بث تجريبي

أريج عرفة تكتب: سيمفونية الخلق

سيمفونية الخلق ..

في البدء كان كلمة، فليكن نور.
جسور الصوت بين الأرض والسماء
في تلك اللحظات السحرية، حيث تتوقف الحياة خارج النافذة، كنتُ أجلس أمام النيل أُشاهد المراكب الشراعية، كأنها أفكار تتأرجح بين ضفتين، والجزر الخضراء تعكس سماءً كالمرآة المزدوجة. عيني تغرق في انعكاس السحب، تلك الكتل الروحية التي لا يسعها إلا أن تسحبك للغوص العميق. بعيداً عن ضوضاء الحرف، أتوقف طويلاً متأملةً هذه اللوحة، أحاول تشغيل حاستي البصرية ومخيلتي الفكرية لأستطيع أن أسترد خيط الكتابة الذي أفلت مني.

ثم مرّت رياح الخريف، لم تكن مجرد نسيم، بل رقصة خفيفة، همسة تشبه لمسة حبيب يمر على جسدك بكل حب. تنهدتُ، لكن اليد لم تمتد بعد إلى شاشة الحاسوب. توقفتُ لأستمع لبقية حواسي، وهي السمع.
وهنا كان الإدراك المُرعب والجميل، وهو أنني لا أقوى على الكتابة دون أن يُحيط بأذني صوت.
لا إبداع، ولا استرسال، ولا قدرة على التركيز يمكن أن تنبع في صمت، بل يجب أن يكون هناك إيقاع واحد. وإذا ما تغيّر هذا الإيقاع، يحدث شيء غريب داخلياً، شيء يوقف الموصلة، كأن آلة روحي قد تعطّلت. ثم ربط خيطاً آخر، فمثلاً حين أتوقف عن سماع النغمات في اليوغا أو الامتناع عن الترددات التي أحبها، تتغيّر طبيعة مزاجي.

جلست أفكّر: ما هذا الشيء؟ لماذا يحدث؟ كانت هذه الأسئلة بوابة عبور إلى البحث عن الرنين الكوني في جسدي.
ففي صمت التاريخ، هناك حقيقة خالدة: الصوت ليس مجرد ذبذبة، بل هو أداة الخلق الأولى. أجدادي على ضفاف النيل كانوا سنداً لهذا السر. لم يستخدم الفراعنة الصوت للتواصل فقط، بل كتقنية مقدسة للعلاج.
كان الكهنة في المعابد يمتلكون خريطة دقيقة للترددات. هم لم يتلوا الترانيم عشوائياً، بل كانوا يُنشئون اهتزازاً محدداً يهدف إلى إعادة ضبط مراكز الطاقة.
يُقال إنهم استخدموا نغمات معينة لإحداث توازن في الجسد، كأنهم يعزفون على أوتاره ليعود كل جزء منه إلى إيقاعه الأساسي. هذا الإدراك لم يكن سحراً، بل هو فهم عميق بأن المرض هو خروج عن تناغمنا الوجودي، والصوت هو اللغة التي تُهمس للخلايا لتستعيد وصلها الأصلي.

هذا الإرث يثبت أن الجسد البشري هو أعظم آلة رنين، وكنتُ أبحث بشكل غريزي عن سرها المفقود.
لم يتوقف هذا الفهم عند الفراعنة، إنه يتردد في كل دعوة روحية.
فحين يُرفع الأذان، لا تكمن قوته في الإعلان، بل في الاهتزاز العميق الذي يخترق الفضاء. إنه يخلق حقلاً من الرنين حول السامع، يهدف إلى تهدئة الجهاز العصبي واستجلاب السكينة. إنه ليس مجرد دعوة للصلاة، بل نغمة ضبط مصنعي للروح على إيقاعها الكوني، وكذلك في الحضرة الصوفية.
ومن "الكلمة" التوراتية التي شكّلت الوجود، إلى مانترا "أوم" (AUM) الهندوسية التي تُعتبر الاهتزاز الكوني الأزلي، كل هذه الممارسات تثبت أن النطق والصوت هما جوهر الخلق، واللغة التي نستخدمها لنتجاوز الثنائية ونعود إلى وحدتنا الأصلية.

