مع دخول الشرق الأوسط في آتون موجةٍ عاتية من التحول السياسي، باتت العديد من دول المنطقة في حاجةٍ ماسةٍ لمُقاربة غير تقليدية لإدارة العلاقة بين الأنظمة السياسية الحاكمة من جهة، وكافة مكونات المجتمع بمختلف تنوعاتها العرقية والدينية والثقافية من جهة أخرى. ولما كانت هذه الأزمات تدور في فلك المقاربات القومية "الأحادية" التي اعتمدتها على مدار العقود الأخيرة، فقد باتت الحاجةُ مُلِحَّة لمقاربةٍ جديدةٍ تتجاوز النهج السلطوي Authoritarian الذي جعل الدول– غاية لذاتها – تعلو المجتمع بغض النظر عن تبعاته المستقبلية. ولعل أبرز هذه التبعات هو سياسات الصهر التي تمت ممارستها في إطار المشروعات القومية التي عاشتها دول الشرق الأوسط على مدار العقود الستة الأخيرة ما بين "تعريب"، و"تتريك"، و"تفريس" دون مراعاة الخصائص المتمايزة لما عدا الجماعات المهيمنة في هذه المجتمعات. وفي آتون التحول الذي تعيشه المنطقة ينشغل الفضاء العام بجدلٍ مُستَعِر حول أنسب المقاربات التي تفرضها الظروف الراهنة بعد فشل السياسات كرست "التذويب" و"الصهر الثقافي" Melting بدلا من الاندماج الذي كانت شعوب المنطقة تتوق إليه فيما بعد الاستعمار.
الاندماج الديمقراطي في مواجهة الصهر والتذويب الثقافي
الاندماج الديمقراطي Democratic Integration هو أحد من الركائز الأساسية لبناء مجتمعات مستقرة ومتقدمة، لكونه يُسهم في توحيد مكوّنات المجتمع المختلفة ضمن إطار من الانتماء المشترك والهوية الوطنية الجامعة. وفي قلب التعدد الذي يميز شعوب الشرق الأوسط، بات مطلب تحقيق الاندماج الديمقراطي يمثل أحد التحديات التي تتطلب سياسات واعية وجهودًا مستدامة تعزز قيم التعايش والمواطنة المتساوية. الأمر الذي يعني الحاجة لفهمٍ أعمق لمفهوم الاندماج الديمقراطي، وأبعاده، والعوامل التي تدعمه أو تعيقه.
والاندماج الديمقراطي يختلف عن "الصهر" الذي يتم فيه تذويب الهويات الثقافية أو اللغويات أو الدينية للأقليات في هوية الأغلبية في حين ينطوي الاندماج على عملية تشاركية وتوافقية تهدف إلى دمج مختلف مكونات المجتمع في إطار وطني ديمقراطي مع الاعتراف بتعددها واحترام خصوصيتها. وفي حين يفقد الأفراد هويتهم الأصلية خلال الصهر أو الذوبان؛ حيث يطلب منهم تبني لغة وثقافة ودين أو قيم الأغلبية في إطار ضغوط ثقافية أو سياسية أو اجتماعية، نجد الاندماج الديمقراطي يحفظ لكافة المكونات هويتهم الثقافية حيث يتم التفاعل ضمن إطار مشترك؛ دستور، قانون، لغة رسمية ومؤسسات ترعى لك وكرسه بما يعزز مفهوم المواطنة ويكرس الانتماء الوطني دون إنكار للتعدد. بعبارة أخرى، يتمثل الهدف الأسمى للاندماج الديمقراطي في تأكيد وحدة وتماسك مكونات المجتمع دون تذويب هوياتهم في مقابل تآكل الهويات الفرعية لصالح هوية واحدة مهيمنة تكرِّس سياسات الصهر والتذويب.
