بث تجريبي

خديجة كمال تكتب: فخري فرواتي ... صوت ينعش ذاكرة الفن الرفيع ويشعل في المستمع  شغفا جديدا

لست من صناع  النقد الموسيقي، ولا من أهل المقامات الذين يزنون النغمة بميزان دقيق، ولا من دارسي الموسيقى الذين يتتبعون المسافات الصوتية بما يشبه علم الهندسة الرفيعة. كل ما أملكه هو أذن صادقة، أذن أخلصت للغناء الجميل حتى صارت قادرة على التمييز بين صوت عابر وصوت ولد ليبقى.

قد يتساءل البعض: ما الذي يجعل هذا الصوت مختلفا عن سواه؟

الجواب يكمن في أثره الساحر، في تلك القدرة الخفية التي تحول كل نغمة إلى عالم  قائم بذاته، عالم يملك قوانينه وسحره وتاريخه وانا هنا لا أدون نقدا ، بل أشارك لحظة استمتاع تتلاقى فيها الأغنية مع الوجدان، فينبثق من الأعماق صوت لا يرى، يحمل في طياته ولمعانه مزيج القديم والحديث، ويرد للأغنية بهاءها المفقود في أبهى صورها  ويطير بها على أجنحة الحنين إلى زمن أخذ يتوارى تدريجيا للأسف.

صوت لا يكتفي بالغناء، بل يعيش الأغنية حتى يتماهى معها، فتذوب المسافة بينه وبين الكلمات ، تتسلل القصيدة إلى نبضه سطرا سطرا وحرفا بحرف ،فتنعكس على ملامحه وخلجات جسده، حتى لا تكاد تفرق  بين الرجل والحرف، بين الصوت والقصيدة، لا يخون الأغنية في إشراقتها، ولا يسقط منها همسة. يمتلك كاريزما تتحدث قبل صوته، فتفرض حضورها عليك وتستدرجك إلى عالم الكبار، فلا تجد أمامك إلا  الإصغاء طائعا مأخوذا على غير عادة ويصبح المستمع و كأنه جزء من لحظة الغناء فلا سبيل له إلا ان ينصت.

إنه الأثر… ذلك الوقع الغامض الذي يتركه في النفس حين يتحول  اللحن بين يديه إلى كون مستقل ، له بوابته، وطقسه وزمنه، وروحه، وتاريخه.

لحظة استمتاع تتجافى عن كل ما هو تقني، لحظة يتصاعد فيها الغناء من أعماق غير مرئية، يحمل فيها فخري فرواتي نبرته من عطر الزمن القديم، ويعيد للأغنية هيبتها الأولى، ويعيد المستمع إلى تلك الحقبة التي كانت الأغنية فيها طقسا من طقوس الروح، لا مجرد متعة عابرة بل كأي فن من الفنون الذي يغدي الروح.

فخري فرواتي لا يغنّي فحسب انه يحل الأغنية بطريقته يتمازج معها حتى يذوب وجوده في كلماتها، وتذوب كلماتها في أنفاسه فتغدو القصيدة مرآة لنبرته، وتغدو نبرته امتدادا للقصيدة، ترى معاني الشعر تتسلل إلى وجهه، إلى حركة يده، إلى التفاتة رأسه، إلى آهة تشي بسر داخلي لا يقال لكنه يعرفه لوحده ، فتشعر أن الصوت ليس أداء بل حضور كامل، احتشاد روحي يجعل المستمع جزءا من الطقس الغنائي، لا يمكنه إلا الإصغاء وقد أُخذ من يده إلى عالم آخر دون ان يشعر.

