تشهد تركيا في السنوات الأخيرة تراجعًا واضحًا في مكانتها الاستراتيجية على الساحتين الإقليمية والدولية، نتيجة سلسلة من التحولات الجيوسياسية التي حدّت من قدرتها على المناورة واستثمار التناقضات بين القوى الكبرى، هذا التراجع دفع أنقرة إلى تكثيف ضغوطها السياسية وتحركاتها العسكرية، خصوصًا تجاه القضية الكردية، في محاولة لتعويض ما فقدته من نفوذ.
خسائر متتالية في ساحات النفوذ
بدأت الخسائر مع نجاح الوساطة الأمريكية، بقيادة الرئيس دونالد ترامب، بين أذربيجان وأرمينيا، وهو ما أنهى أحد الملفات التي كانت أنقرة تستخدمها كورقة مساومة جيوسياسية، فقد كان النزاع بين البلدين يمنح تركيا موقع اللاعب المحوري، لكن تسويته أغلقت هذا الهامش، فيما يبقى “ممر زنغزور” أقرب إلى مشروع دعائي للاستهلاك الداخلي منه إلى مكسب استراتيجي حقيقي.
وإذا تمكنت الولايات المتحدة مستقبلًا من إبرام اتفاق سلام بين روسيا وأوكرانيا، فستخسر أنقرة إحدى أهم أوراقها في التعامل مع الناتو والاتحاد الأوروبي، إذ طالما استفادت من استمرار الصراع كوسيطٍ غير مباشر وصاحبة نفوذ على خطوط الإمداد والاتصالات.
أما في الشرق الأوسط، فقد أدى الحسم العسكري الإسرائيلي في غزة إلى تراجع دور تركيا، التي كانت تحاول لعب دور الوسيط بين إسرائيل وحماس، ورفض تل أبيب المتكرر لوساطاتها مثّل ضربة جديدة لصورتها الإقليمية.
سوريا.. الورقة الأخيرة
لم يتبقَّ أمام أنقرة سوى الملف السوري كساحة رئيسية للمناورة، حيث تسعى لتثبيت كلمتها كطرف فاعل في مستقبل البلاد، وضمان نصيب الأسد من أي تسوية سياسية، مع السعي لعرقلة أي تقدم في المشروع الكردي هناك. ويتجلى ذلك من خلال الضغط على حكومة دمشق، ودعم تحركات المجموعات الموالية لأنقرة ضد الكرد والأقليات.
مؤخرًا، جدد وزير الخارجية التركي هاكان فيدان تهديداته للإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا، مطالبًا بحل قوات سوريا الديمقراطية (قسد) ومتهمًا إياها بالسعي للتحالف مع إسرائيل، وجاءت تصريحاته بالتزامن مع زيارة وفد سوري إلى أنقرة، ضم وزراء الخارجية والدفاع ورئيس المخابرات، لبحث ترتيبات أمنية في شمال سوريا، بما في ذلك أمن الحدود وتنسيق العمليات ضد خصوم مشتركين.
اتفاقيات متعثرة وصراع على النفوذ
في آذار/ مارس الماضي، وقّع رئيس الحكومة الانتقالية أحمد الشرع والقائد العام لقوات سوريا الديمقراطية مظلوم عبدي مذكرة تفاهم تقضي بنقاط عدة من ضمنها الاندماج في الجيش السوري. وتطالب شعوب شمال وشرق سوريا بالنظام اللامركزي، ويرون أنه الحلّ الأمثل لحلّ الأزمة السورية.
دمشق من جهتها ألغت اجتماعًا كان مقررًا مع ممثلي “قسد” في باريس، استجابةً لاعتراضات تركية على أي وساطة فرنسية. وفي الوقت نفسه؛ تشن المجموعات المسلحة التابعة للحكومة الانتقالية هجمات على “قسد” في مناطق مثل دير حافر وسد تشرين؛ وترد قوات سوريا الديمقراطية ضمن حق الدفاع المشروع.
الضربة المحتملة و”تفكيك الأوراق التركية”
يرى بعض المراقبين أنه يُرجَّح أن يبدأ “تفكيك الأوراق التركية” من شمال وشرق سوريا وسوريا، مع التحضير في الوقت نفسه لضربة أخرى أكثر هدوءاً على جبهة قبرص، التي ما زالت تمثل ملفًا مفتوحًا أمام الأطماع التركية.
باختصار
تواجه تركيا اليوم مشهدًا إقليميًا متغيرًا بوتيرة سريعة، حيث تتقلص أوراق نفوذها في القوقاز وأوروبا الشرقية والشرق الأوسط، ولم يبقَ أمامها سوى الساحة السورية كآخر ورقة استراتيجية. غير أن هذه الورقة نفسها مهددة بالتآكل بفعل التحالفات المضادة والتفاهمات الدولية، وفي ظل هذه المعطيات، قد يجد صانع القرار التركي نفسه أمام واقع جديد، حيث الماضي كان له، لكن الحاضر والمستقبل قد يكونان لغيره.
... نقلاً عن صحيفة روناهي
من زوايا العالم
منبر الرأي
منبر الرأي
منبر الرأي