بث تجريبي

التفاعل التكاملي كعلاقة تربط الثقافة واللغة

ترتبط اللغة والثقافة بعلاقة وطيدة ترسم الملامح العامة لأي أمة على وجه المعمورة، وكلما تنوعت اللغات والثقافة، زاد التنوع الثقافي وتم إثراء الأمة ثقافيًا وحضاريًا، وتزايدت التفاعلات بين أفرادها، وعناصرها، مما يؤكد ديمقراطية الأمة، ويدلل على قدر كبير من التعايش والسلام والتسامح الذي تحمله بين طياتها، وهنا نستكشف العلاقة وطبيعة التفاعلات بين هذه العناصر التي تؤثر على استقرار وسلام الأمم والحضارات.

تعريف اللغة لغة:

تعرف اللغة في المعاجم وقواميس اللغة بعدة تعريفات، ففي معجم لسان العرب تعرف بأنها: اللسْنُ وهي: أصواتٌ يعبّر بها كل قوم عن أغراضهم وهي فُعْلةٌ من لغوتُ أي تكلمتُ، وفي التهذيب: لغا فلان عن الصواب وعن الطريق إذا مال عنه؛ وقال ابن الأعرابي، اللغة أخذت من هذا، لأن هؤلاء تكلموا بكلام مالوا فيه عن لغة هؤلاء الآخرين، واللغو: النطق. يقال: هذه لغتهم التي يلغون بها، أي: ينطقون بها، ووردت في المعجم الوسيط في نفس المعنى على أنها: أصواتٌ يعبر بها كل قوم عن أغراضهم، جمعها لُغىً، ولغات، ويقال: سمعت لغاتهم: اختلاف كلامهم، وورد للغة أيضًا تعريفات في معاجم أخرى كمعجم المعاني، بأنها أصوات يعبر بها كل قوم عن أغراضهم، ويقال: سمعت لغاتهم: أي سمعت اختلاف كلامهم.

أما اصطلاحًا:

تختلف تعريفات اللغة بين الدارسين والمفكرين، حيث يعرف كارول (Carroll) اللغة بأنها: أيُّ لُغةٍ مِنَ اللُّغاتِ هي نِظامٌ بِنْيويٌّ (Structural System) مِنَ الأصْواتِ العُرفيَّةِ المَنْطوقةِ (arbitrary vocal sounds)، ومِن تَتابُعاتِ الأصْواتِ( sequences of sounds) الَّتي تُسْتخدَمُ أوِ الَّتي يُمكِنُ أنْ تُسْتخدَمَ في التَّعامُلِ بين الأفْرادِ (interpersonal communication) عند مَجْموعةٍ مِنَ البَشرِ، وتُصنِّفُ الأشْياءَ والأحْداثَ والعَمليَّاتِ الَّتي تَتمُّ في البيئةِ الإنْسانيَّةِ، أما سابير (Sapir) فيعرفها بأنها: طَريقةٌ إنْسانيَّةٌ بَحْتةٌ غيرُ غَريزيَّةٍ لتَواصُلِ الأفْكارِ والانفِعالاتِ والرَّغَباتِ بِواسِطةِ الرُّموزِ المُنتَجةِ إنْتاجًا إراديًّا، وتعرف أيضًا على أنها: هي حلقة التواصل والتقارب بين الأمم البشرية والبوح عما يدور في أذهانهم، والتعبير عما يجول فيهم من خلجات ومشاعر وأحاسيس وأفكار.

 وعمومًا فإن اللغة اصطلاحًا: هي نسق من الرموز والإشارات التي يستخدمها الإنسان بهدف التواصل مع البشر، والتعبير عن مشاعره، واكتساب المعرفة، وتعدّ اللغة إحدى وسائل التفاهم بين الناس داخل المجتمع، ولكل مجتمع لغة خاصّة به، وتعرف اللغة اصطلاحاً بأنّها عبارة عن رموز صوتيّة لها نظم متوافقة في التراكيب، والألفاظ، والأصوات، وتُستخدم من أجل الاتصال والتواصل الاجتماعيّ والفردي.

