بث تجريبي

أ.د محمد رفعت الإمام يتحدث عن: أهمية التجارب التاريخية لبناء مجتمع ديمقراطي

ألقى الأستاذ الدكتور محمد رفعت الإمام، أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر، كلمة خلال مؤتمر "السلام والمجتمع الديموقراطي الدولي" في إسطنبول، الذي اختتم أعماله مساء أمس الأحد 7 ديسمبر في مدينة إسطنبول، وتضمّنت كلمات الحضور رسائل عديدة ذات أهمية كبيرة.
وينشر موقع المبادرة نص كلمته:

في البداية أتقدم بالشكر إلى حزب المساواة وديمقراطية الشعوب "DEM" على دعوتي للاشتراك في هذا المؤتمر الدولي عن السلام والمجتمع الديمقراطي، وتحية خاصة إلى المناضل والمفكر عبدالله أوجلان. خلال عامين دراسيين، خصصت مقررًا دراسيًا عن القضية الكردية بقسم التاريخ بجامعة دمنهور، وفي الفصل الدراسي السابق خصصت مقررًا دراسيًا عن نداء السلام والمجتمع الديمقراطي الذي أطلقه أوجلان في 27 فبراير 2025، والذي يُعد نقلة نوعية لحل أزمة العلاقات التركية الكردية.

دار امتحان حوالي 500 طالب حول نداء أوجلان وحزب العمال الكردستاني PKK.
كما قام بعض الطلاب بعمل محاكاة لأوجلان لعامين متتاليين، وحاليًا يُعد باحثٌ رسالة ماجستير تحت إشرافي عن دور أوجلان في القضية الكردية.

السؤال المهم هنا هو: ما هو حصاد الجغرافيا التاريخية بشأن الكُرد وكردستان على الطريق الطويل الشائك للوصول إلى ضرورة المجتمع الديمقراطي؟ تركز وطن الكُرد الأم حول مثلث جبال زاجروس وأرارات وطوروس، ويُعد الكُرد من السكان الأصليين في الشرق الأوسط. تعتبر الجبال مفاتيح الهوية الكردية، ومنحت الكُرد إرادة الإقدام والشجاعة، واتصفوا بالتمرد والثورة أكثر من الخضوع والخنوع. منذ سقوط ميديا في منتصف القرن الخامس قبل الميلاد، فقد الكُرد مظلتهم الجامعة، وصارت كردستان ميدانًا للصراع بين القوى الإقليمية والدولية. نفر الكُرد من الوقوع تحت راية حكم مركزي بتأثير ثالوث الجبل والرعوية والعشيرة، وثاروا ضد الحكم المطلق والطغاة المستبدين.

تميزت الكيانات السياسية الكردية بقصر أعمارها، وساد الانقسام السياسي، وسيطر الإقطاع الجبلي. ولم يكن الكُرد من أصحاب العقليات المركزية التوسعية الإمبراطورية، ولهذا كانوا مدافعين غالبًا لا مهاجمين. اعتنق معظم الكُرد الإسلام السُّني الشافعي مما أثّر على مستقبلهم. وخلال العصر الوسيط، تأسست إمارات مستقلة وشبه مستقلة حكمتها أسرات كردية إبان العصر العباسي الثاني.

في تلك الفترة، دخل الأتراك الأناضول وتحالفوا مع الكُرد طواعية ولمصالح مشتركة، وهزموا بيزنطة في ملازكرد عام 1071، وحافظ الكُرد على إدارتهم الذاتية داخل النظام القائم. وفي بداية التاريخ الحديث، تحالف الكُرد مع الأتراك العثمانيين وهزموا الفرس في جالديران عام 1514، وبفضل هذا التحالف تغيّر ميزان القوة لصالح الدولة العثمانية، ونجح الأتراك والكُرد السُّنة في عثمنة الأناضول. وعلى مدى ثلاثة قرون، نجح الكُرد في إدارة ذاتهم تحت المظلة العثمانية وفق الاتفاق بين السلطان العثماني سليم الأول والأمير الكردي إدريس البيتليسي.

رسّمت الدولتان الفارسية والعثمانية الحدود بينهما بموجب معاهدتي آماسيا 1555 وزوهاب 1639. ووفقًا لمعاهدة زوهاب تم تقسيم كردستان بين طهران وإسطنبول؛ إذ وقع الجزء الأكبر غرب جبال زاجروس، وعددها 24 إمارة، في الدائرة العثمانية، بينما وقع الجزء الأصغر، وعدده 6 إمارات شرق جبال زاجروس، تحت السيطرة الفارسية. ومنذ ذلك التاريخ اتفقت طهران وإسطنبول على عدم توحيد كردستان ومحاربة أي حركة تحررية في كردستان الشرقية أو الغربية. وحتى الربع الأول من القرن التاسع عشر، وقعت كردستان الغربية تحت الحكم العثماني غير المباشر وتمتعت بنوع من الإدارة الذاتية.