الشرق الأوسط تاريخ من الصهر والتذويب
لقد تأسَّست أغلب دول الشرق الأوسط خلال النصف الأول من القرن العشرين في إطار حدودٍ رُسِمَت بإرادة القوى الاستعمارية. ورغم الشكل الحداثي الذي اتخذته دول المنطقة فيما بعد الاستعمار، إلا أن أقوى ركائز هذه الدول قد تشكَّلت في إطار الهويات القبلية والطائفية، والدينية والعرقية تحت مِظَلٍّة قوميةٍ أحاطت فلسفة الحكم التي تبنَّتها النخب الحاكمة سواء كانت ملكية أو جمهورية. ولذلك حاولت الدولة "الأسيرة" لمدركات هذه النخب صَهْر الجميع في هويةٍ واحدة؛ غالبا ما كانت هوية الأغلبية المهيمنة Hegemon. ولهذا تجسَّدت هذه المدركات في فرض مشروعات هوية قومية واحدة متمايزة شكلًا ومتشابهًة مضمونًا. ففي العراق وسوريا والجزائر وليبيا وغيرها هيمنت القومية العربية، وفي تركيا كانت القومية التركية، بينما كان الفارسية في إيران. وبشكلٍ عام، تجاهلت هذه المشرعات بداية الهويات الفرعية مثل الأكراد، والأمازيغ، والدروز، والشيعة ...إلخ، واعتبرتها خطرًا يجب احتواؤه أو إضعافه. وكأمثلةٍ دالة ومؤدة على ذلك، يمكن الإشارة إلى توجهات حزبَي البعث في سوريا والعراق، حيث فُرِضَت القومية العربية على حساب الأكراد والتركمان والآشوريين وغيرهم، إذ كانت سياسات الاندماج المزعومة شكلية تحكمها الأجهزة الأمنية لا المشاركة السياسية. وفي تركيا – كمثالٍ لا يختلف عما سبق – حاولت الدولة لعقود طويلة فرض الهوية التركية ومحو الهويات الكردية والأرمينية واليونانية، إذ حدد الدستور الأول لتركيا بعد الاستقلال الهوية التركية على اعتبار أن كل من يعيش على الأراضي التركية أتراك. وبطبيعة الحال، لم تكن الحالة الفارسية في إيران استثناءً حيث تم تهميش البلوش والأكراد والعرب والسنة من خلال سياسات حرمت لسنوات طويلة عليهم الكثير من أشكال التعبير الثقافي لديهم كاللغة والفن والأدب...إلخ.
الاندماج كبديل ديمقراطي
في مقابل سياسات الصهر والتذويب التي عاشتها شعوب الشرق الأوسط، يبرز الاندماج الديمقراطي كبديلٍ يفرض نفسه لتخليص المنطقة من سيل الأزمات المتجذرة في عمق البنية السوسيو-سياسية لمجتمعات الشرق الأوسط، كونه يضمن دمج الأفراد والجماعات في النظام السياسي والمجتمعي على أساسٍ ديمقراطي، أي من خلال المشاركة الفعلية، والحقوق المتساوية في التعبير والتنظيم والتعليم والعمل، والاعتراف بالتنوع ضمن إطار ديمقراطي تعددي قائم على احترام الاختلاف الثقافي والديني واللغوي في ظل عقد اجتماعي (دستور) موحد.