اللغة في فكر أوجلان:

يرى المفكر "عبد الله أوجلان" أن مصطلحُ اللغةِ يرتبطُ بمصطلحِ الثقافةِ بأواصر متينة، مُشَكِّلاً العنصرَ الرئيسيَّ في حقلِ الثقافةِ بمعناه الضيق، لذا بالإمكانِ تعريفُ اللغةِ بمعناها الضيقِ على أنها الثقافة، فاللغةُ بذاتِها تعني: الإرثَ المجتمعيَّ للذهنيةِ والأخلاقِ والجمالياتِ والعواطفِ والأفكارِ التي اكتسَبَها مجتمعٌ ما.

 وهي وجودُ الهويةِ واللحظةِ الذي يُدرَكُ ويُعَبَّرُ عنه بالنسبةِ للمعنى والعاطفة، والمجتمعُ الذي يُعَبِّرُ عن ذاتِه يدلُّ على امتلاكِه الحجةَ القويةَ للحياة، ذلك أنّ مستوى رُقِيِّ اللغةِ هو مستوى تقدُّمِ الحياة، أي أنّه بقدرِ ما يَرقى مجتمعٌ ما بلغتِه الأمّ، يَكُونُ قد ارتَفعَ بمستوى الحياةِ بالمِثل، وبقدرِ ما يخسرُ مجتمعٌ ما لغتَه ويدخلُ تحت حاكميةِ لغاتٍ أخرى، يَكُونُ مُستَعمَراً ومعرَّضاً للصهرِ والإبادةِ بالمِثل. من الواضحِ أنّ المجتمعاتِ التي تحيا هذا الواقعَ لن تتمتعَ بحياةٍ مفعمةٍ بالمعاني ذهنياً وخُلُقياً وجمالياً، بل سيُحكَمُ عليها بحياةٍ مأساويةٍ إلى أن تَفنى بوصفِها مجتمعاتٍ مَريضة، هذا ولا مَهربَ من توظيفِ القيمِ المؤسساتيةِ للمجتمعاتِ التي تعاني من فُقدانِ المعنى والجمالياتِ والأخلاقِ كمادةٍ خامّ لقِيمِ المستعمِرين، خلاصة القول؛ إذا تمَّ عيشُ لغةٍ ما كما هي الحالُ لدى الكردِ مثلاً، فجليٌّ أنّ مجتمعاً يمرُّ بحالةٍ كهذه سوف يَغدو مقهوراً وبائساً حتى النخاع على الصعيدِ الماديّ، وسيَهوي نحو التشتُّتِ والتناثر؛ ولن يتفادى العيشَ مشحوناً بالأخطاءِ والخياناتِ والشناعاتِ معنىً وأخلاقياً وجمالياً.

ثانيًا: مفهوم الثقافة(Culture)

تُعرّف الثقافة لغة على عدّة أوجه، وتعني العمل السيف، والثقاف هي الخشبة التي تُسوَّى الرماح بها، فعند قول جملة (تثقيف الرماح) يعني تسوية الرمح بآلة الثقاف، ومن جهة أخرى تُعرَّف الثقافة على أنّها الفطنة، فعند القول (ثقف الرجل ثقافة) يعني أنّه صار رجلاً حاذقاً وذا فطنة، وتعني كلمة ثقافة، كل ما يضيء العقل، ويهذب الذوق، وينمي موهبة النقد، وباشتقاق كلمة ثقافة من الثقُّف يكون معناها الاطلاع الواسع في مختلف فروع المعرفة، والشخص ذو الاطلاع الواسع يُعرَف على أنّه شخص مثقّف.

أما اصطلاحًا تعرف الثقافة

بأنها نظام يتكوّن من مجموعة من المعتقدات، والإجراءات، والمعارف، والسلوكات التي يتمّ تكوينها ومشاركتها ضمن فئة معينة، والثقافة التي يكوّنها أيّ شخص يكون لها تأثير قوي ومهم على سلوكه، وتدلّ الثقافة على مجموعة من السمات التي تميّز أيّ مجتمع عن غيره، منها: الفنون، والموسيقى التي تشتهر بها، والدين، والأعراف، والعادات والتقاليد السائدة، والقيم، وغيرها .

