بث تجريبي

د. دينا شحاتة تكتب: دلالات صعود زهران ممداني في السياسة الأمريكية

من قوانين الطبيعة والسياسة على السواء، أن لكل فعل رد فعل مساوٍ في المقدار ومعاكس في الاتجاه. وإذا كان انتخاب دونالد ترامب عام 2024 قد مثل لحظة صعود لتيار يميني شعبوي يدعو الي القومية الاقتصادية، ومحاربة الهجرة والجريمة، واستعادة "هيبة الدولة" من منظور النخب البيضاء المحافظة المتحالفة مع رأس المال الكبير والإعلام اليميني، فإن صعود زهران ممداني في المشهد السياسي لمدينة نيويورك يجسد الوجه الآخر لهذه المعادلة: يسار مديني تقدمي شاب، عابر للعرق والهوية، يرى في العدالة الاجتماعية، والحق في السكن والخدمات العامة، وحماية حقوق المهاجرين والعمال، مدخلاً لإعادة تعريف العقد الاجتماعي في المدن الأمريكية.

بين هذين القطبين تتجسد معادلة الصراع داخل الولايات المتحدة المعاصرة: شد وجذب بين نخب راسخة فقدت أدواتها التقليدية وتحالفاتها القديمة، وأخرى صاعدة تبحث عن شرعية جديدة، وبين جيل أكبر يخشى التنوع وفقدان المكانة، وجيل أصغر يسعى إلى استعادة الحقوق والكرامة في سلطة واقتصاد يزداد انحيازاً للأغنياء. من هذه الزاوية، لا يبدو السباق على عمودية نيويورك حدثاً محلياً محدوداً، بل فصلاً جديداً في صراعٍ اجتماعي–ثقافي–سياسي يعبر عن تحولات أعمق في بنية المجتمع الأمريكي.

خلفية الصعود ومسار التشكل

زهران كوامي ممداني ينتمي إلى الجيل الجديد من السياسيين التقدميين الذين ولدوا في بيئة عالمية الهوية. ولد في كمبالا – أوغندا لعائلة مسلمة هندية الأصل، وهاجر إلى نيويورك في طفولته، حيث نشأ وتعلم في مدارسها العامة قبل أن يدرس الدراسات الأفريقية في جامعة بودوين. يمثل هذا المسار الشخصي المزيج النموذجي بين الهجرة، والتعليم العام، والانخراط المدني الذي صاغ هوية الجيل الجديد من اليسار الأمريكي.

بدأ ممداني مسيرته السياسية عام 2020 حين فاز بمقعد الجمعية التشريعية لولاية نيويورك عن منطقة أستوريا–كوينز، في انتخابات أطاحت بنائب تقليدي من المؤسسة الحزبية. استند فوزه إلى حملة قاعدية نظمها متطوعون شباب بدعم من "الاشتراكيين الديمقراطيين في أمريكا"، وتركزت أجندته على قضايا السكن، والعدالة الجنائية، والملكية العامة للخدمات. بعد إعادة انتخابه مرتين، انتقل إلى سباق العمودية عام 2025 مستنداً إلى خطاب يربط تكلفة المعيشة اليومية بأسس العدالة الاجتماعية، رافعاً شعار "مدينة يمكن للجميع تحمل تكاليف المعيشة فيها".

البرنامج والسياسات

تقوم أجندة زهران ممداني على مفهوم "العيش الميسور" الذي يربط بين الحق في السكن والمواصلات والرعاية الاجتماعية باعتبارها حقوقاً مدنية أساسية لا امتيازات اقتصادية. وتنطلق هذه الرؤية من قناعة بأن ازدهار المدينة مرهون بقدرة سكانها على تحمل تكاليف الحياة اليومية دون أن يفقدوا كرامتهم أو أمنهم الاقتصادي. ومن هذا المنطلق، طرح ممداني برنامجاً متكاملاً يقوم على خمسة محاور رئيسية متداخلة: ففي مجال السكن، دعا إلى تجميد زيادات الإيجار للمستأجرين الخاضعين للتنظيم، مع توسيع نطاق الإسكان الميسور من خلال تحويل بعض الأراضي العامة إلى مشروعات سكنية غير ربحية تدار بشفافية لصالح السكان. وعلى صعيد النقل، يقترح تدريج مجانية الحافلات في شبكة النقل العام دعماً لمبدأ العدالة المكانية وتقليل الانبعاثات الكربونية. كما يشمل برنامجه توفير دور رعاية أطفال عامة بهدف تخفيف الأعباء المالية عن الأسر العاملة، إلى جانب إطلاق متاجر بقالة بلدية تتيح سلعاً أساسية بأسعار منخفضة في الأحياء الفقيرة لمواجهة التضخم وارتفاع أسعار السلع الاساسية. وأخيراً، يقترح ممداني تمويل هذه البرامج عبر ضرائب تصاعدية على أصحاب الدخول العليا والشركات الكبرى، ساعياً إلى إعادة توزيع أكثر عدالة للموارد يوازن بين النمو الاقتصادي والاستقرار الاجتماعي

ورغم الانتقادات التي تتحدث عن ارتفاع تكلفة هذه المبادرات، فإن ممداني يقدمها كخطة استثمار في رأس المال الاجتماعي للمدينة، معتبراً أن "العيش الميسور ليس كماليات اشتراكية، بل شرطاً لبقاء نيويورك مدينة للجميع".