فحين تركتُ صمت التاريخ، وجدتُ العلم الحديث يرتّل النغمة نفسها.
الانفجار العظيم (Big Bang) يخبرني أن الكون لم يولد بطفرة صامتة، بل بهمهمة كونية؛ موجات الضغط، أشبه بالصوت (تذبذبات صوتية باريونية)، انتشرت في البلازما الكثيفة. هذه الموجات ليست مسموعة، لكنها كانت تقلبات في الكثافة نحتت البنية الكبرى للمجرات. الكون يرتّل نفسه منذ الأزل.
على المستوى الأدق من الذرّة، تفترض النظرية أن الجسيمات الأساسية ليست نقاطاً، بل أوتاراً دقيقة مهتزة.
كل جسيم هو نغمة مختلفة تُعزف على هذا الوتر الكوني. إذاً، أنا وأنت وكل ما حولنا، لسنا سوى تجليات اهتزازية لنغمات متنوعة.

الماندالا التبتية، التي تُعتبر رمزاً هندسياً للكون، هي انعكاس لهذا الرنين. علم السايماتيكس يثبت أن الصوت، عند تمريره عبر وسط ما، يشكّل أنماطاً هندسية ثابتة ومدهشة. الماندالا ليست رسماً عشوائياً، بل هي صورة مرئية لصوت تم عزفه بإتقان.
نختبر نحن هذا الكون المهتز عبر بوابة السمع.
هل تخيلت يوماً أن حاسة السمع هي أول حاسة تتكوّن لدى الجنين في رحم أمه؟ نحن نستمع إلى إيقاع الحياة: نبض الأم، جريان الدم، قبل أن نرى أو نلمس. نولد ونحن مبرمجون على الرنين.
ويخبرنا الذاهبون أن السمع هو آخر حاسة تذهب عند الموت، كأن الروح تستمع إلى كلمة الوداع الكونية لتعود إلى إيقاعها الأبدي. العلاقة بيننا وبين الاهتزاز علاقة وجودية، تبدأ قبل الوعي وتستمر بعد الجسد.

لم يكن ارتباطي بالموسيقى حدَّ الهوس أو مجرد تفضيل عابر، لقد أدركت أن حاجتي للصوت هي حاجتي للاتصال الروحي والجسدي، لأنني في صمتي المطلق شعرت بالانفصال، كأنني آلة عزف خرجت من سيمفونية الكون.
الموسيقى، أو التردد الذي أختاره، هو في الواقع جسر بين داخلي وخارجي، وهو الذي يوقظ إيقاع الخلق في روحي، ويسمح لي بالإبداع والمواصلة.
وهنا يكمن السر المادي لتغيّر المزاج؛ الذبذبات والأصوات المنتظمة مثل نغمات اليوغا أو
Binaural Beats
(Brain Waves) تعمل على تغيير حالة موجات الدماغ. فعندما يتوتر الجهاز العصبي، تأتي هذه النغمات لتجذب العقل إلى حالة ألفا، وهي الهدوء، أو ثيتا، وهي التأمل العميق، أو بيتا.
الخلاصة هي أنني أستطيع أن أختار حالتي الروحية والمزاجية عن طريق اختيار اهتزازاتي. أنا أرسل إشارات إلى الجهاز العصبي تخبره: حان الآن وقت التناغم. وعندما ينقطع هذا الاتصال، أعود إلى الفوضى.

فمن تراتيل الفراعنة، إلى همهمة الانفجار العظيم، إلى الأوتار الكمومية... كل هذا يخبرني أننا نتاج اهتزاز، وأن سكينتنا وإبداعنا يتوقفان على قدرتنا على الاستماع بعمق وإيجاد الإيقاع المناسب.
هذا هو سري: أن أعيش وأكتب في تناغم مستمر مع صدى الخلق الأبدي.

 

قد يهمك