  • وتعرف أيضًا بأنها:

سلوك اجتماعي ومعيار موجود في المجتمعات البشرية، وتعدّ الثقافة مفهومًا مركزيًا في الأنثروبولوجيا، تشمل نطاق الظواهر التي تنتقل من خلال التعلم الاجتماعي في المجتمعات البشرية، وبعض جوانب السلوك الإنساني، والممارسات الاجتماعية مثل الثقافة، والأشكال التعبيرية مثل الفن، الموسيقى، الرقص، الطقوس، والتقنيات مثل استخدام الأدوات، الطبخ، المأوى، والملابس هي بمثابة كليات ثقافية، توجد في جميع المجتمعات البشرية.

تحتضن الثقافة طيفاً واسعاً يمتد من المعالم التاريخية التي نعتز بها والمتاحف إلى ممارسات التراث الحي وأشكال الفن المعاصر، وتترك بصمتها في حياتنا بطرق لا حصر لها، وتساعدنا في تشييد مجتمعات شاملة، مبدعة وقادرة على التأقلم.

مفهوم الثقافة لدى أوجلان:

بالنسبة للمفكر "عبد الله أوجلان" يرى بأن بوِسعِنا صياغةُ تعريفٍ عامٍّ للثقافةِ، وهو كالتالي:

“مجموعُ كينوناتِ المعاني والبُنى، التي كَوَّنَها المجتمعُ البشريُّ على مدارِ التاريخ"، وبينما تُعَرَّفُ كينوناتُ البنى على أنها مجموعُ المؤسساتِ المنفتحةِ للتحولِ والتطور، فمن الممكنِ تعريفُ كينوناتِ المعاني على أنها مستوى أو مضمونُ المعاني المتنوعةِ والغنيةِ والمترابطةِ ببعضها البعضِ تبادُلياً وبالتكافُؤِ ضمن تلك المؤسساتِ المتحولة.

بالإمكانِ تحديدُ كينونةِ البنيةِ بوصفِها الإطارَ الماديَّ للبنية، وتحديدُ المعنى بوصفِه مضمونَ هذا الإطارِ الماديّ، أو بكونِه قانونَه الذي يُحَرِّكُه ويُصَيِّرُه مشحوناً بالعواطفِ والأفكار، بمُستطاعِنا القولُ أننا نَدنو هنا من مصطلَحَي "الطبيعة" و"الروح" لدى هيغل.

التعريفُ الضيقُ للثقافةِ كثيرُ التداولِ إلى حدٍّ ما، ويُعمَلُ هنا بالأغلب على تحديدِ إطارِ الثقافةِ على أنها المعنى والمضمونُ وقانونُ البنيةِ وحيويتُها، وعندما يَكُونُ المجتمعُ موضوعَ الحديث، فإننا نُعَرِّفُ الثقافةَ بمعناها الضيقِ على أنها: عالَم المعنى لدى المجتمع، وقانونُه الخُلُقِيّ، وذهنيتُه وفنُّه وعِلمُه،  وبتوحيدِ المؤسساتِ السياسيةِ والاقتصاديةِ والاجتماعيةِ مع هذا المعنى الضيق، يتمُّ الانتقالُ إلى تعريفِ الثقافةِ بمعناها العام، وبالتالي، لا يُمكنُ الحديثُ عن المجتمعِ بحَدِّ ذاتِه باعتبارِه وجوداً، إلا بوجودِ أرضيةٍ مؤسساتيةٍ ومعنىً جوهريٍّ له، بينما الحديثُ عن مجتمعٍ مؤسساتيٍّ خالصٍ أو عن مجتمعِ المعنى الخالصِ بنحوٍ قائمٍ بذاتِه، أمرٌ مُضَلِّلٌ وخادعٌ إلى درجةٍ كبيرة.

