بث تجريبي

أريج عرفة تكتب: أنا إنسان

طفولتي كانت تدور دوماً حول سؤال واحد: ما هي الأديان ولماذا توجد ومتى ظهرت؟ لماذا نحن كبشر منقسمون؟

أنا مسلمة في مدرسة راهبات،

أذهب للمدرسة، أجالس صديقاتي أكثر من مجالستي لعائلتي بالمنزل. نلعب، نلهو، نأكل، نتعلم، نتخاصم، نتصالح، نتشارك كل شيء، تماماً كما في المنزل.

أتذكر أنني جلست داخل كنيسة المدرسة ربما أكثر من المسجد نفسه. وقتها كنت أشارك في عروض المسرح والكنيسة معاً. كنت أقف في كورال الكنيسة وكنت ألعب الموسيقى. لم أشعر يوماً باختلاف شيء بيني وبين زميلاتي، كنا أطفالاً شِبه عائلة صغيرة، ولم أشعر يوماً تجاه المكان أو حتى المعلمات بشيء مختلف أو حتى بتفرقة بيننا.

عدا وقت حصة الدين، كانت تأتي الراهبة المعلمة لتأخذ المسلمين من داخل الفصل للذهاب إلى حصة الدين الإسلامي.

من هنا بدأ التساؤل وبدأت معه رحلتي….

 

حين نعود إلى البدايات، قبل الكتب والطقوس والجماعات، نجد أن الإنسان لم يكن يعرف شيئاً اسمه “دين”.

كان يعرف الدهشة.

يرفع رأسه إلى السماء، فيرتجف أمام اتساعها.

يستمع إلى الرعد، فيرتعد قلبه من القوة التي لا يراها.

ينظر إلى النار، فيراها نوراً يدفئ ويُهلك في الوقت نفسه.

 

هذه الدهشة الأولى كانت ديناً في ذاتها، لأن الدين لم يكن يوماً جداراً من القوانين، بل كان ارتباطاً حياً بالسرّ من النبع الواحد.

كل الرسالات، منذ أقدم الأساطير في وادي الرافدين، مروراً بمصر القديمة، وصولاً إلى إبراهيم وموسى وعيسى ومحمد عليهم السلام، كانت تعبيرات مختلفة عن نبع واحد.

 

ابن عربي يقول:

قلب العارف بيت لكل دين.

 

جلال الدين الرومي يقول:

النور هو النور، سواء دخل من نافذة مسجد أو كنيسة أو معبد.

 

البوذي يتأمل في صمت، فيسمع نفس الصدى الذي سمعه الصوفي وهو يكرر أسماء الله الحسنى.

اليهودي في صلاته نحو أورشليم، والمسيحي أمام الصليب، والمسلم نحو الكعبة، كلهم يرفعون عيونهم إلى السماء نفسها.

 

إذن، الأصل واحد لكن الصور تعددت.

في لحظة ما، تحولت التجربة إلى هوية.

لم يعد الدين مجرد اتصال حي بين القلب والسماء، بل صار راية.

من يدخل الراية يُعتبر مؤمناً،

ومن يخرج عنها يُعتبر آخر.

دخلت السياسة إلى الدين، فصار الدين أداة حكم، وصار النبي قدوة تتحول مع الزمن إلى مؤسسة وسلطة.

الاختلاف البسيط في اللغة أو الطقس تحول إلى معارك كبرى، مع أن الجوهر لم يتغير.

وهكذا نُسي الأصل، وصارت الأنهار تتنازع: نهري أصفى من نهرك، مع أن الجميع يشربون من العمق ذاته.

فاليوم، العلم يقدم لنا دليلاً جديداً على أن التجربة الروحية واحدة.

علم الأعصاب يقول إن التأمل، والصلاة، والترانيم، كلها تنشّط مناطق الدماغ نفسها المسؤولة عن السلام الداخلي والاتصال بالكل.

علم النفس يكشف أن الإنسان يحتاج إلى معنى أكبر من ذاته، وهذا المعنى هو الذي يحفظ التوازن النفسي.

الأنثروبولوجيا تؤكد أن كل الشعوب البدائية كان لديها شكل من أشكال الطقوس والصلوات.

إذن، التجربة الدينية أعمق من الانتماء؛ هي جزء من البنية العصبية والروحية للإنسان نفسه.

 

إذا كان الأصل واحداً، والهوية انقساماً، فما الطريق للعودة؟

الجواب ليس في تأسيس دين جديد، ولا في إلغاء الهويات القائمة،

الجواب في كشف الجوهر وراء الصور.

أن ندرك أن الإسلام والمسيحية واليهودية والبوذية ليست مذاهب متصارعة، بل أبواباً مختلفة على قاعة واحدة.

أن نفهم أن التصوف الإسلامي، والكابالا اليهودية، واليوغا الهندية، والرهبنة المسيحية ليست تنافساً، بل طرق صعود مختلفة على نفس السلم الكوني.

وهنا ندرك أن الدين لم ينقسم قط، ما انقسم هو وعينا، وأن العودة إلى الأصل ليست رحلة خارجية، بل رحلة في الداخل.

الدين في جوهره واحد، والاختلافات كلها تجليات لا تغير من وحدة الأصل.

الحب ديني وإيماني، كما يقول الشيخ الأكبر ابن عربي…

 

قد يهمك