تتجذّر فكرة الأمة الديمقراطية في أنوثة الحياة ذاتها؛ فالمجتمع لا يُولد من رحم السلطة، بل من رحم المرأة، التي تُمثل الأصل الأول للحرية والمساواة. فأوجلان لا يراها ككائنةٍ هامشية أو تابعٍ للرجل، بل كقوة كونية، هي التي حفظت للوجود توازنه قبل أن يختلّ تحت وطأة الذكورية والهيمنة. ومن هنا، يُصبح تحرير المرأة شرطًا وجوديًا لتحرير المجتمع؛ إذ لا يُمكن لأمةٍ أن تكون ديمقراطية وهي تستعبد نصفها الأكثر إنسانية.
فالمرأة في المشروع الأوجلاني – القلب النابض للأمة الديمقراطية – ليست شعارًا نظريًا، بل هي جوهر الثورة ومركز التحوّل الاجتماعي، لأنها تُمثل الحياة في أنقى صورها، والعقل الجمعي الذي يُوحّد ولا يُقصي، يبني ولا يُخضع. فالأمة الديمقراطية، كما يتصورها أوجلان، هي مجتمع تشاركي تحكمه قيم العدالة والمساواة والتعايش السلمى بين مكونات المجتمع الواحد، تنبثق قيادته من وعي المرأة، لا من سلطة الرجل.
وهكذا تغدو المرأة في فكر أوجلان رمزًا للنهضة الإنسانية الجديدة، ومرآةً تعكس ملامح الحرية المقبلة، حين تستعيد دورها الطبيعي كصانعة للتاريخ وحارسةٍ للكرامة، وكمنبعٍ أول لكل ثورة حقيقية تنشد الخلاص من الاستبداد بكل أشكاله. وهكذا تتحوّل المرأة، في نظر أوجلان، من كائن مقموع إلى جوهر فلسفي للحداثة البديلة، ومن موضوع للنقاش إلى ذاتٍ صانعةٍ للمصير، تُعيد بعقلها وقلبها رسم خريطة العالم على أُسسٍ من العدالة والحرية والتكامل الإنساني.
فحين نتأمل مسيرة التاريخ البشري، نجد أن أولى الحكايات التي سُطّرت لم تكن عن الملوك ولا عن الإمبراطوريات، بل عن المرأة؛ تلك الكائن الذي حمل بذور الحياة، وأنبت معنى الوجود، ثم وجد نفسه أسير قيد صنعته أيادٍ ذكورية أرادت أن تحتكر السلطة والمعرفة والروح. من هنا يبدأ عبد الله أوجلان قراءته فى وضع المرأة في قلب معادلة التحرر، لا باعتبارها نصفاً مهمّشاً أو تابعاً صامتاً، بل باعتبارها الأصل الذي لا قيام للحياة بدونه.
ففي نصوصه، تتحول المرأة من صورة ظلٍّ باهت في هامش التاريخ إلى جوهرٍ مضيء يُعيد صياغة معنى الحرية. فهي، كما يقول، المستعبَدة الأولى، ومع استعبادها وُلدت كل أشكال الهيمنة: القومية، الطبقية، والدينية. وهي أيضاً المحرِّر الأول، لأن تحررها يعني بداية تحرر الإنسان والمجتمع والحياة ذاتها. وقد تأكد هذا من خلال كتابات المفكر أوجلان التى استخلاصنا منها فكرة أن حرية المرأة بالنسبة له تعلو حتى على حرية الوطن أو تساوى حرية المجتمع.
وبهذا المنظور، لا يكتب عن المرأة كقضية اجتماعية معزولة، بل يخطّ ميثاقاً جديداً للإنسانية، يرى فيه أن الثورة النسوية ليست جزءاً من مشروع التحرر، بل هي نواته الصلبة وشرطه الجوهري. ومن هنا تتخذ أفكاره حول علم المرأة – الجينولوجيا، والرئاسة المشتركة والحياة الندية الحرة ، طابعاً فلسفياً وعملياً معاً، يجعل من المرأة بوابة عبور نحو حضارة بديلة: حضارة تقوم على الحرية والمساواة والكرامة الإنسانية.
