهما أقصى المخالفين وحوّلهم إلى أعداء.
ـ كلاهما غيّب مفهوم المواطنة لحساب الولاء للشخص أو الفصيل أو الحزب أو الجماعة أو الطائفة أو القومية.
ـ كلاهما ارتكب مجازر بحق الشعب والمكوّنات السورية، من الشمال إلى الجنوب، ومن الشرق إلى الغرب.
ـ كلاهما سلّم إرادته لقوى إقليمية: فمن حضن إيران إلى حضن تركيا، ومن تعلّم الفارسية إلى تعلّم التركية، ومن الاتفاقات العسكرية مع إيران إلى الاتفاقات العسكرية مع تركيا.
ـ كلاهما عاجز عن الحفاظ على سيادة سوريا، ويخشى مواجهة الاحتلالات القائمة على الأرض السوريّة.
ـ كلاهما يصرّ على المركزية الشديدة، ورفض تقاسم السلطة والثروة، أو البحث عن أشكال مناسبة لإدارة التنوع والتعدد.
ـ كلاهما قدّم عائلته لتتصدّر المشهد العام والمفاصل الأساسية في الدولة والاقتصاد.
التحدي: بين الذاكرة والمستقبل إلى جمهورية سوريا الديمقراطية
منذ فيصل ويوسف العظمة إلى يومنا هذا، ظلّ الحلم السوري هو بناء دولة وطنية حرّة وعادلة تضمن حقوق كل الشعوب. سقط الأسد كنظام، وبرز الشرع كسلطة أمر واقع، لكن المأزق التاريخي والأزمة الحقيقية لم يُكسر بعد: الانتقال من الاستبداد إلى الحرية، ومن المجازر إلى الأمن والاستقرار والكرامة والبناء، ومن الأحادية القومية والدينية إلى التعايش وضمان حقوق وخصوصية الجميع.
التحدي أمام السوريين اليوم هو تجاوز تداعيات الحرب، والأحادية القومية والدينية، والتخلّص من الأوصياء والتدخّلات الخارجية، وبناء تجربة حقيقية تربط بين الحرية والسيادة، من أجل تأسيس جمهورية سورية ديمقراطية تُنهي الحلقة المفرغة من الاستبداد والإقصاء والاحتلالات والتدخّل الخارجي.
إنّ هذه الجمهورية المنشودة هي ما استُشهد لأجله يوسف العظمة، وقامت لأجله انتفاضة قامشلو والثورة السورية، وما حلم به السوريون منذ مملكة فيصل حتى يومنا هذا: إن تكون سوريا موحّدة وذات سيادة كاملة، عبر حوار وطني شامل، وبناء نظام لامركزي مناسب لإدارة التنوع الإثني والديني، ودستور ديمقراطي يحفظ وحدة وسيادة سوريا، ويصون حقوق جميع الشعوب السورية، ويستبعد العناصر الأجنبية من الدولة والمؤسسات الوطنية، ونعتقد أنّ ذلك ممكن عبر حضور متوازن لمنظومة الإدارة الذاتية وقوات سوريا الديمقراطية، بعقليتها التشاركية، وبممارساتها الديمقراطية وبريادة المرأة السورية في دمشق، وبالتشارك مع كل الشعوب، وإنجاز اتفاق 10 آذار لتحقيق أهداف الثورة والشعب السوري في الحرية والديمقراطية، رغم وجود الكثير من التحديات الداخلية والخارجية، وإلا سنكون أمام نسخة بعثية ملتحية.
... نقلاً عن صحيفة روناهي
منبر الرأي
أصداء المرأة
منبر الرأي
منبر الرأي
منبر الرأي