القوى الاجتماعية الداعمة لممداني

تعكس حملة ممداني تحولاً في البنية الطبقية والسياسية للمدن الأمريكية الكبرى. فقاعدته الانتخابية تتكون أساساً من المستأجرين، وموظفي قطاع الخدمات، والعاملين في اقتصاد التطبيقات وتوصيل الوجبات مثل اوبر ودور داش وغيرها، إلى جانب المهاجرين من الجيلين الثاني والثالث الذين يرون في حملته امتداداً لتجاربهم المعيشية.

في قلب هذا التحالف، يقف جيل شاب نشأ في ظل أزمات الإسكان، وتدهور التعليم العام، وارتفاع الديون الجامعية. هؤلاء وجدوا في ممداني نموذجاً سياسياً يعكس لغتهم وتطلعاتهم، لا سيما أنه يجسد التنوع الثقافي والعرقي للمدينة. وقد ساهم هذا الائتلاف في بناء ماكينة تعبئة حديثة تعتمد على التمويل الصغير، والتطوع الرقمي، وتنظيم الحملات عبر شبكات التواصل بدل الآلة الحزبية التقليدية.

في المقابل، تميل الشرائح الأكبر سناً وملاك العقارات إلى الخطاب المحافظ الذي يتحدث عن "الاستقرار والأمن وضبط الإنفاق"، ما يجعل المشهد الانتخابي مرآة للفجوة الجيلية والاجتماعية التي تتسع في الولايات المتحدة.

الخصوم وتحالفات النخب التقليدية

واجه ممداني معسكراً واسعاً ضم الوسط الديمقراطي والجمهوريين المحافظين على حد سواء. مثل أندرو كومو، الحاكم السابق، التيار الوسطي المتحالف مع المصالح الاقتصادية الكبرى وجماعات التطوير العقاري. وقد التف حوله ناخبون من الطبقة الوسطى العليا وملاك العقارات، الذين يتخوفون من سياسات الضرائب وتوسع الإنفاق العام. أما الجمهوري كيرتِس سليوا، فعبر عن كتلة "القانون والنظام" المدعومة من اتحادات الشرطة وبعض الأحياء الإثنية المحافظة في بروكلين وستاتن آيلاند.

وركز خصوم ممداني على ربط برنامجه بتهديد مزدوج: مالي (عجز الميزانية) وأمني (تراخي الشرطة وارتفاع مستويات الجريمة)، مستفيدين من الخطاب الإعلامي اليميني الذي يقدم اليسار التقدمي بوصفه خطراً على "القيم الأمريكية". غير أن هذه الحملات بدت عاجزة عن تفكيك تحالف الشباب والمهاجرين والمستأجرين الذي شكل قاعدة ممداني الأساسية.

موقع ممداني داخل الحزب الديمقراطي

تُظهر مواقف قيادات الحزب الديمقراطي توازناً دقيقاً بين الترحيب الحذر والاحتواء المؤسسي. فالرئيس الأسبق باراك أوباما اتصل بممداني بعد فوزه في الانتخابات التمهيدية وأشاد بقدراته القيادية، لكنه تجنب إعلان دعم رسمي علني له، منعاً لاستفزاز الجناح الوسطي. أما تشاك شومر ونانسي بيلوسي فاختارا التزام الصمت النسبي مكتفيين بدعوات عامة لتوحيد الصفوف، بينما أبدت شخصيات تقدمية مثل ألكساندريا أوكاسيو-كورتيز وبرني ساندرز دعماً قوياً وصريحاً لحملته.

هذا الانقسام عكس هشاشة التوازن الداخلي في الحزب الديمقراطي بين جناح وسطي مهيمن حريص على الواقعية الاقتصادية وجناح تقدمي يسعى لإعادة تعريف أولويات الحكم. ويمكن القول إن موقف النخبة الديمقراطية تجاه ممداني يجسد سياسة الاحتضان المشروط :دعم الطاقة التعبوية التي يمثلها، مع السعي لضبطها داخل حدود الممكن سياسياً.

اليمين الجمهوري وتكريس الاستقطاب

من جانبه، وجد اليمين الجمهوري في صعود ممداني فرصة لتعبئة قواعده. فترامب وصفه بـ "الشيوعي"، وهدد بحجب التمويل الفدرالي عن نيويورك إذا فاز، داعياً ناخبيه إلى دعم كومو باعتباره "الحصن الأخير ضد الفوضى اليسارية". ورافقت تلك التصريحات حملة إعلامية منظمة ركزت على أن برامج ممداني "ستفلس المدينة" وتحولها إلى "سان فرانسيسكو جديدة".