وهنا نُحاول أن نغوص في عُمق هذه الرؤية، مستعرضين كيف تحولت المرأة في فكر أوجلان من رمزٍ للمعاناة إلى أيقونة للتحرر، وكيف وجدت هذه الأفكار ترجمتها العملية في التجربة الكردية المعاصرة، لتُصبح إلهاماً يتجاوز حدود كردستان إلى فضاءات أوسع في الشرق الأوسط والعالم.
المرأة فى مانيفستو الحضارة
إذ؛ تُعتبر قضية المرأة في الفكر التحرري الكردي إحدى الركائز الجوهرية التي لا يُمكن فصلها عن مسار النضال القومي والاجتماعي معاً. وقد أفرد المفكر أوجلان مساحة كبيرة في المجلد الخامس من مانيفستو الحضارة الديمقراطية – القضية الكردية لمناقشة وضع المرأة، ليس باعتبارها قضية اجتماعية ثانوية، بل باعتبارها الأساس الذي تقوم عليه كل أشكال العبودية والتحرر معاً.
يقول أوجلان: ” إن استعباد المرأة كان البداية لكل أنواع العبودية الأخرى، ومن دون تحررها لا يمكن الحديث عن تحرر أي مجتمع” هذه المقولة تُلخص جوهر فلسفته السياسية، إذ يضع المرأة في مركز مشروعه الحضاري الذي يُسميه “الأمة الديمقراطية”.
وقد طرح المفكر عبد الله أوجلان مفهوم ” الأمة الديمقراطية ” للمرة الأولى لحل القضية الكردية والأزمات المعاشة في الشرق الأوسط عبر مرافعاته عام 2005م، وأوضح أنه مصطلح يعني شكل من أشكال التنظيم المجتمعي، يُنظم الشعب على أساس التعددية والمشاركة الشعبية والإدارة الذاتية، وأيضاً يكون باتحاد شعوب ومجتمعات مختلفة تحت سقف المشاركة والديمقراطية والحرية والعدالة الاجتماعية، ومن خلاله تستطيع المكونات بمختلف انتماءاتها الأثنية والدينية واللغوية أن تعيش في أمة ديمقراطية بعيداً عن انصهار الهوية والتعصبات القومية.
ومن ثم يتبين أن مفهوم الأمة الديمقراطية يُمثل المجتمع المشترك الذي يضم أفراد أحرار بإرادتهم الذاتية، وبتعايش وقوة مشتركة وموحدة، فالأمة الديمقراطية هي الأمة المتعددة الهويات والثقافات والكيانات السياسية، وترتكز على العديد من الأسس وهي الفرد أو المواطن الحر وحياة الكومونة الديمقراطية، والحياة السياسية والاستقلال، والحياة الندية التشاركية، والاستقلال الاقتصادي، والبنية القانونية للأمة الديمقراطية والثقافة، ونظام الدفاع الذاتي وغيرها.
ونحن هنا نُحاول أن نُقدم قراءة تحليلية معمقة لوضع المرأة كما عرضه أوجلان، مع مقارنته بالتجربة العملية للحركة النسوية الكردية، واستدعاء بعض الأبحاث الأكاديمية التي تناولت هذه الظاهرة من زوايا مختلفة. سنرى كيف تتحول المرأة من كونها “المستعبَدة الأولى” إلى أن تُصبح “المحرِّر الأول”، وكيف أن مشروع الأمة الديمقراطية يستمد مشروعيته من هذا التحول الجذري.