محالٌ الحديثُ هنا عن معنى مجتمعٍ ما أو عن ثقافتِه الضيقةِ بَعدَ بَعثرتِه مؤسساتياً. والمؤسسةُ في هذه الحالِ كالكأسِ المليئةِ بالماء، ويتضح جلياً أنه لا يُمكنُ الحديثُ عن وجودِ الماءِ بَعدَ تَحَطُّمِ الكأس. وحتى لو أَمكَن، فهو لَم يَعُدْ ماءً بالنسبةِ لصاحبِ الكأس، بل هو عنصرُ حياةٍ متدفقةٍ في تربةِ أو إناءِ أناسٍ آخرين. في حين أنّ النتائجَ المتمخضةَ من خُسرانِ المعنى والذهنيةِ والجماليةِ الاجتماعيةِ أفظعُ من ذلك. ففي هكذا حالةٍ لا يُمكنُ الحديثُ سوى عن تألُّمِ واصطفاقِ كيانٍ هو أَقرَبُ ما يَكونُ إلى كيانٍ حيٍّ مبتورِ الرأس. بمعنى آخر، فالمجتمعُ الذي يخسرُ عالَمَه الذهنيَّ والجماليَّ أَشبَهُ بجِيفةٍ متروكةٍ للتفسخِ والتحلُّلِ والانقضاضِ عليها بوحشية. بناءً عليه، ولتعريفِ مجتمعٍ ما ثقافياً، يُشتَرَطُ حتماً تقييمُه ضمن تكامُلٍ كليٍّ على صعيدِ المؤسساتية والمعنى. وأبسَطُ مثالٍ يمكِنُنا تقديمُه في هذا المضمار، هو واقعُ المجتمعِ الكرديِّ الذي نَشهَدُ مأساتَه الدراميةَ بكثافة. فنظراً لمعاناتِه من التمزُّقِ العميقِ والخُسرانِ الذهنيِّ مؤسساتياً ومعنىً على حدٍّ سواء، فلا يُمكننا تسميةُ المجتمعِ الكرديِّ إلا بـ"المجتمعِ المُعرَّضِ للإبادةِ الثقافية".

العلاقة بين اللغة والثقافة:

لا شك أن اللغة لها تأثير كبير في الأفكار والعادات وتكوين العقلية، خاصة إذا فهمنا أن كل لغة تطبع أهلها بطابع خاص، كوين ثقافات الأمم إنما ينتج من بيئتها الطبيعية، ولا ريب أن هناك علاقة وطيدة بين الثقافة واللغة؛ فلا ثقافة بلا لغة، ولا لغة بلا ثقافة؛ فاللغة والثقافة مرتبطان معًا، لا تنفك إحداهما عن الأخرى.

ومعلوم أن اللغة تحتفظ بالتراث الثقافي جيلاً بعد جيل، وتجعل للمعارف والأفكار البشرية قيمها الاجتماعية.

إن نشأة الثقافة ونموها لا يتمان بدون اللغة التي تمكِّن الإنسان من تحقيق التعاون والاتصال مع غيره، وقد أدرك الناس أن اللغة تسهم في توجيه التفكير لدى الإنسان؛ ولذلك كان من الضروري الاعتناء بها، وتوريثها إلى الأجيال اللاحقة؛ فاللغة هي مرآة ثقافة الأجيال الجديدة، وهي الوسيلة التي تستخدمها الشعوب للتعبير عن العناصر المختلفة للثقافة من عادات، ومفاهيم، وتقاليد، وقوانين.. فاللغة هي المرآة الحقيقية لثقافة أي شعب من الشعوب الإنسانية.

وقد قيل: اللغة هي الناطق الرسمي باسم الثقافة؛ لأن اللغة هي جزءٌ من الثقافة؛ فلا يمكن للإنسان من دونها أن يشرح للآخرين وجوه التميز الثقافي لدى أمته وشعبه.

من أعظم الآلات التي يستخدمها البشر فى تحقيق التعاون فيما بينهم، ووسيلة تعاونه فى حمل المعاني المختلفة التي يرغب فى إيصاله للغير. اللغة هي جزء من الثقافة، والثقافة تحدد هوية الشعوب. أي أن اللغة تعني هوية المجتمعات. اللغة هي وسيلة للتواصل بين أفراد المجتمع وإذا حرمت المجتمعات من اللغة فإنها تحرم من وسيلة التواصل والتعبير. فالمجتمعات تتواصل وتتفاهم عبر اللغة، لذلك لا يمكن أن توجد الشعوب بدون وجود اللغة. في وقتنا الراهن إذا أردنا أن نبني مجتمعاً فيجب العودة إلى تاريخ وثقافة ولغة ذلك المجتمع وإلا فإن ذلك المجتمع لن ينتمي إلى تلك الثقافة وذلك التاريخ. وتجمع الفرضية سابير-وهورف بين مبدأين هما: النسبية اللغوية والحتمية اللغوية، ولا تزعم نظرية النسبية اللغوية أن البناء اللغوي يحد من تفكير الناس وفهمهم للأشياء، ولكنها تزعم أن البناء اللغوي يؤثر فيما يفكر فيه الناس وما يفهمونه بشكل منظم.

