نقترب من مرور عام على التغيير فى النظام السورى، مع تسلّم الحكومة المؤقتة زمام الإدارة برئاسة أحمد الشرع. وكان من المفترض أن تكون هذه السنة بداية حقيقية لإعادة بناء الدولة بعد 14 عامًا من الحرب التى تركت آثارًا مدمرة على جميع مناحى الحياة فى البلاد. إلا أن الواقع كشف سريعًا عن إشكاليات عديدة فى تشكيل الحكومة نفسها، ونهجها، وعقليتها، وسياساتها، الأمر الذى جعل مسار المرحلة الانتقالية متعثرًا منذ بدايته.
تم اختيار أحمد الشرع كرئيس للحكومة وفق إرادات دولية وإقليمية، وليس عبر آليات توافقية سورية وطنية، بعيدًا عن أى عملية مشاركة حقيقية بين القوى والمكونات السورية. وجاء هذا الأسلوب فى التشكيل عبر اجتماع بعض الفصائل العسكرية التى يكتنف تشكيلها وعملها علامات استفهام كبيرة، ما جعل الحكومة الانتقالية منذ البداية فى موقف ضعيف ومثير للجدل، وغير قادرة على تحقيق مصداقية وطنية حقيقية. فغياب الثقة بين المكونات السورية المختلفة، والتدخلات الخارجية، والاستقطابات الإقليمية، كلها عوامل ساهمت فى إضعاف المرحلة الانتقالية والحكومة المؤقتة، فى اللحظة التى كان على السوريين أن يركزوا فيها على إعادة بناء مؤسسات الدولة السيادية، وإعادة الإعمار، والبنية التحتية، والخدمات الأساسية، وتحقيق المصالحة الشاملة والعدالة الانتقالية.
على صعيد الواقع اليومى للمواطنين، لم تنجح الحكومة فى معالجة الأزمة الاقتصادية والإنسانية المستمرة منذ سنوات الحرب الطويلة. أسعار المواد الأساسية تتصاعد بشكل يومى، والفقر والجوع أصبحا واقعًا يوميًا يعيشه ملايين السوريين، بينما الخدمات الأساسية مثل الكهرباء والمياه والصحة والتعليم لا تزال شبه معدومة فى مناطق واسعة، مما يزيد من معاناة الناس ويعمق شعورهم بالإحباط تجاه الحكومة الجديدة.
السياسات الرسمية ركزت غالبًا على مظاهر الانطلاق السياسى والاجتماعات الإعلامية، دون أى تأثير حقيقى على حياة المواطنين اليومية، ما جعل السنة الانتقالية الأولى بالنسبة للكثيرين مجرد عرض سياسى بلا فائدة ملموسة. إضافة إلى ذلك، تتفاقم معاناة اللاجئين والنازحين داخليًا، حيث يعانى الكثير منهم من نقص الغذاء والخدمات الصحية، ويعيشون فى مخيمات مكتظة وغير مجهزة لتلبية احتياجاتهم الأساسية.
على المستوى السياسى، ظل الإعلان الدستورى أحاديًا، فيما جاء الحوار الوطنى شكليًا، أُجرى فى مدة قصيرة جدًا، ومُنح فيه الحضور للأشخاص الموالين للسلطة، ما أعطى مؤشرات واضحة على أنه معد سلفًا، بعيدًا عن أى مشاركة حقيقية أو توافق وطني. كما أن الانتخابات التى جرت لمجلس الشعب كانت محدودة وغير شاملة، مستبعدة محافظات ومناطق واسعة، ما عزز شعور الغياب والتمييز بين مختلف مناطق ومكونات البلاد.
تبرز هنا أيضًا مسألة تماهى الحكومة مع الموقف التركى، خاصة فيما يتعلق بالشمال وشرق سوريا، الأمر الذى أضعف الثقة بين المكون الكردي والحكومة الانتقالية، وعرّض القرار الوطنى لضغوط خارجية كبيرة. فالوصاية التركية تمثل ضغطًا دائمًا على الحكومة، وتسعى لإعادة تشكيل سوريا وفق أولوياتها الخاصة، بعيدًا عن المصلحة الوطنية العليا، ما يضع الحكومة فى موقف ضعف ويقوض قدرتها على اتخاذ قرارات مستقلة.
إضافة إلى ذلك، لا تزال هناك تقارير عن وجود مقاتلين أجانب ضمن مؤسسات الدولة السياسية، وهو واقع يثير قلق الدول العربية والمجتمع الدولى، ويزيد من هشاشة القرار الوطنى ويقلل من مصداقية الحكومة أمام مواطنيها. هذه التداخلات الخارجية والضغوط الإقليمية تجعل من الصعب على الحكومة الانتقالية اتخاذ سياسات تعكس مصالح السوريين بشكل صادق، وتزيد من تعقيد أى جهود لإعادة بناء الثقة الوطنية.