من أبرز ما يميز رؤية أوجلان للمرأة هو اعتباره إياها جوهر الحياة، لا مجرد نصف المجتمع أو أداة للإنجاب – وانا اتفق معه تماماً فالمرأة ليست نصف المجمتع بل هى كل المجمتع لأنها مسؤله عن تربيه النصف الأخر، ومن ثم فهى مفتاح الحياة- . فالمرأة، بحسبه، هي الحافظة للروح والمعنى، وهي الضامن لتوازن المجتمع بين المادي والروحي. ويقول في هذا السياق: “المرأة ليست نصف المجتمع فحسب، بل هي روحه ومعناه، وإذا جُرّدت من دورها فقد المجتمع روحه”
هذا التصور يذهب أبعد من الخطاب النسوي التقليدي الذي يُطالب بالمساواة في الحقوق، إذ يُقدم رؤية فلسفية ترى أن المرأة ليست مجرد شريك، بل هي الأصل. فالرجال، كما يشير، قد انشغلوا عبر التاريخ بالصراع والسيطرة والهيمنة، بينما المرأة تمثل القيم الأخلاقية والإنسانية التي تحفظ تماسك المجتمع. ومن هنا فإن أي إقصاء للمرأة أو تقليص لدورها يعني بالضرورة انهياراً أخلاقياً وفقداناً للمعنى.”
تؤكد الباحثة نادية العلى في دراستها حول الحركة النسوية الكردية المعنونة بـ ” نضال المرأة الكردية من أجل المساواة بين الجنسين….” أن هذا الطرح الأوجلاني يتقاطع مع تيارات نسوية راديكالية تعتبر أن استبعاد النساء من المجال العام لم يكن مجرد خطأ تاريخي، بل جريمة بنيوية أدت إلى تشويه الحضارة الإنسانية نفسها . فالمرأة ليست قضية “قطاعية”، بل هي معيار يقاس به مدى إنسانية أي حضارة.
ولعل أوجلان هنا يعيد إنتاج “ميتافيزيقا أنثوية” إن صح التعبير، حيث يضع المرأة في مركز الوجود لا بوصفها تابعاً، بل باعتبارها القوة الخلّاقة للمعنى. وهذا يعكس انتقاله من الماركسية الكلاسيكية التي كانت تركز على العامل الطبقي، إلى فلسفة أكثر شمولاً تدمج البعد الجندري في قلب مشروع التحرر.
ثانياً: تحرير المرأة كشرط لإنقاذ المجتمع
يضع أوجلان شرطاً أساسياً لأي مشروع تحرري: لا يُمكن تحرير المجتمع ما لم تتحرر المرأة أولاً. فهو يعتبر أن استعبادها كان أصل كل أشكال العبودية، وبالتالي فإن تحررها سيكون المدخل الحقيقي للتحرر الجماعي. ومن ثم فإن ” حرية المرأة تعلو حتى على حرية الوطن ” ، لأنها المقياس الأول لصدق أي تحرر، وكذلك لأن بتحرر المرأة سيتحرر المجتمع والوطن، كما أوضح هذا أيضاً فى كتابة المعنون بـ ” كيف نعيش1 – المرأة الكردستانية الحرة “، إذ قال ” إن المرأة الحرة تعنى كردستان حرة”.
هذه المقولة الصادمة في بساطتها تكشف عن إعادة ترتيب الأولويات في مشروع الأمة الديمقراطية. ففي حين تنطلق معظم الحركات القومية من تحرير الوطن أولاً، يضع أوجلان المرأة في المقدمة، معتبراً أن أي حرية وطنه بلا حرية المرأة ستكون ناقصة وزائفة. وهذا الطرح ينسف البنى الفكرية التقليدية التي اعتادت أن تُرجئ قضية المرأة إلى “ما بعد التحرر الوطني”.
يذهب أوجلان أبعد من ذلك حين يربط تحرر الكرد كقومية مضطهدة بتحرر نسائهم. فالمرأة الكردية تعاني من اضطهاد مزدوج: قومي من قبل الدول التي تنكر حقوق الكرد، وذكوري داخل المجتمع نفسه. لذا فإن حل القضية الكردية لا يُمكن أن ينجح إلا إذا ترافقت مع ثورة نسوية تعيد للمرأة مكانتها المستقلة.