  • الثقافة والهوية :

يرى المفكر "عبد الله أوجلان" أنّ مجتمعاً منفرداً بذاتِه لن يستطيعَ التحولَ إلى هوية، أو إطلاقَ تسميةٍ على ذاتِه من حيث كونِه وجوداً وكياناً؛ إلا إذا كان يَتمتعُ بمستوى كافٍ من المعنى والمؤسساتية، أما الحديثُ عن المجتمعِ المؤسساتيِّ أو مجتمعِ المعنى المنفصلِ والقائمِ بذاتِه، وافتراضُ إمكانيةِ العيشِ بإنسانيةٍ في هكذا مجتمعات؛ فيُحكَمُ عليه بكونِه خطأً وانحرافاً وترَدّياً أخلاقياً وشناعة، مثلما حصلَ في جميعِ المجتمعاتِ على مدى التاريخ.

  • العلاقة بين اللغة والثقافة والأمة الديمقراطية:

تعرف الديمقراطية بأنها حكم الشعب، ويعرفها "أوجلان" بمعناها الواسع على أنها : قيامُ المجموعاتِ التي لا تَعرفُ الدولةَ أو السلطةَ بإدارةِ نفسِها بنفسِها. وتَندرجُ إدارةُ المجموعاتِ الكلانيةِ والعشائريةِ والقبائليةِ نفسَها بنفسِها في هذا التصنيف. أما الإداراتُ الذاتيةُ الباقيةُ خارجَ حُكمِ السلطةِ والدولةِ ضمن المجتمعاتِ التي تسودُها ظاهرتا السلطةِ والدولةِ بكثافة، فيُمكنُ تقييمُها وإدراجُها في إطارِ الديمقراطيةِ بالمعنى الضيق. ففي المجتمعاتِ الدولتيةِ لا تَسري الإداراتُ الديمقراطيةُ الخالصة، ولا الإداراتُ الاستبداديةُ الخالصة. بل غالباً ما تَسُودُها الظاهرتان الإداريتان بشكلٍ متداخل. وهذا ما يُنتِجُ بدورِه أنظمةً منفتحةً على تفسخِ وفسادِ السلطةِ والديمقراطيةِ على حدٍّ سواء. ذلك أنّ سلطةَ الدولة، وبحُكمِ طبيعتِها، مُضطرَّةٌ في علاقاتِها مع المجتمعِ إلى تحجيمِ الديمقراطيةِ وجرِّها إلى الوراء، وإن إنقاذ الديمقراطيات المجتمعية لا يتم إلا بتطويرِ الإداراتِ الذاتيةِ الديمقراطية.

فالمهمةُ التي تقعُ على عاتقِ المجتمع، هي إنشاءُ قوى العصرانيةِ الديمقراطيةِ الخاصةِ به في وجهِ قوى المدنيةِ التاريخيةِ وقوى الحداثةِ الرأسماليةِ المعاصِرة. هذا ويتجسدُ الدورُ التاريخيُّ للعصرانيةِ الديمقراطيةِ في بناءِ ذاتِها ضمن جميعِ الحقولِ الاجتماعيةِ والرقيِّ بمعانيها؛ دون الانصهارِ في بوتقةِ الدولةِ القائمةِ أو التحولِ إلى امتدادٍ مدنيٍّ لها، ودون استهدافِ هدمِ الدولةِ والتطلعِ بالمقابلِ إلى التدول.