من حلب إلى المغرب… رحلة رجل يحمل وطنا في صدره

فخري فرواتي، المحامي والموهوب، ابن سوريا العريقة وحلب روح الشام حيث العراقة والتنوع والحكاية العظيمة التي تحتضن التاريخ بين أزقتها الحجرية وأسقفها الموشاة بذكريات القرون وكبار الشعراء ، حلب التي يُحسب الزمن فيها بالإنشاد والموشحات، لا بالسنوات، خرج من أرض تحفظ صدى الشعراء، وتخبئ في حجارتها ألف حكاية من التاريخ، ليشق طريقه نحو المغرب، حاملا معه عبق الأرض الأولى، ورائحة الحارات التي صاغت وجدانه، وصل المملكة  المغربية فسحرته الدار البيضاء بجوها الرقيق بين البحر والنسيم. فتحت له القلوب أبوابها دون مقدمات، فانسابت روحه في شوارعها حتى صار جزءا من هوائها. استقر فيها ما يزيد عن خمسة وعشرين سنة دون كلل او ملل فأحبه المغاربة والرفاق ، حتى غدا مغربيا بالروح كما هو سوري بالدم، ورافقه ابنه الفنان نور فرواتي، خريج «ستار أكاديمي»، ليكتمل بهاء الحضور وهكذا اجتمع في قلبه ياسمين الشام وهواء الدار البيضاء، وتزاوج الحنين السوري مع السحر  المغربي فصار فخري جسرا حيا بين حضارتين، يحمل من الأولى تاريخها الساحر، ومن الثانية بهاءها المتجدد ليجمع بين أصالة الأمس وعظمة اليوم.

إنبثاق الصوت من نافذة "تيك توك" المفاجأة المدهشة

 

  "أبو نور" تحت هدا الإسم طل فخري فرواتي  على فئة عريضة تبحث عن ظاهرة فنية راقية طربية، لم يكن الجمهور يعرفه إلا حين ظهر بمحض الصدفة  عبر منصة “تيك توك” ، لكن الصدفة هنا لم تكن حدثا عابرا، بل قدرا موسيقيا ينتظر فقط لحظته ليشرق ، فحين انطلق صوته، بدا كأنه يخرج من فجوة من الزمان ، كأنه صوت استيقظ من سبات طويل ليذكر الناس بما كاد ان يضيع واستطاع ان يسرق الأضواء بصوته الذي يجمع بين الرقة والقوة ،تمتزج فيه العذوبة والمهابة واللطف ،ليغرق المستمعين في بحر من الاحاسيس الجياشة وتنهال عليه تعاليق الإعجاب والثناء من كل حدب وصوب وكان الكلمات أصبحت رسائلا من الماضي تتناثر مجددا و تأخد مكانها المُستحق ، استطاع ان يحيي إرثا فنيا عظيما ،ويعيد آثار عمالقة الفن الذين صنعوا مجد الموسيقى العربية ،أعاد للأذهان الق الأصوات التي أسرت الأجيال السابقة ليطوف بهم في رحلة ينعش فيها ذاكرة الفن الرفيع ويشعل في المستمع  شغفا جديدا.

صوته يجمع في طبقاته بين رهافة البحر وقوة الجبال، بين الليونة التي تأسر ،يسكب في أذن المستمع موجة من الانفعال ويعيد إليه حنينا إلى زمن العمالقة… زمن عبد الحليم وفريد وأم كلثوم ووردة وفيروز ومحمد قنديل ومكاوي والشيخ إمام…صوت يجعل الذاكرة تنهض وتتزيّن من جديد.

 

بديهة لغوية ونَفَسٌ متعدد اللهجات

 

لم يقف إبداع فخري عند عتبة الطرب المشرقي، بل تجاوزها إلى آفاق أوسع،فقد أتقن اللهجة المغربية إتقانا  يثير الدهشة حتى بدت كأنها لهجة ولادته مما أثار دهشة المغاربة  وهو إنجاز ليس بالسهل على اخواننا المشارقة غالبا لما في اللهجة المغربية من خصوصيات ونبرة وصعوبة على الغير، فغنى لعبد الوهاب الدكالي وعبد الهادي بلخياط وغيرهما من أعمدة الفن المغربي، كما لامس ألوانا تونسية، وذهب أبعد من ذلك إلى الغناء باللغة التركية و أثبت أن صوته قادر على أن يكون جسرا لغويا وثقافيا، يعبر بين اللهجات والمدارس الموسيقية دون أن يفقد هويته.