تدعم الباحثة نازاند بيجيخانى والباحثة نبرينا فايس، هذا التحليل في دراستهما عن “النساء والحرب في كردستان”، حيث توضح أن النساء الكرديات دفعن ثمن القمع المزدوج، وأن الحركات النسوية الكردية لم تُعتبر مجرد “جناح تابع” للحركة القومية، بل صارت قوة مستقلة تعيد تعريف معنى التحرر ذاته.
إذن، التحرر في رؤية أوجلان ليس مسألة سياسية بحتة تتعلق بالحدود والحقوق القومية، بل هو مسألة بنيوية تمس طبيعة العلاقات الاجتماعية. وبقدر ما تتحرر المرأة من القيد الأبوي، يتحرر المجتمع بأسره من أشكال العبودية الأخرى. ومن هنا نفهم لماذا تحولت مقولته «حرية المرأة تعلو على حرية الوطن» إلى شعار مركزي للحركة النسوية الكردية.
ثالثاً: المرأة والحداثة الرأسمالية – نقد الاستغلال المعاصر
لم يكتف أوجلان بانتقاد المجتمعات التقليدية التي همشت المرأة، بل وجّه نقداً جذرياً إلى الحداثة الرأسمالية التي تدّعي أنها منحتها الحرية. في نظره، لم يكن التحرر الرأسمالي للمرأة سوى حرية شكلية تُخفي وراءها أشكالاً جديدة من الاستغلال. ويقول: «في الرأسمالية تبدو المرأة حرة في المظهر، لكنها في الجوهر سلعة في السوق، مستغلة كقوة عمل رخيصة وكجسد مفرغ من المعنى ، ويُشير إلى أن الحداثة الرأسمالية لا تختزل استغلال الإنسان بوصفه منتجاً فقط، بل تستهدف المرأة بوجه خاص: ” المرأة عاملة رخيصة، بلا أجر المنزل، أو يُعاملن كشيء” . ويوضح أن الرأسمالية تستغل الجسد الأنثوي، من الشعر إلى الصوت، وتحوّل المرأة إلى سلعة في السوق الاستهلاكي.
يرى المشروع أن الدولة القومية المركزية هي مصدر للنزعات والهيمنة وإقصاء المرأة، بينما تقدم “الأمة الديمقراطية” نموذجًا بديلاً قائمًا على التعددية واللامركزية والتعايش المشترك. ويطرح أوجلان فكرة أن «الاقتصاد الحقيقي» هو ذاك الذي يبدأ من المرأة ومن الحياة المجتمعية الحرة وليس من السوق والإنتاج الرأسمالي. يقول: ” إن الاقتصاد وُلد نتيجة ولادة أول عائلات زراعية حول المرأة… لكن التراكم كان للعائلة، ليس للسوق” .
هذا النقد الذى قدمه أوجلان يلتقي مع أطروحات نسوية راديكالية ترى أن الرأسمالية لم تُحطم البنى الأبوية بل أعادت إنتاجها بطرق أكثر نعومة. فالمرأة في النظام الرأسمالي قد تدخل سوق العمل، لكنها تُحاصر بسقف زجاجي يمنعها من المساواة الحقيقية في الأجور والمناصب. كما تتحول إلى أداة تسويقية، حيث يُستغل جسدها في الإعلام والإعلان لترويج ثقافة الاستهلاك.
وتُشير دراسة إيانا فرنانديز ” عن المرأة والجسد والحرب: المقاتلات الكرديات” إلى أن هذا النقد يجد صداه في التجربة الكردية، حيث رأت النساء المقاتلات أن مواجهة داعش لم تكن فقط معركة عسكرية، بل معركة رمزية ضد منطق الرأسمالية الذكورية العالمية التي تستغل أجساد النساء في الحروب والإعلام معاً.