وقد حظي الاندماج الديمقراطي باهتمامِ العديد من المُنَظِّرين مثل يورغن هابرماس Jürgen Habermas الذي طرح مفهومَ المواطنة الدستورية كوسيلةٍ للاندماج الديمقراطي القائم على العقلانية الحوارية، وويل كيملكا Will Kymlicka الذي ركز على الاندماج المتعددة ثقافيا ضمن أطر ديمقراطية، وكذل نانسي فريزر Nancy Fraser وغيرهم. لكن يبقى الإسهام الذي قدمه عبدا لله أوجالان أكثر اتساعا؛ حيث يؤسِّس أوجالان لمنظور جديد لـ "الدمج الديمقراطي" يتجاوز فيه الأرضية القومية الحداثية التي انطلق منها هابرماس وزملاؤه متخذًا من التشاركية قيمة أعلى في إدارة المجتمع والانتقال من فلسفة "السلطة" إلى فلسفة "الإدارة التشاركية" الهادفة لتحقيق العدل والتنوع داخل المجتمع، لا عبر الانفصال، بل عبر تفكيك بِنَى السلطة المركزية وإعادة توزيعها. لقد رفض أوجالان الدولة القومية كأداةٍ سلطوية واعتبرها نموذج استعماريًا حديثا يقوم على فرض لغة واحدة وهوية واحدة وتاريخ واحد يعتمد على إقصاء المجتمعات المحلية المتنوعة ثقافية.
الاندماج الديمقراطي كشرط للسلام
في معرض نقده لسياسات الصهر والتذويب يُفرّق بوضوح بين "الدمج الديمقراطي" و"الذوبان"، حيث فهو يدعو إلى اندماج الأكراد في الحياة السياسية والاجتماعية للدولة التركية من موقع الندية والمساواة، لا من موقع الخضوع أو المسخ الثقافي، بما يعني أن التعددية الثقافية تعد مصدر غِنَى، بل إن نظامًا ديمقراطيًا حقيقيًا لا يمكن أن يقوم بدون الاعتراف بالهوية الكردية ومشاركتها الفعلية في الحكم. ولهذا يعد أوجالان أنه من غير المتصور الوصول إلى حلٍ سلميٍ للقضية الكردية دون تحقيق الاندماج الديمقراطي، فلا مجال لنجاح أية عملية سلام بدون الديمقراطية والاعتراف المتبادل باعتبارهما الطريق الحتمي لإنهاء الصراع المسلح بين الدولة التركية وحزب العمال الكردستاني.
بجانب ذلك، فنظرا إلى الخلفيات التاريخية والبنى السوسيو-سياسية التي تتشابه فيها تركيا مع غيرها من دول الشرق الأوسط، حتى أن الأزمة المنتشرة فيما بينها، تجعل من نهج "الدمج الديمقراطي" غير قاصر على الحالة التركية دون غيرها. وهو ما يؤكد عليه أوجالان في مؤلفه الموسوعي الذي يحمل عنوان رئيسيا "مانيفيستو الحضارة الديمقراطية"، والذي يقوم فيه بتشريح الشرق الأوسط تاريخيا وسوسيولوجيا، وصولًا إلى الوقوف على المتشابهات بين قضايا وأزماته الرئيسية. ولهذا، يخلص أوجلان إلى إمكانية تعميم "الدمج الديمقراطي" كنموذج حتمي وشرط أصيل لخروج الشرق الأوسط من أزماته سواء على مستوى القضية الكردية أو القضية الفلسطينية أو إشكاليات الطائفة الدرزية وغيرها. هنا يمكن الإشارة إلى نموذج "الإدارة الذاتية" في شمال وشرق سوريا كنموذج تجسدت فيه فلسفة "الاندماج الديمقراطي" من خلال مجالس ومكونات متعددة إثنيًا ودينيًا.
بعبارة أخرى، يمثل مفهوم الاندماج الديمقراطي لدى عبد الله أوجالان يمثل تحولًا استراتيجيًا من النزعة القومية الصلبة إلى مشروع سياسي يهدف إلى إعادة صياغة الدولة والمجتمع على أسس تعددية، لا مركزية، وحقوقية. وهو يحاول أن يعيد تعريف العلاقة بين الكرد والدولة ليس على أساس الصراع والصدام، بل على أساس المشاركة والاعتراف، أي أنه يرتكز على عدد المحاور التي يعتبرها أوجالان شرطا لتوفير غطاء عام للتشاركية ومن هذه المحاور يمكن الإشارة لما يلي:
ما سبق يعني أن الاندماج الديمقراطي على أساس الديمقراطية الجذرية Radical democracy التي تركز على فكرة الكونفدرالية الديمقراطية، أي بناء سلطة من الأسفل إلى الأعلى من خلال المجالس الشعبية دون الحاجة إلى السيطرة عل الدولة القومية. بعبارة أكثر تحديدا، فإن الاندماج الديمقراطي يعني تحقيق العدالة السياسية والثقافية لكافة مكونات المجتمع من خلال مؤسسات ديمقراطية محلية وليس من خلال الاندماج في الدولة القومية ذاتها.