 

التنقل بين المَحَطّات الفنيّة الكبرى

 

تنقل فخري بين أعظم مقاطع الأغاني العربية بسلاسة كرحالة بين العوالم الصوتية الخالدة وادى نخبة من روائع الطرب الأصيل تتجاور فيه الأغنية مع غيرها وكأنه يستدع الذاكرة لتنبض مجددا في الحاضر ،دون ان تكون الأغاني والقصائد السابقة مجرد تكرار ،بل بعث للمقامات وإحياء للشعر على طريقته الخاصة.

''سيرة الحب'' لسيدة الطرب أم كلثوم  بمقامها العظيم كما لم يُعَد إلى الحياة من قبل فعندما أعاد غناءها أبان عن  قدرته بانه  يعرف كيف يحترف النص واللحن دون أن يُضيع بصمته الخاصة،وانساب في المقام  بعمق واتزان، أعاد تشكيل الحنان المتدفق في قصيدة مرسي جميل ومنحها روحا خاصة مع إبراز لافت لزخاريفه الصوتية التي تمنح المقام رونقا يخصه وحده ، حافظ على دقة الوقفات، وعلى توازن النغمة، وعلى أمانة اللحن البليغي الذي حمل في الأصل عبقرية بليغ حمدي، وفي الوقت ذاته أضاف تلك اللمسة الشخصية التي تبث في الأغنية روحا جديدة دون الإخلال بقدسيتها، فغدت ذاكرة الطرب على يديه كحديقة يعاد ريّها، لتستعيد أوراقها خضرة لا تزول  “عِشْ أنت” لفريد الاطرش  الامتحان الذي لا ينجو منه إلا الكبار.

هنا، نصل إلى واحدة من أعقد نقاط عبور أي مطرب: فريد الأطرش ، إن أداء فريد ليس مجرد موسيقى، بل مدرسة كاملة تتشابك فيها الحنجرة مع عاطفة لا حدود لها، وتتعانق فيها المقامات مع حزن نبيل لا يشبه أي حزن آخر فهي  قصيدة الشاعر بشارة الخوري و ليست أغنية بالمعنى التقليدي، بل قطعة فلسفية وإنسانية تفيض بالألم النبيل وحين يغنيها فريد ويعيدها فخري، يلتقط جوهرها الحزين: فكرة أن التضحية ليست دائما بطولة، بل قد تكون جرحا يترك أثره في الروح ، يؤديها  بنبرة تحمل ظلال المدرسة الأطرشية دون أن تتحول إلى تقليد، فيجعل المستمع يشعر بأن الألم يعاد صياغته لا تكراره ويعيد إحياء الحس الفريد الذي جعل من فريد الأطرش ظاهرة صعبة المحاكاة: المد الطويل، الانتقال الرفيق، التلوين اللحني، رهافة الشجن، والقدرة على جعل الجملة الموسيقية محملة بعاطفة صادقة وجب التنويه بها، وهذا وحده يضع فخري في دائرة الأصوات القليلة التي تجرؤ على الاقتراب من إرث بهذا الحجم، وتنجح وكأن طبقاته الصوتية خرائط عاطفية تعيد ترتيب الوجدان كما يشاء الفن الحقيقي.

« من غير ليه »… مدرسة عبد الوهاب في الوقفة والانطلاقة ، فهي من الأعمال التي لا يدخلها صوت إلا وامتحنته امتحانا عسيرا ، فعبد  الوهاب وألحانه تحتاج صوتا يعرف متى يقف، ومتى ينطلق وهنا يظهر ذكاء فخري مع موهبته ، تجده يمد العبارة ويحافظ على هيبة اللحن كأنه يتعامل مع أثر مقدس ، يتنقل بين المسافات العريضة للحن بحذر ووعي و يوازن بين جلالة المدرسة الوهابية وروحه الشخصية ، وكأن الأغنية في صوته تستعيد مهابتها الأولى، تلك الهالة التي عرفناها في أداء الأساتذة.