بهذا يُصبح نقد أوجلان للحداثة الرأسمالية جزءاً من رؤيته الأوسع لـ”الأمة الديمقراطية”، التي تُحاول أن تبني نظاماً بديلاً يقوم على التوازن بين القيم الأخلاقية والاحتياجات المادية، وبين المساواة الجندرية والديمقراطية القاعدية. فالحداثة الرأسمالية قدّمت حرية شكلية، لكن الأمة الديمقراطية تسعى إلى تقديم حرية جوهرية.
يُعتبر مفهوم خويبون (أي “أن تكون المرأة لنفسها”) أحد أبرز المفاتيح الفلسفية التي قدّمها أوجلان في قراءته لوضع المرأة. هذا المفهوم يتجاوز خطاب “المساواة” التقليدي، ليؤكد على ضرورة أن تستعيد المرأة ذاتها المستقلة بعيداً عن كل أشكال التملك الذكوري. يقول أوجلان: “على المرأة أن تكون خويبون – أي لنفسها – لا مملوكة لأب أو زوج أو نظام، بل ذاتاً مستقلة تضع قوانينها لحياتها”.
في هذا الطرح، لا تُختزل حرية المرأة في أن تحصل على بعض الحقوق السياسية أو الاقتصادية، بل في أن تعيد تعريف ذاتها وتضع معايير وجودها بنفسها. وهذا يعني أن التحرر لا يكون بمجرد إلغاء بعض القوانين التمييزية، بل بعملية أعمق تعيد تشكيل الوعي الجمعي.
وقد تجسد هذا المفهوم عملياً في تأسيس ما يُعرف بـ “علم المرأة” أو الجينولوجيا، الذي طرحته الحركة النسوية الكردية استلهاماً من أفكار أوجلان. يسعى هذا العلم إلى إعادة كتابة التاريخ والمعرفة من منظور المرأة، بحيث يُستعاد صوتها المغيّب على مدى قرون. وكما تقول الباحثة ديلار ديريك ” حركة المرأة الكردية “ فإن الجينولوجيا ليس مجرد “دراسة أكاديمية”، بل ممارسة سياسية تُعيد تموضع المرأة في قلب مشروع التحرر الكردي.
إن خويبون بهذا المعنى يعبّر عن ثورة معرفية وثقافية، وليست فقط ثورة سياسية. فالمرأة التي تكون “لنفسها” تتحرر من كل التحديدات التي فرضتها السلطة الذكورية، سواء أكانت أسرية أو دينية أو قانونية. إنها تعلن استقلالها الأنطولوجي والمعرفي معاً
يربط أوجلان بين تحرر المرأة وبين المشروعين الكبيرين اللذين شغلا الفكر السياسي الحديث: الاشتراكية والديمقراطية. فهو يرى أن أي مشروع اشتراكي حقيقي أو ديمقراطي أصيل لن ينجح إن لم يضع قضية المرأة في مركزه. يقول: ” لا اشتراكية بلا حرية المرأة، ولا ديمقراطية بلا مشاركتها، فهي التي تُحدد معنى الحرية “. إذ جعلت الاشتراكية المرأة ملحقًا في المعمل، ولم تُحررها من العبودية الأقدم وهى عبودية الرجل لها.
ومن ثم يرى أوجلان فى مشروعه الفكرى ، أن موقع المرأة ليس ملحقاً بالطبقة أو الأمة، بل شرطاً لوجودهما معاً. فالاشتراكية التي تُهمل قضية المرأة ستتحول إلى بيروقراطية ذكورية جديدة، والديمقراطية التي تستبعد النساء ستبقى ناقصة ومزيفة. لذلك، يضع أوجلان حرية المرأة كأساس لمشروعه الحضاري البديل ” الأمة الديمقراطية ” .
ومن ثم، فأن الاشتراكية فشلت في تحقيق المساواة الجندرية لأنها ظلت أسيرة نمط تفكير «ذكوري-سلطوي» مشابه للرأسمالية، رغم اختلاف الشعارات.
