ربما لا ترحب الأرض بالجميع فتمنح الامتيازات للبعض وتلفظ الآخرين، ولكن الأكيد أن هذا التمييز صناعة بشرية متقنة، فبين عنصرية الحكومات والمؤسسات والأفراد تتأرجح الحقوق المهدورة، وينال من الإنسانية عدد لا بأس به من هؤلاء الذين فضلوا الأحادية على فطرة الخالق في التنوع والاختلاف. فقد يضطهد المرء حد الموت إذا ما لم يتوافق مع صاحب القوة بمزيد من الصفات التي لم يقرر الاتصاف بأي منها وجاءت جميعها متممة لكلمة القدر النافذة فيه، وإن اختارها، هل من حق الآخرين النيل من اختلافه؟ وهل يأتي يوم تستخدم فيه "الأقلية" كمصطلح جغرافي، بدلًا من استخدامها كدلالة استحقاق مكذوب للأغلبية؟
بات لدى العالم ذكاء اصطناعي عنصري، يوظف الأنصع لونًا، ويميز الرجال أولًا، وفي بلاد الصين تنتهك حقوق مسلمي الإيجور، وفي السويداء يعيش الدرزي والسني وكل منهما عينه معلقة بسلاحه، ولبنان الذي يعج بالعنصرية الصامتة ليس بين طوائفه وحسب بل ولاجئيه أيضًا، وكذلك العراق، وفي بلاد الترك لا يحق للكردي أن يتحدث بلغته، وفي أوروبا يُستضعف العربي، ومجازر السودان التي نحرت القلوب في الأيام الأخيرة والتي تبدو أنها محاولة إبادة عرقية، وتجريم الولايات المتحدة لكل من تفوه بمصطلح زنجي، كمحاولة صورية للإصلاح بعدما لاحقت السكان الأصليين وأبادت معظمهم، ولا زال الترقب والفوقية يقودان قطار الألوان والأعراق والأديان والطوائف بل والأنواع.
مهد الشرور قد يكون خوفًا من المجهول!
يولد الإنسان صفحة فارغة، لا يعرف للتمييز سبيلًا، سواء للون أو عرق أو دين أو نوع. فتشير دراسات علم النفس إلى أن الأطفال يدركون الاختلافات العرقية واللغوية في سن مبكرة قد لا يتجاوز الأربعة أعوام، لكن البيئة المحيطة هي التي تشكل الوعي لديهم، بقبول هذا الاختلاف كمصدر للفضول أم الكراهية. فيمكن القول إن العنصرية لا تخضع للجينات، بل هي فعل مكتسب نتيجة وعي يشكله المجتمع، بدءًا من أسرته وبيئته المحيطة وحتى الإعلام، فتتنامى العنصرية شيئًا فشيئًا، لا كفكرة عابرة بل كإرث اجتماعي مقنع يُورث عبر الأجيال لتفضيل كل من هو متشابه ورفض كل من هو مختلف. يقول عالم النفس Gordon Allport في كتابه The Nature of Prejudice إن "الخوف من المجهول هو البذرة الأولى لكل تحيز"، لأن الوعي المحدود يجعل العقل يبحث عن التبسيط: الأبيض ضد الأسود، نحن ضد هم، وهكذا. لكن التبسيط يقتل التعقيد الإنساني ويحول التنوع إلى تهديد، حيث يبدو الرفض لا لشيء سوى الخوف من المجهول. فالإنسان عدو ما يجهل، لا سيما وأن الإنسان القديم كان إذا ما عجز عن تفسير ظاهرة ما نسج حولها الأساطير. فالمهم ليس معرفة حقيقة الآخر سواء شيء أو شخص بقدر ما لديه من فجوة نفسية تجاه كل ما هو مختلف لابد أن تمتلئ، ليمد نفسه بالأمان المعرفي تجاه المجهول، فيوحي إلى نفسه السيطرة على الأمور كلها ومن ثم الشعور بالأمان من خلال التحكم، ومن هذا المنطلق ربما تبلورت العنصرية، وانطلقت الافتراضات نحو "الآخر".
"يولد الإنسان حرًا، ولكنه في كل مكان يُسحب في الأغلال"
تعددت أشكال العنصرية من حولنا وقاربت منافسة شركات التجارة العالمية في تنوعها ورواجها، وربما يصعب حصرها في مقال واحد، وفيما يلي أمثلة منها:
العنصرية الدينية:
يتعرض مسلمو الإيجور وهم أقلية عرقية تركية الأصل يتحدثون الإيجورية في منطقة شينجيانغ الصينية لتمييز ممنهج يشمل الاعتقال الجماعي في ما عرف بـ"مراكز تدريب مهني" يُعتقد أنه احتُجز فيها أكثر من مليون شخص بهدف محو هويتهم الدينية والثقافية وإجبارهم على تبني أيديولوجية الحزب الشيوعي، كما تم هدم بعض المساجد والمقابر، وحظر الشعائر الدينية ومنع ممارسة العادات الإسلامية، واعتقال رجال الدين. وهناك تقارير تخبر عن ممارسات تهدف إلى تقليل معدلات المواليد بين الإيجور بشكل قسري، بما في ذلك التعقيم والإجهاض القسري للنساء، كما تم توثيق حوادث عنف جسدي وجنسي داخل المعسكرات. وبمرور الوقت تحولت البلاد إلى دولة بوليسية تراقب الإيجور.