في المقابل، وظّف ممداني هذا الهجوم لصالحه، مقدماً نفسه كرمز للمقاومة المحلية ضد "ابتزاز" المركز الفدرالي، مؤكداً أن تهديدات ترامب غير دستورية وأن مدناً كبرى مثل شيكاغو وبوسطن نجحت في تطبيق سياسات مشابهة دون انهيار مالي. وهكذا تحول السباق البلدي إلى ساحة مواجهة رمزية بين رؤيتين للولايات المتحدة: رؤية تعددية تشاركية يسعى ممداني إلى تكريسها، ورؤية محافظة هرمية تسعى لإعادة عقارب الساعة إلى الوراء.

التداعيات المحتملة على حكم نيويورك

إن فوز ممداني سيعيد توجيه أولويات الحكم المحلي نحو العدالة المعيشية باعتبارها معيار الأداء الأول. فملفات السكن والنقل والرعاية العامة ستتقدم على أجندة الأمن والاستثمار، ما سيضعه في مواجهة مباشرة مع القوى المالية والإدارية في المدينة. غير أن تطبيق سياساته سيحتاج إلى تسويات واقعية مع مجلس المدينة ومع سلطات الولاية، خاصة فيما يتعلق بتمويل النقل والإسكان. وسيكون نجاحه مرهوناً بقدرته على تحقيق نتائج ملموسة دون الإخلال بالاستقرار المالي. فإذا نجح في خفض كلفة المعيشة وتحسين الخدمات دون زيادة العجز، فسوف تتحول تجربته إلى نموذجٍ يحتذى في مدن أخرى، أما إذا تعثر، فسوف تقدم تجربته كدليل على محدودية اليسار المحلي في إدارة الحكم.

أثر الصعود على الاستقطاب الأمريكي

على المستوى الوطني، سينظر لفوز ممداني كترسيخ لتقدم تيار اليسار التقدمي داخل الحزب الديمقراطي. وقد يشكل ذلك ضغطاً متزايداً على قيادات الحزب لاعتماد خطاب أكثر جرأة في قضايا العدالة الاجتماعية والمناخية. في المقابل، سيستغل فوزه من قبل الجمهوريين كذريعة للتحذير من "اشتراكية المدن الزرقاء" التي تهدد الاقتصاد الأمريكي. وبهذا المعنى، فإن صعود ممداني لا يعبر فقط عن حيوية السياسة المحلية، بل عن إعادة توزيع النفوذ داخل الحزب الديمقراطي بين نخب قديمة وأخرى صاعدة.

ومن المرجح أن يفاقم فوز ممداني حدة الاستقطاب في المجتمع الأمريكي. فالإعلام اليميني سيقدم نيويورك تحت قيادته بوصفها نموذجاً "للفوضى اليسارية"، بينما سيرى فيها اليسار التقدمي "مدينة المستقبل". وستتسع الهوة الثقافية بين المدن الكبرى الليبرالية والولايات المحافظة، وهو اتجاه راسخ منذ سنوات.

عملياً، سيظهر هذا الاستقطاب في ثلاثة مستويات مترابطة: أولها، صدام مؤسسي بين المدينة والحكومة الفدرالية حول ملفات التمويل والهجرة والشرطة. وثانيها، تصعيد إعلامي وشعبوي يرسخ الانقسام المجتمعي بين "أمريكتين" متقابلتين الأولى تعددية تقدمية والثانية بيضاء محافظة. وأخيراً، اختبار للأداء التنفيذي، إذ سيستخدم نجاح أو فشل ممداني معياراً لتقييم اليسار التقدمي في الحكم.

خلاصة واستنتاجات

على ضوء ذلك، يمثل صعود زهران ممداني لحظة فارقة في تطور السياسة الأمريكية. فهو لا يجسد مجرد مرشح تقدمي من أصول مهاجرة، بل يعبر عن تحول هيكلي في المجتمع الأمريكي، حيث تتقدم قوى شابة متعددة الخلفيات لتملأ الفراغ الذي خلفته النخب التقليدية. وإذا كان ترامب قد عبر عن "أمريكا المسيحية البيضاء" التي تخشى التعددية، فإن ممداني يجسد "أمريكا الجديدة" التي تبحث عن التعدد وعدالة اجتماعية واقتصادية أكثر شمولاً.

في النهاية، تكمن دلالة تجربته في قدرتها على تحويل الخطاب الحقوقي حول العدالة والمساواة إلى سياسات واقعية قابلة للتطبيق. فإن نجح، فقد يعيد رسم الحدود بين الممكن والمستحيل في السياسة الأمريكية، وإن أخفق، فسيبقى علامة على مرحلة تشهد فيها الولايات المتحدة تحولات سياسية واجتماعية كبرى.

--------

د. دينا شحاتة
رئيس وحدة الدراسات المصرية - مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

نقلاً عن:

موقع مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

قد يهمك