لا يقصد أوجلان بالديمقراطية الشكل الليبرالي الغربي، بل يقصد ما يسميه ” الديمقراطية المجتمعية ” أو ” الديمقراطية الأخلاقية-السياسية” ، وهي ركيزة الأمة الديمقراطية. ويرى أن المرأة هي الفاعل الأساسي في المجتمع الديمقراطي، لأن قدرتها على رعاية الحياة وتنظيم المجتمع بشكل تشاركي يُجسد جوهر الديمقراطية.
وكما ذكر أوجلان أن ” المرأة الديمقراطية هي التي تنظّم المجتمع من الأسفل، وتمنع تمركز السلطة في الأعلى”.
وقد أكد على أن مبدأ ” تحرير المرأة هو معيار الديمقراطية” ، فالديمقراطية الحقيقية تُقاس بمقدار ما تناله المرأة من حرية ومشاركة سياسية واقتصادية. لهذا جعل أوجلان تحرير المرأة الركيزة الأولى للأمة الديمقراطية، إلى جانب البيئية والمجتمعية.
واللافت للنظر هنا أن أوجلان يتجاوز التجارب الاشتراكية السابقة التي اعتبرت قضية المرأة “ثانوية”، تُحل تلقائياً بتحقيق العدالة الطبقية. فهو يصر على أن التحرر الطبقي لا يكتمل من دون التحرر الجندري. كما أن التحرر عنده ليس اقتصادياً فقط، بل هو أيضاً تحرر أخلاقي-ثقافي. والاشتراكية الكلاسيكية لم تلتفت إلى ذلك. وفي هذا يقترب من أطروحات نسوية ماركسية جديدة ترى أن قمع النساء ليس مجرد انعكاس للعلاقات الطبقية، بل هو بنية قائمة بذاتها يجب مواجهتها بشكل مباشر .
سادساً: المرأة في التجربة الكردية المعاصرة
لم تظل أفكار أوجلان حول المرأة حبراً على ورق، بل وجدت طريقها إلى التطبيق العملي عبر الحركة النسوية الكردية. أبرز تجليات ذلك هو تأسيس وحدات حماية المرأة (YPJ)، التي لعبت دوراً محورياً في مقاومة تنظيم داعش في سوريا. وتُعد تلك الوحدات إحدى أبرز التجليات لمشاركة المرأة الفاعلة في الصراع والدفاع الذاتي ، وهذه المشاركة ليست رمزية فقط، بل متجذّرة في تصور بأن تحرّر المرأة يستلزم القدرة على الدفاع عن نفسها، سواء اجتماعياً أو عسكرياً.
وقد تحولت صورة المقاتلة الكردية إلى رمز عالمي للتحرر النسوي، حيث انتشرت صورهن في الإعلام الغربي باعتبارهن ” أيقونات المقاومة “. لكن هذه الظاهرة لم تكن مجرد بروباغندا، بل انعكاس لرؤية فلسفية ترى أن مشاركة المرأة في المقاومة ليست استثناءً، بل قاعدة. يقول أوجلان: ” إن وجود النساء في صفوف المقاومة المسلحة والتنظيم المجتمعي ليس ترفاً، بل هو الشرط لكي لا تنحرف الثورة عن مسارها” .
إلى جانب ذلك، تبنّت الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا مبدأ “الرئاسة المشتركة”، بحيث يتولى رجل وامرأة معاً كل منصب قيادي. هذه التجربة غير المسبوقة في المنطقة جسّدت عملياً مبدأ المساواة الجندرية، ومنحت النساء دوراً فاعلاً في صنع القرار السياسي. ولعل أبرز النجاحات التي تحققت في إطار “الإدارة الذاتية” أيضاً هو تحقيق التعايش القائم على ضمان حقوق الأقليات الثقافية والدينية، والتي عبَّرت عنها العديد من الاستحقاقات الانتخابية القائمة على التمثيل المباشر
تٌشير دراسةLucian-Andrei Despa (2022) التى تحمل عنوان ” المرأة الكردية عوامل التغيير في النضال من أجل الهوية والمساواة والتحرر ” إلى أن هذه التجربة مثلت “ثورة اجتماعية صامتة”، إذ أعادت صياغة العلاقة بين الجنسين ليس فقط في المجال السياسي، بل في الحياة اليومية، حيث أصبحت المرأة شريكاً أساسياً في الإدارة والمجتمع.