تتجسدُ قضيةُ الإدارةِ الذاتيةِ للمجموعاتِ العشائريةِ والقبائليةِ في هيئةِ قضيةِ الديمقراطية (وتعني في اليونانية "إدارة الشعبِ نفسَه بنفسِه") خلال مراحلِ التحولِ إلى قومٍ أو مِلّةٍ أو شعب. يتوجب تعريفُ الديمقراطيةِ بصفتَين مهمتَين: أولاهما؛ احتواؤُها على التضادِّ مع مؤسساتيةِ وتدوُّلِ السلطةِ المسلَّطةِ على الشعب. ثانيتُهما؛ إضفاؤُها المزيدَ من التشاركيةِ على الإدارةِ الذاتيةِ المتبقيةِ من المجتمعِ التقليديّ، ومَأسَسَتُها لثقافةِ النقاشِ والاجتماعاتِ مُعَزِّزَةً إياها بتأسيسِ نموذجٍ مُصَغَّرٍ من البرلمان. تُحَقِّقُ الإدارةُ الذاتيةُ مشاركةَ جميعِ الوحداتِ المجتمعيةِ المعنيةِ بوصفِها شبهَ استقلاليةٍ ديمقراطيّة، وتُؤَمِّنُ مؤسساتيتها.

اصطلاحاً هي شكلُ المجتمعِ الذي يَلي تَحَوُّلَ الكلاناتِ والعشائرِ وقبائلِ القُربى إلى كياناتٍ كالقومِ أو الشعبِ أو المِلَّة، والذي غالباً ما يُصَنِّفُ ذاتَه وفقَ تَشابُهِ اللغةِ والثقافة. والمجتمعاتُ الوطنية أوسعُ نطاقاً وأكبرُ حجماً من مجتمعاتِ القبائلِ والأقوام. ولهذا، فهي تجمعاتٌ بشريةٌ تَربطُها ببعضِها بعضاً روابطٌ رخوة. المجتمعُ الوطنيُّ هو بالأغلب ظاهرةٌ من ظواهرِ عصرِنا. وإذ ما صِيغَ تعريفٌ عامٌّ له، فبالإمكانِ القولُ أنه تَجَمُّعٌ مِمَّن يتشاطرون ذهنيةً مشتركة. أي أنه ظاهرةٌ موجودةٌ ذهنياً. بالتالي، فهو كيانٌ مجردٌ وخياليّ. وباستطاعتِنا تسميته أيضاً بالأمةِ المُعَرَّفةِ على أساسِ الثقافة.

الأمةَ الديمقراطيةَ: هي تلك الأمةُ التي لا تكتفي بالشراكةِ الذهنيةِ والثقافيةِ فحسب، بل وتُوَحِّدُ كافةَ مُقَوِّماتِها وتُديرُها في ظلِّ المؤسساتِ الديمقراطيةِ شبهِ المستقلة. هذا هو الجانبُ المُعَيِّنُ فيها. أي أنّ طرازَ الإدارةِ الديمقراطيةِ وشبهِ المستقلة، هو الشرطُ الرئيسيُّ في لائحةِ صَيرورةِ الأمةِ الديمقراطية. وهي بجانبِها هذا بديلٌ للدولةِ القومية. فالإدارةُ الديمقراطيةُ البديلةُ لحُكمِ الدولةِ فرصةٌ عظيمةٌ للحريةِ والمساواة أما مواطنُ أو عضوُ الأمةِ الديمقراطية، فهو مختلف. وينتهلُ اختلافَه هذا من مختلفِ التجمعات. وحتى وجودُ العشائرِ والقبائلِ أيضاً يُعَدُّ مصدرَ غنىً بالنسبةِ للأمةِ الديمقراطية.

وإلى جانبِ أهميةِ اللغةِ بقدرِ الثقافةِ من أجلِ كينونةِ الأمة، إلا إنها ليست شرطاً حتمياً. فالتبعيةُ إلى لغاتٍ مختلفةٍ ليست عائقاً أمام الانتماءِ إلى الأمةِ عينِها. وكيفما لا معنى لوجودِ دولةٍ واحدةٍ لكلِّ أمة، فكذا لا معنى للاقتصارِ على لغةٍ أو لهجةٍ واحدةٍ من أجلِ كلِّ أمة. من هنا، وإلى جانبِ ضرورةِ اللغةِ القومية، لكنها ليست شرطاً حتمياً، بل وبالمستطاعِ النظر إلى تعددِ اللغاتِ واللهجاتِ بعينِ الغِنى بالنسبةِ إلى الأمةِ الديمقراطية. لكنّ الدولةَ القوميةَ تَعملُ أساساً بإرغامِ اللغةِ الواحدةِ بمنوالٍ صارم، ولا تُتيحُ الفرصةَ يسيراً للتعددِ اللغويّ، وخاصةً لتعددِ اللغاتِ الرسمية، بل تسعى بجانبِها هذا إلى الاستفادةِ من امتيازاتِ كينونةِ الأمةِ الحاكمة.

