بث تجريبي

ترتيبات هامة .. انتخابات العراق 2025 وتحالفات ما بعد الصدارة

خاضت العراق انتخابات برلمانية مهمة وسط ضغط سياسي متصاعد وهواجس أمنية مستمرة في 11 نوفمبر 2025، وهي انتخابات رُفع فيها مستوى التوقعات من المراقبين المحليين والدوليين. وبحسب النتائج المعلنة رسميًا من المفوضية العليا للانتخابات، تصدر تحالف رئيس الوزراء العراقي "محمد شياع السوداني" (الإعمار والتنمية) أصوات المحافظات المحورية، خاصة في بغداد والجنوب، فيما بلغت نسبة المشاركة 57.11%.

يشير هذا الأداء الانتخابي إلى إعادة توازن بين المكونات الأساسية ـ الشيعة والسنة والأكراد ـ ويوحي بأن "السوداني" قد يكون محورًا مرشحًا لتشكيل الحكومة المقبلة، رغم عدم امتلاكه الأغلبية المطلقة، ما يجعل التفاوض السياسي شرطًا لازمًا للمرحلة المقبلة.

وبناءً على ما سبق، يسعى هذا التحليل إلى دراسة ما ستنتجه النتائج سواء حكومة إصلاحية ببرنامج واضح، أو جر البلاد إلى استمرار نمط المحاصصة والتجاذبات، حيث تعد هذه الانتخابات اختبار لشرعية المؤسسات بعد سنوات من الصراع والتراجع في ثقة الشارع.

قوة الصدارة

حقّق تحالف "السوداني" (الإعمار والتنمية) فوزًا رسميًا مكنه من احتلال المرتبة الأولى على مستوى البلاد، خصوصًا في المحافظات الجنوبية مثل النجف وكربلاء وبغداد. ويعكس هذا التصدر قدرة "السوداني" على الجمع بين خطاب تنموي وشعار "إعادة البناء" وبين رسائل استقرار تستهدف جمهورًا عانى كثيرًا من الوعود المتكررة.

يقدم "السوداني" نفسه كقائد بناء، وليس ممثلًا لفصيل طائفي فحسب. لكن مع ذلك، يبقى أمام معضلة عدم امتلاك الأغلبية، ما يفرض الدخول في مفاوضات مع القوى الشيعية والسنية والكردية، وهي عملية قد تكون معقدة نتيجة تضارب المصالح وتوقعات الشركاء.

يمهد تصدر "السوداني" لبناء تحالفات متعددة المكونات، قد تحول فوزًا انتخابيًا إلى مشروع سياسي طويل الأمد. بعض القراءات ترى أن "السوداني" يسعى للانتقال بالعراق نحو نموذج حكم يرتكز على (التنمية، التكنولوجيا، والاستقرار)، بدلًا من الولاءات التقليدية أو نفوذ الميليشيات.

لكن هذا المسار محفوف بالتحديات، فالتنازلات المطلوبة للحصول على دعم القوى الأخرى، والضغوط الشعبية لإنجازات ملموسة، تمثل اختبارًا حقيقيًا لـ "السوداني" وقدرته على الحكم الفعال.

يعيد فوز التحالف صياغة مفهوم "الشرعية" في العراق عبر تأكيد فكرة الدولة كمشروع بناء. فنجاح "السوداني" يعتمد على قدرته على تحقيق مشاريع ملموسة في الخدمات والبنية التحتية والأمن.

وإن تمكن من ذلك، فقد يصبح نموذجًا جديدًا في السياسة العراقية، إذ يملك سلطة برلمانية تُترجم إلى نتائج ميدانية، لا مجرد توزيع لمقاعد وصلاحيات.

قراءة المؤشرات

مثلت هذه الانتخابات تجربة حقيقية لقياس توازن القوى السياسية والديناميكيات الشعبية بعد سنوات من الأزمات والصراعات المتكررة. في هذا السياق، يمكن استنتاج عدد من المؤشرات الاستراتيجية التي توضح اتجاهات المشهد السياسي وتحدد ملامح الحكومة القادمة وفرص نجاحها أو تحدياتها على النحو التالي:

1- انخراط شعبي متجدد: تعكس نسبة المشاركة 57.11% حالة توازن بين القلق الشعبي من النخب التقليدية وبين الرغبة في تجديد الشرعية. كما تمنح هذه النسبة تفويضًا مشروطًا للحكومة القادمة، لكنها لا تمثل تفويضًا مطلقًا، ما يجعل نجاح الحكومة مرتبطًا بقدرتها على تقديم نتائج قابلة للقياس.