سابعاً: بين النص والواقع – التحديات والقيود
رغم العمق النظري الذي يقدمه أوجلان، ورغم النجاحات العملية للحركة النسوية الكردية، فإن الواقع يفرض تحديات كثيرة. فالمجتمع الكردي – مثل غيره من مجتمعات الشرق الأوسط – ما زال يحمل إرثاً ثقيلاً من التقاليد الأبوية التي تُقيد النساء وتُضعف مشاركتهن.
ويُؤكد المفكر عبدالله أوجلان هذه الصعوبات عندما أوضح ” أن تحرير المرأة ليس عملية سهلة، فهو صراع ضد آلاف السنين من الذكورية، لكن من دونه لن يكون هناك مجتمع حر”. هذه الجملة تكشف عن إدراك عميق بأن الثورة النسوية ليست مجرد معركة قانونية أو سياسية، بل هي مواجهة طويلة مع ثقافة متجذرة في البنى الاجتماعية والذهنية.
من أبرز التحديات التي تواجه النساء الكرديات:
ومع ذلك، يرى كثير من الباحثين أن مجرد إدخال هذه المبادئ إلى الحياة السياسية والاجتماعية الكردية يُعتبر خطوة ثورية. فقد كتبت نازاند بيجيخانى أن التحدي الأكبر أمام النساء الكرديات ليس فقط مقاومة التقاليد الذكورية، بل تحويل الوعي الجمعي باتجاه قبول المرأة كفاعل مستقل ومؤثر في مجالات السياسة والمجتمع والثقافة.
ثامناً: المرأة كفاعل إقليمي وعالمي
لم تتوقف تجربة المرأة الكردية عند حدود الجغرافيا المحلية، بل تحولت إلى نموذج مُلهم، ألهم نساء في المنطقة والعالم. فقد أصبح الحديث عن “المقاتلة الكردية” رمزاً للتحرر، وأثار نقاشاً واسعاً في الأوساط النسوية العالمية حول معنى الحرية والمشاركة.
ويؤكد أوجلان على هذا ويقول : ” تحرر المرأة الكردية سيكون الشرارة التي توقد تحرر نساء الشرق الأوسط كله” . في هذه العبارة يضع رؤية استراتيجية ترى أن المرأة الكردية ليست فقط محرِّرة لشعبها، بل طليعة لتحرر شعوب المنطقة.
لقد ألهمت تجربة الكرديات حركات نسوية عربية وأممية، حيث رأت أن الثورة النسوية لا يمكن أن تقتصر على المطالبة بالحقوق الشكلية، بل يجب أن ترتبط بمشروع تحرري شامل يعيد بناء المجتمع من جذوره. وهنا يتلاقى الفكر الأوجلاني مع الحركات النسوية العالمية التي ترى أن التحرر لا ينفصل عن العدالة الاجتماعية والاقتصادية والبيئية.
وقد أشارت بعض الدراسات إلى أن صورة المرأة الكردية كمقاتلة ضد داعش كسرت الصورة النمطية عن “المرأة الشرقية الضعيفة”، وقدمت للعالم نموذجاً مختلفاً للمرأة القوية التي تصوغ مصيرها بيدها. وبذلك أصبح للمرأة الكردية بُعد رمزي أقليمى وعالمي، يتجاوز حدود المعركة المحلية.