 

فخري فرواتي… حارس الذاكرة

 

لقد تحوّلت إعادة أدائه لهذه الأعمال وغيرها إلى جسر بين زمنين: زمن كان فيه الغناء مساحة للتأمل، وزمن يسعى فيه المستمع إلى استعادة شيء من نقاء الأمس وسط ضجيج الحداث.

إعاداته ليست تقليدا في اكثر من مرة ، بل بعث جديد، إعادة اكتشاف لروح الأغنية، تليين حوافها، وتهذيب شعورها، وتقديمها لجمهور اليوم بروح تحترم الأصل ولا تغادر.

 

الرحلة القادمة … إلى مصر

 

يستعد الفنان المبدع فخري فرواتي لزيارة مصر قريبا، زيارة يغلب عليها شوق قديم، ليخطو على أرض  ما زالت جدرانها تحفظ أنفاس عبد الحليم حافظ،  وتراتيل أم كلثوم، وعبقرية عبد الوهاب، وفرادة فريد الأطرش هؤلاء العباقرة الذين صاغوا وجدان العُرب لحنا ولغة وصوتا خالدا.

يريد أن يتجول في رحاب الحسين، وأن يجلس في مقهى الفيشاوي حيت تمتزج القهوة بروح التاريخ، وأن يمشي بين الأزقة التي ما زال إبداع العظماء يتردد فيها همسا، ليس كعابر سبيل، بل كوريث روحي للفن الأصيل، ينهل من منابع الجمال الأول، ويواصل خطى من سبقوه عبر حضارة عمرها أكثر من سبعة آلاف سنة، وكأن رحلته المنتظرة ليست مجرد سفر، بل عودة إلى قلب النبع الأول حيث تولد الموسيقى من رحم الحضارات.

وهكذا، يقف فخري فرواتي اليوم في مفترق يجتمع فيه الماضي بالحاضر، صوتٌ يحمل ذاكرة الأوطان وعبق المدارس الكبرى التي صنعت وجدان العرب، ويعيد بثبات وصدق ما كاد الزمن يُخفيه تحت غبار السرعة والتفاهة والفن الهابط او الهزيل  ، وليكون كشاهد على مرحلة، وحارس لبوابة  طالما عبر منها السحر، ووريث لأمانة ثقيلة لا ينهض بها إلا من عرف أن الفن ليس مهنة، بل عهد مع الجمال.

صوته لا يستعيد ما اندثر فحسب، بل يُذكرنا بما كنا عليه قبل أن تتبدل الأذواق، ويعيد إلينا ملامح زمن كان فيه الفن بابا لسلام  الروح، لا نافذة عابرة على المتعة. إنه بحق  صوت يوقظ الذاكرة لا ليتكئ عليها، بل ليقودها نحو أفق جديد ينصهر فيه الحنين مع الأمل، وتتجاور فيه العراقة مع الحضور، وتغدو الأغنية معه رحلة تتسع لكل من يملك قلبا يُصغي.

ولعل رحلته القادمة إلى مصر ليست إلا خطوة جديدة في مسار رجل يعرف تماما أن الطريق إلى الخلود يبدأ بصوت صادق، وأن الأنفاس التي تحمل أثر العظماء لا بد أن تبلغ يوما أرضهم، لتكتمل الحكاية ويستقيم المعنى.

فخري فرواتي… ليس صوتا يعيد مجد الأغنية فحسب، بل فصل جديد في كتاب الطرب العربي، فصلٌ كتب بمداد الوفاء للطرب الأصيل، ولابد ان صداه سينتشر يوما بطريقة أوسع ما دام الناس يبحثون عن أغنية تُنصت إليهم بقدر ما يُنصتون إليها ويحنون إلى الماضي الطربي العريق طالما الحاضر لم يرق بعد لما نتمنى وننتظر.

 

 

 

 

 

قد يهمك