نموذجُ الأمةِ الديمقراطيةِ باعتبارِه نموذجاً حَلاّلاً، يُنعِشُ ثانيةً دمقرطةَ العلاقاتِ الاجتماعيةِ التي مَزَّقَتها النزعةُ الدولتيةُ القوميةُ إرباً إرباً، ويُفعِمُ الهوياتِ المتباينةَ بروحِ الوفاقِ والسلامِ والسماحة. لذا، فانعطافُ أمةُ الدولةِ صوب الأمةِ الديمقراطية، سيَجلبُ معه مكاسب عظمى. فنموذجُ الأمةِ الديمقراطيةِ يتسلحُ بوعيٍ مجتمعيٍّ سديدٍ للقيامِ أولاً بتطويعِ الإدراكاتِ المجتمعيةِ المشحونةِ بالعنف، ثم لتصييرها إنسانية (الإنسان العاقل والمفعم بالمشاعر، الذي يشعر بالآخرِ ويتقمصُه)، لا ريب أنّ هذا النموذجَ يُقَلِّلُ كثيراً من علاقاتِ الاستغلالِ المُطَعَّمةِ بالعنف، رغم أنه لا يقضي عليها كلياً، ويحقق ذلك بإتاحتِه الفرصةَ لمجتمعٍ أكثر حريةً ومساواة. إنه لا يؤدي وظيفتَه هذه بالاقتصارِ فقط على استتبابِ الأمنِ والسلامِ والسماحِ بين صفوفِه، بل وبتخطيه أيضاً للمقارباتِ المُشَرَّبةِ بالقمعِ والاستغلالِ تجاه الأممِ الأخرى خارجياً، وبتحويلِه المصالحَ المشتركةَ إلى تداؤبٍ وتضافُر. لدى هيكلة المؤسساتِ الوطنيةِ والعالميةِ بناءً على البنيةِ الذهنيةِ والمؤسساتيةِ الأساسيةِ للأمةِ الديمقراطية، فسوف يُدرَكُ أنّ النتائجَ التي ستُسفِرُ عنها الحداثةُ الجديدة، أي العصرانيةُ الديمقراطية، ستَكُونُ بمثابةِ النهضة، ليس نظريّاً فحسب، بل وعملياً أيضاً. أي أنّ بديلَ الحداثةِ الرأسماليةِ هو العصرانيةُ الديمقراطية، والأمةُ الديمقراطيةُ الكامنةُ في أساسِها، والمجتمعُ الاقتصاديُّ والأيكولوجيُّ والسِّلميُّ المنسوجُ داخلَ وخارجَ ثنايا الأمةِ الديمقراطية.

  • وبالتالي فإن نموذج الأمة الديمقراطية لايفرض بالقوة شكلاً واحدًا للغة واحدة أو ثقافة واحدة على الجميع للعمل بها وتقبلها رغمًا عنهم، وهو ما تقوم به الدولة القومية، سواءً من خلال :
  1. الصهر:

ويتمثل في الدَّمجِ القسريِّ، وهو الممارسةِ أحاديةِ الجانب، التي تلجأُ إليها احتكاراتُ السلطةِ ورأسِ المالِ في مجتمعاتِ المدنية، وتُطَبِّقُها على المجموعاتِ الاجتماعيةِ التي أَخضَعَتها لنيرِ العبوديّةِ بغرضِ اختزالِها إلى امتدادٍ لها أو مُلحَقٍ بها.

  1. الإبادة الثقافية:

التصفيةِ التامةِ جسدياً وثقافياً للشعوبِ والأقلياتِ وجميعِ أنواعِ الجماعاتِ والمجموعاتِ الدينيةِ والمذهبيةِ والأثنيةِ التي صَعُبَ تذليلُها بأسلوبِ الصهر.

بل إن الأمة الديمقراطية تستفيد من التباين الثقافي واللغوي لأعضائها في إثراء الثقافة والهوية الخاصة بها ودعم الإبداع داخل مجتمعاتها، لحل مشكلات عبودية واستغلال فئة لأخرى.

.. نقلاً عن مجلة الأمة الديمقراطية

قد يهمك