وهكذا تتجلى صورة المرأة فى فكر عبدالله أوجلان، لا كظل للرجل، ولا ككائن على هامش الحياة ، بل كنبض يبعث فى المجتمع روح الحرية والتجديد فهى ميزان العدالة ومفتاح التحول . إن مشروع الأمة الديمقراطية لا يقوم على سلطة أو هيمنة، بل على توازن روحى وفكرى يُعيد للمرأة مكانتها التى سُلبت منها عبر قرون من الزمن . فالمرأة فى جوهر المشروع ليست قضية اجتماعية ، بل هى مشروع حياة جديدة وحضارة تُولد من رحم المساواة والاحترام المتبادل. إنها ركيزة الأمة الديمقراطية، ومن دونها يفقد الوجود الإنسانى معناه الأسمى ، وكأن أوجلان يقول لنا ” حين تنهض المرأة ينهض معها العالم بأسره ، وحين تتحرر ، تفتح أمام الإنسانية أبواب فجرٍ جديد” .
وكما كانت المستعبَدة الأولى كانت أيضاً المحرِّرة الأولى التى بانتصارها ينهار صرح العبودية الذي بناه التاريخ على عاتقها. ومن هنا تُصبح مقولة: «حرية المرأة تعلو على حرية الوطن» ليس جملةً للتأمل، بل صرخةً تُعلن أن لا وطن بلا نساء حرائر، ولا مستقبل بلا ثورة أنثوية تُعيد للإنسانية توازنها. وأن تلك المقولة ليست شعاراً عاطفياً، بل قاعدة فلسفية وسياسية تختصر مشروعه بأسره. فالمجتمع الذي يحرر نساءه يحرر نفسه، والمرأة التي تتحرر تُحرر معها الوطن والإنسانية جمعاء.
ولذلك، فإن الحديث عن المرأة في مشروع ” الأمة الديمقراطية ” ليس خاتمةً بقدر ما هو بداية لرحلة طويلة نحو حضارة بديلة، تقف فيها المرأة لا في الصفوف الخلفية، بل في طليعة المشهد، تقود بخطواتها الواثقة درب الإنسانية نحو غدٍ أعدل وأكثر إشراقاً.
ومن ثم، يتبين لنا أن المرأة، في الفكر الأوجلانى، ليست الهامش الذي يُمكن أن يُضاف إلى متن التاريخ، بل هي النصّ ذاته؛ هي السطر الأول في كتاب الحياة، والنبض الذي يمنح المجتمع روحه، والصوت الذي يُعيد للإنسان إنسانيته. وفي التجربة الكردية، رأينا كيف تحولت الفكرة إلى فعل، وكيف خرجت المرأة من ظلال البيت لتقف في خنادق المقاومة، تحمل السلاح باليد اليمنى وتحمل مشروع الحياة باليد اليسرى. لم تكن مقاتلة فقط، بل كانت رمزاً يبدّد صورة “المرأة الضحية” ويقدّم للعالم صورة “المرأة الطليعية”، التي تصوغ مصيرها بيدها. وقد جسدت الحركة النسوية الكردية هذه الأفكار في وحدات حماية المرأة، وفي نظام الرئاسة المشتركة، وفي بناء مؤسسات مجتمعية تضع النساء في موقع القيادة. ورغم التحديات الكثيرة، أثبتت هذه التجربة أن مشروع الأمة الديمقراطية ليس مجرد تنظير، بل رؤية قابلة للتطبيق.
ومن هنا، يغدو تحرر المرأة فى الرؤية الأوجلانية فعلاً وجودياً، لا مجرد مطلبٍ نسويّ أو سياسيّ. إنه ثورة على البنية الذكورية التي شوّهت العلاقة بين الإنسان والطبيعة، بين السلطة والمجتمع، وبين الحب والحياة. ففي وعي المرأة بذاتها تكمن بداية الوعي الإنساني الحقيقي، لأن من يعرف قيمة المرأة يعرف جوهر الحرية.
....... نقلاً عن مركز آتون للدراسات
فضاءات الفكر
فضاءات الفكر