في عام 2022 أصدر مكتب المفوض السامي لحقوق الإنسان في الأمم المتحدة تقريرًا ذكر فيه أن ما يحدث في شينجيانغ ضد الإيجور يشكل جرائم دولية، ولا سيما جرائم ضد الإنسانية، كما وصفت حكومة الولايات المتحدة وحكومة كندا هذه الممارسات بأنها إبادة جماعية، وتم فرض عقوبات على مسؤولين وكيانات صينية، مثل حظر استيراد جميع السلع المصنعة جزئيًا أو كليًا في إقليم شينجيانغ إلى الولايات المتحدة، ووضع بعض المسؤولين والشركات على القائمة السوداء، وتجميد الأصول وحظر التأشيرات لمنعهم من الدخول إلى الولايات المتحدة. لكن جدير بالذكر أن ذلك لم يغير شيئًا، ولا يزال الوضع على ما هو عليه. وكان هذا مثالًا واحدًا للعنصرية الدينية حول العالم.
وفي نيجيريا، وهي أكبر دولة إفريقية من حيث عدد السكان، وبالتالي تنوع الانتماءات الدينية، تقوم جماعة متطرفة تدعى بوكو حرام بتنفيذ هجمات مسلحة وتفجيرات ضد مدنيين في مناطق ذات أغلبية مسيحية، وتحرق الكنائس والمدارس وتستهدف مسؤولين من الحكومة وأفراد الجيش، وتجبر الأفراد على اعتناق الإسلام بالقوة. قُتل على أيديهم آلاف ونزح آخرون هربًا من الموت، وفي عام 2014 قامت الجماعة بخطف أكثر من 200 طالبة من مدرسة في مدينة شيبوك، ما أثار حملة عالمية تحت هشتاج #BringBackOurGirls. تم تصنيفها كجماعة إرهابية من قبل الأمم المتحدة، وتقاتلها قوات نيجيريا والاتحاد الأفريقي منذ سنوات، لكنها ما زالت نشطة، خاصة في منطقة بحيرة تشاد.
العنصرية العرقية والإثنية:
يقدّر عدد الكرد حول العالم بـ 30–40 مليون نسمة، وهم أكبر مجموعة عرقية في العالم ليس لديها دولة قومية، موزعون جغرافيًا في منطقة عرفت تاريخيًا باسم كردستان، وهي الآن مقسمة بين أربع دول رئيسية: تركيا، التي بها أكبر عدد من الكرد، العراق، ويتمتع الكرد بحكم ذاتي في إقليم كردستان العراق، إيران، وسوريا.
ويعد الصراع التركي الكردي الأطول والأكثر دموية، إذ تسعى تركيا إلى صهر الهوية الكردية، ففرضت قيودًا لغوية وثقافية، حيث لا يُسمح بإطلاق الأسماء الكردية على المواليد، وممنوع أيضًا الحديث بالكردية داخل البلاد، وبالتبعية الإقصاء السياسي وتوجيه تهم الإرهاب، وعزل رؤساء البلديات الكرد المنتخبين وتعيين أوصياء من قبل الحكومة بدلًا منهم بدعوى ارتباطهم بالإرهاب، وحل الأحزاب السياسية، كما تم استبدال الأسماء الكردية التاريخية للقرى في المناطق الكردية بأخرى تركية في محاولة لمحو الذاكرة الجماعية، رغم كونهم عنصرًا أصيلًا في البلاد. هذا بالإضافة إلى الإفراط في استخدام القوة في صراع الدولة مع حزب العمال الكردستاني (PKK)، حيث تتعرض المناطق المأهولة بالأغلبية الكردية لعمليات أمنية واسعة أدت إلى تدمير بنى تحتية ومنازل ونزوح قسري في بعض المناطق، وهو ما أثار انتقادات من قبل منظمة حقوق الإنسان حول استخدام القوة الموجهة ضد المدنيين من الكرد.
جدير بالذكر أن حزب العمال الكردستاني، الذي تأسس على يد عبد الله أوجلان في سبعينيات القرن الماضي، وبدأ ثوريًا يساريًا ثم تحول إلى الكفاح المسلح ضد تركيا كنتيجة للقمع، الآن وبإيعاز من أوجلان القابع في محبسه، بات الحزب باسطًا يديه بالسلام في أكثر من خطوة اتخذها من أجل اندماج وليس انفصال للعنصر الكردي داخل الدولة التركية، إذ أحرق مقاتلو الكريلا التابعون له أسلحتهم بصورة رمزية في مشهد نقلته وكالات الأنباء العالمية، وحل الحزب نفسه، وأخيرًا أعلن عن انسحاب قواته خارج تركيا.