كما تشير إلى أن شريحة من الشباب ما تزال تراهن على الانتخابات كوسيلة للتغيير، وهو ما يمارس ضغطًا على النخبة السياسية.

2- ضعف هيمنة فصيل واحد: رغم صدارة "السوداني" رسميًا، إلا أن غياب الأغلبية المطلقة يمنحه قوة نسبية فقط. فالقوى السنية والكردية تملك الآن هامشًا تفاوضيًا قويًا قد يدفع نحو حكومة توافقية، وربما نموذج جديد لتوزيع السلطة يتجاوز الصيغ الطائفية التقليدية.

3- نموذج الإصلاح والبناء: طرح "السوداني" نفسه كرجل دولة يحمل مشروع "إعادة الإعمار والتنمية". حيث تلقى هذه الرسالة قبولًا لدى جمهور واسع سئم من الفوضى والفساد. لكن نجاح هذا النموذج يعتمد على التنفيذ الفعلي وليس على الشعارات، ما يجعل الفترة الأولى من الحكومة محددة لمستقبل مشروعه.

4- قوة الكتل الإقليمية: الفصائل السنية والكردية تمتلك الآن موقعًا تفاوضيًا مركزيًا. الكرد بشكل خاص يملكون ورقة الضغط المتعلقة بالموارد والنفط والإقليم. وإذا حدث تفاهم واقعي بينهم وبين "السوداني" على برنامج موحد، فقد تتشكل جبهة بناء عابرة للطوائف.

5- ضغط خارجي متزايد: تأتي الانتخابات في سياق إقليمي ودولي معقد، بين تأثيرات الولايات المتحدة وإيران وتوقعات المجتمع الدولي باستقرار العراق. لذلك، فإن أي حكومة جديدة ستكون مطالبة بتحقيق توازن بين الاستقلالية الوطنية ومتطلبات الدعم الدولي.

آفاق التشكيل:

تصدر "السوداني" يمنحه فرصة لتشكيل تحالف يجمع الشيعة والسنة والكرد ضمن برنامج تنموي شامل. لكن هذا النجاح مرهون بمدى استعداده لتقديم تنازلات منطقية للكتل السنية كالحقائب السيادية، وللكرد كالصلاحيات الإقليمية والملفات النفطية.

تحتاج الحكومة إلى إصلاح مؤسسات الدولة ـ البرلمان، القضاء، والإدارة المحلية ـ بما يعزز الثقة العامة ويحد من نفوذ الفصائل المسلحة. وهذا الإصلاح هو جوهر الشرعية الجديدة التي تحتاجها الدولة للانتقال إلى مرحلة مؤسسية بدل الولاءات.

أظهرت الأحداث المحدودة أثناء يوم الانتخابات، وخاصة مقتل شرطيين في كركوك خلال اشتباك موضعي، أن بعض المناطق المتنازع عليها ما زالت عرضة للتوتر الطائفي والقومي.

وبالتالي، سيكون على الحكومة القادمة تطوير استراتيجية أمنية تعيد ضبط العلاقة بين القوات النظامية والقوى المحلية، وتفرض سيادة الدولة دون تحيز.

إجمالًا، يمكن القول أن انتخابات العراق 2025 تشكل مفترقًا حقيقيًا في المشهد السياسي، وفوز السوداني ليس نهاية السباق، بل بداية مرحلة أكثر تعقيدًا. إذ يتمثل التحدي الأكبر في تحويل الصدارة إلى حكومة فعالة قادرة على تقديم خدمات وإصلاح مؤسسات الدولة، مع الحفاظ على توازن سياسي بين القوى الشيعية والسنية والكردية.

إذا نجحت هذه الحكومة في بناء شراكات حقيقية وتقديم إنجازات ملموسة، فقد تدخل البلاد مرحلة استقرار تمتد لسنوات. أما إذا فشلت في التوصل إلى تفاهمات جوهرية، فقد تعود دورة المحاصصة والصراع إلى الواجهة. فالمستقبل لا تحدده النتائج وحدها، بل قدرة الحكومة المقبلة على ترجمة التفويض النسبي إلى مشروع دولة قادر على كسب ثقة العراقيين.

قد يهمك