قام الكُرد بحراسة الحدود الشرقية للدولة العثمانية وشكّلوا حائطًا بشريًا إسلاميًا سُنّيًا ضد الفرس الشيعة والروس المسيحيين. وكانوا يعتقدون أنهم يحاربون من أجل الإسلام، بينما كانوا في الواقع يحاربون لصالح السياسة التوسعية للعثمانيين الذين رفعوا راية الإسلام السُّني والخلافة العثمانية. وعندما كان الكُرد يثورون، كانت إسطنبول تتهمهم بالتمرد والانفصال والتخابر مع الفرس والروس، واستغلت مشاعرهم الدينية لإخضاعهم للسلطان *الخليفة.

في القرن التاسع عشر، سعت الإدارة العثمانية للسيطرة المباشرة على الحدود والناس عبر جيش قوي ووسائل المواصلات والاتصالات والفوتوغرافيا، وتكوين أجهزة أمنية وشبكات جواسيس. تميز هذا القرن بأنه قرن القوميات، وفي الوقت نفسه الأكثر دموية في التاريخ العثماني، وكان "العنف" و"الدموية" من سمات نشوء الدول القومية. اصطدمت مركزة وعسكرة الدولة العثمانية بطموحات الأمراء الكُرد، وللاحتلال المباشر لكردستان الغربية كان لا بد من القضاء على إمارات بابان في السليمانية، وسوران في رواندوز، وبهدينان في عمادية، وبوتان في الجزيرة، وعبد الجليل في الموصل وغيرها.

أرادت الدولة العثمانية سد الطريق أمام روسيا وفارس للتدخل في شؤونها من خلال الإمارات الكردية، وفي الوقت نفسه القضاء على فكرة نشوء دولة كردية منذ المهد لتجنب تكرار سيناريوهات البلقان واليونان ومصر. واتفق الرباعي: إسطنبول ولندن وطهران وسانت بطرسبرغ على منع قيام دولة كردية مستقلة وقوية حتى لا يختل ميزان القوى في الشرق الأوسط. وبدعم إقليمي ودولي، نجحت الإدارة العثمانية في إنهاء استقلال كردستان مستخدمة إرهاب الدولة والعنف المسلح والفتاوى الدينية المسيسة، وارتكبت جرائم ضد الإنسانية وتطهيرًا عرقيًا.

أكدت إسطنبول احتلالها المباشر لكردستان الغربية بمعاهدة أرضروم الثانية عام 1847، وتحولت 24 إمارة كردية إلى أربع ولايات عثمانية مباشرة: هكاري، كردستان، الموصل، بغداد. ولم يستسلم الكُرد للاحتلال العثماني وثاروا بقيادة عز الدين شير وعبيد الله النهري لتحرير كردستان، لكن فشلت الثورات الكردية بسبب تحالفات القوى الإقليمية والدولية التي لم تتبنَّ "القضية الكردية" في مؤتمر برلين 1878 كما تبنت المسألة الأرمنية، وأعادت ترسيم الحدود العثمانية الروسية الفارسية على حساب كردستان.

ورغم فشل ثورات القرن التاسع عشر، فقد نجح الكُرد في زرع بذور الهوية القومية الكردية وسط الاستبداد الفارسي الشيعي والعثماني السُّني. وخلال الحرب العالمية، احتلت القوى الغربية الأناضول، وكما تحالف الكُرد مع الأتراك في ملازكرد وجالديران، تحالفوا للمرة الثالثة في مؤتمري سيواس وأرضروم 1921 لتحرير الأناضول وتأسيس جمهورية مشتركة للأمتين التركية والكردية. ووفقًا لآپو، يُعد التحالف التركي الكردي اتحادًا سوسيولوجيًا واستراتيجيًا ومصيرًا مشتركًا أكثر منه اتحادًا سياسيًا.

بعد تسويات لوزان 1923، أنكرت تركيا القومية الأتاتوركية حقوق الكُرد، ولم تمنحهم إدارة ذاتية، واعتمدت نموذج الدولة القومية الأحادية المركزية التجانسية، مما عمّق الإنكار والإقصاء والتفكيك والإبادات. ويعاني الشرق الأوسط من أزمة خطيرة لعدم مشاركة الكُرد فيه، وبحسب أوجلان يتمثل الحل في مشاركتهم وفق إدارة ذاتية، وهي الشكل العملي لمفهوم المجتمع الديمقراطي.

 

قد يهمك