على صعيد الأمن ومكافحة الإرهاب، لم تساهم الحكومة الانتقالية بشكل فعلى فى مواجهة تنظيم داعش كما فعلت وتفعل قوات سوريا الديمقراطية فى شمال وشرق البلاد، والتى لعبت دورًا حاسمًا فى تحرير المناطق واستعادة الأمن والاستقرار فيها. فقد بقيت جهود الحكومة فى هذا المجال محدودة وغير مجدية، وذلك بسبب بنيتها الإشكالية منذ التشكيل، ووجود عناصر وتنظيمات داخل مؤسساتها قريبة من داعش أو امتلاكها علاقات غير واضحة مع التنظيمات المتطرفة.
عرقلة اتفاق 10 مارس
كان اتفاق 10 مارس بين أحمد الشرع ومظلوم عبدى من أهم الاتفاقات التى كان من شأنها تعزيز الاستقرار والمصالحة الوطنية وبناء سوريا الجديدة، عبر تعزيز الشراكة واحترام الإرادة الوطنية السورية. هذا الاتفاق شكل فرصة تاريخية لتقليل التوترات بين المكونات السورية المختلفة، وتحقيق شكل من أشكال التوافق الوطنى الذى ينقذ البلاد من المزيد من الانقسامات.
إلا أن الحكومة الانتقالية عرقلته بعقلية أحادية، مستجيبة لتوجيهات تركيا المعروفة بعدائها للكرد ولمشروع الإدارة الذاتية الديمقراطية، ما أدى إلى تقويض فرص التوافق الوطنى وزيادة حالة عدم الثقة بين المكونات السورية. بهذا الشكل، لم يُستفد من الاتفاق كأداة لبناء الثقة والتفاهم بين المكونات المختلفة، بل أصبح مجرّد ورقة سياسية لم تُترجم إلى سياسات عملية على الأرض، رغم حرص قوات سوريا الديمقراطية على تنفيذها.
شهدت بعض المناطق فى سوريا، مثل الساحل والسويداء، أحداثًا دامية كشفت عن فشل الحكومة فى التعامل مع الأزمات الأمنية والاجتماعية. لجان التحقيق التى تم تشكيلها لمعالجة هذه الأزمات بقيت شكلية ولم تُحاسب أى جهة مسئولة عن سقوط الضحايا، مما يعكس غياب الإرادة الحقيقية للتصدى للفساد وتعزيز العدالة.
فى الوقت نفسه، تصاعد خطاب الكراهية والفتنة بين مكونات الشعب السورى من جهات قريبة من الحكومة، وهو خطاب يهدد بزعزعة السلم الاجتماعى، ويحول دون تحقيق أى مصالحة وطنية حقيقية بعد سنوات طويلة من الحرب.
تواجه الحكومة الانتقالية أيضًا أزمة حقيقية فى إدارة مؤسسات الدولة. ضعف التخطيط الاستراتيجى، والافتقار إلى الخبرة الإدارية، وعدم محاسبة المسئولين على إخفاقاتهم، طرد موظفين لأنهم من مكون ولون معين، كلها عوامل تزيد من هشاشة الدولة وتؤخر جهود إعادة الإعمار وإعادة الخدمات الأساسية. المؤسسات الحكومية تبدو غير قادرة على التعامل مع التحديات المعقدة، مما يخلق شعورًا واسعًا بعدم الكفاءة وفقدان الثقة بين المواطنين.
كما أن وجود عناصر مسلحة أجنبية، وكذلك ما يسمى «الشيخ» داخل مؤسسات الدولة السياسية والأمنية والإدارية يهدد سيادة الدولة ويقوض أى جهود لإنشاء مؤسسات قوية ومستقلة. هذا الواقع يعكس التحدى الكبير أمام الحكومة الانتقالية، والذى يتطلب مراجعة شاملة لمؤسسات الدولة، وتطبيق آليات رقابة ومساءلة شفافة لتعزيز الأداء وتحقيق مصداقية وطنية.
الوضع الحالى يفرض على الحكومة ضرورة فتح حوار وطنى شامل بين جميع المكونات السورية، بما فى ذلك المكونات الإثنية والدينية وغيرهم. هذا الحوار يجب أن يكون قائمًا على أساس العدالة والمساواة، وأن يتناول القضايا الجوهرية مثل شكل وهوية الدولة الجديدة والحقوق المدنية والسياسية، وتوزيع السلطة، وإعادة الإعمار، وضمان الأمن والاستقرار لكل المواطنين.
بدون هذا الحوار الشامل، سيظل مسار المرحلة الانتقالية متعثرًا، ولن تكون هناك إمكانية لإعادة بناء الدولة على أسس سليمة ومستدامة. فالسياق السياسى الحالى يظهر أن الحلول الجزئية أو التوافقات المحدودة لن تكون كافية لتحقيق المصالحة الوطنية المطلوبة.
---
نقلا عن مجلة المصور المصرية