كانت هذه خطوات واضحة وجسورة نحو تغير مسار الكرد ومطالبهم، ونحو إتمام عملية السلام دون شوائب من قبل الكرد. فهل ستهادن تركيا القضية الكردية، وتتعامل بذكاء مع متغيرات ذهبية في القضية، أم أنها ستراوغ مخافة الاعتراف بعنصر لا يقل أهمية عن العنصر التركي؟ فربما لا تزال تركيا تعاني من متلازمة الإمبراطورية العثمانية حيث لا صوت يعلو على صوت كل ما هو عثمانلي.
العنصرية الجندرية:
رغم تعدد معانيها، إلا أن المرأة أخذت فيها دور البطولة. فبحسب تقارير منظمة الصحة العالمية، فإن واحدة من كل ثلاث نساء، أي 33% من النساء حول العالم، تعرضن للعدوان الجسدي بما يشمله من معاناة، وفي تقرير Gender Snapshot 2024 ذكر أن حوالي 1 من كل 4 فتيات في بعض الدول تم تزويجهن قبل بلوغ الثامنة عشرة عامًا، بالإضافة إلى أجو العمل، والتي قد يصل الفرق فيها بين الذكور والإناث إلى النصف، تجنيس المرأة وما يحيط بها دون الرجل، وقضايا الشرف التي تنال من المرأة أيضًا دون الرجل، وحرمان الإناث من الميراث في العديد من القرى والمدن. فبات حصول الأنثى على الحق الشرعي والقانوني في الميراث أمرًا يتم تناوله في مجالس النساء البسيطات مثل النوادر والأساطير.
حري أن يقال إنها ليست عنصرية فردية أو محلية فقط في الشرق، بل ظاهرة منشرة في كل أنحاء العالم، ورغم اتخاذ خطوات من مختلف المؤسسات المعنية، إلا أن التقدم بطئ لحياة دون تمييز ضد المرأة.
عنصرية الخوارزميات:
نال الذكاء الاصطناعي نصيبًا من العنصرية، فالذكاء الاصطناعي يعلم ذاته من خلال ملايين الأمثلة التي يجمعها من البشر، وإذا كانت هذه الأمثلة تحمل تحيزًا تاريخيًا ضد فئة معينة مثل ذوي البشرة السمراء أو النساء أو الأقليات الدينية، فإن الخوارزمية تتعلم هذا التمييز وكأنه قاعدة علمية، مما يعني أن الخوارزميات لا تبتكر العنصرية بل تقلدها بذكاء قد يفوق قدرة الإنسان على إدراك حجمه. حيث تخبرنا دراسة في Journal of Global Health أن أنظمة الذكاء الاصطناعي في الطب تميل لإعطاء أولوية علاجية أقل لذوي البشرة السمراء، وفي الولايات المتحدة الأمريكية يستخدم برنامج Compas لتقييم احتمال عودة المتهم للجريمة، وجد أنه يصنف ذوي البشرة السمراء بنسبة أعلى كمجرمين محتملين مقارنة بذوي البشرة البيضاء رغم تساوي الحالات، كما وجدت خوارزميات شركات كبرى مثل أمازون تستبعد تلقائيًا السير الذاتية للنساء في وظائف البرمجة.
من الجهل إلى الاحتلال:
مع مرور العصور والطفرات المعرفية التي طرأت على البشرية، كان من المتوقع تضاءل الأفكار الارتجالية نحو الآخر المجهول، ومن ثم إطلاق الأحكام عليه، وبالتالي تضاؤل العنصرية. وربما يكون دور المنظمات الدولية من خلال توجيه المؤسسات التعليمية في المقام الأول لتنشئة جيل خالٍ من هذه المحدودية الفكرية، ثم حملات التوعية والتعريف. لكن ما حدث على أرض الواقع ربما يكون مقصودًا من بعض الحكومات ذات المصالح الاستعمارية، بخطة مدروسة للنيل من الشعوب. فإذا بات الاحتلال العسكري old school، فإن الاحتلال الفكري التفريقي ليس كذلك، وهو الحصان الرابح لتلك الدول وقد أثبت فاعليته مؤخرًا.
يعرّف مارك توين الثقافة بأنها كل ما يتعلمه الفرد خارج التعليم الأساسي، وأتفق معه. فإن كانت المؤسسات التعليمية قد أغفلت عمداً أو سهواً زرع مثل هذه البديهيات الأساسية، من تقبل الآخر وتقويض مصطلح "أقليات" ليس كمصطلح جغرافي وإنما كمصطلح ثقافي مجتمعي، فإن من البديهي أيضًا أن رحلة تعلم الإنسان الذاتية لا تنتهي إلا بفنائه، فلا تسقط المسؤولية في المجتمعات التي تضعف فيها الثقافة العامة، إذ يصبح "الآخر" مشروع خطر افتراضي، يتهم قبل أن يعرف ويقصى قبل أن يفهم. لذا يبدو جليًا أن العلاقة عكسية بين الوعي والعنصرية.
وأخيرًا، ربما يولد الإنسان خاليًا من العنصرية، ولا مهارة منه في ذلك، لكن التحدي الحقيقي هو أن يموت خاليًا منها أيضًا.