تحديات الاندماج الديمقراطي في الشرق الأوسط
رغم وجاهة الطرح الذي يقدمه أوجالان في مقاربته للاندماج الوطني، كونه يقدم بديلا مثاليا وواقعايا في الوقت ذاته، إلا أن السؤال الذي يفرض نفسه دوما هو؛ إلى أي مدى يتواءم هذا "الاندماج الديمقراطي" مع واقع الشرق الأوسط بقضايا وأزماته المركبة؟!.
وللإجابة على هذا التساؤل بالقدر المستطاع من الموضوعية، يتعين القول بأن الواقع المتأزم الذي يعيشه الشرق الأوسط، يفرض عددا من التحديات التي تواجه هذا الطرح الاندماجي الديمقراطي في صورته المناقضة للصهر الثقافي المتجذر في بنية شعوب المنطقة ومجتمعاتها، ويمكن الإشارة لبعض من هذه العوامل على النحو التالي:
أولا. السلطة المركزية القوية التي تهيمن على منظومة الحكم في معظم دول الشرق الأوسط حتى أضحت تلك المركزية متلازمة سياسية وخصيصة ثقافية وهو ما يفسر السياسات الإقصائية المصاحبة للتاريخ السياسي لهذه الدول، بل ومقاومة أي شكل من أشكال اللامركزية كما تفعل السلطة الحالية في سوريا حينما تعتبر أن المساس بمركز الدوية "خطًا أحمر".
ثانيا. رغم أن الديمقراطية تستخدم كمصطلحٍ شائع في الخطاب الرسمي والسياسي، إلا أن كثيرًا من المجتمعات في المنطقة لا تمارسها فعليًا، سواء على مستوى الدولة أو حتى داخل مؤسسات المجتمع المدني. فالثقافة السياسية في أجزاء واسعة من الشرق الأوسط لا تزال تتأثر بالبُنى التقليدية مثل القبلية، والطائفية، والولاء الشخصي، مما يعيق بناء نموذج أفقي قائم على المشاركة المجتمعية الحرة. وفي ظل غياب مؤسسات مستقلة، وتدني مستويات التعليم السياسي، وقمع الحريات العامة، يصبح من الصعب زرع وتطوير نموذج ديمقراطي قاعدي كما يتصوره أوجالان.
ثالثا. الصراعات الإثنية والطائفية؛ فالتنوع الثقافي والإثني والديني، الذي يفترض أن يكون مصدر قوة وغنى للمجتمع، غالبًا ما يتم استغلاله في سياقات الشرق الأوسط كأداة صراع وتفتيت، حيث تستخدم القوى السياسية الهويات الفرعية Primordial Identities كوسيلة تعبئة أو تحشيدMobilizing، بما يُفاقم التوترات بين الجماعات المختلفة، ويُضعف فرص التلاقي أو الاندماج. بجانب ذلك، كثيراً ما يتم توظيف ورقة الطائفية والتنوعات الإثنية في العديد من الصراعات السياسية العابرة للحدود، فهناك مثلا الصراع الدائر بين المغرب والجزائر، حيث تدعم الأخيرة جبهة البوليساريو في مساعيها الانفصالية عن المغرب، في حين تدعم المملكة الغربية للمعارضة الأمازيغية في الخارج، كما أن فرنسا ذاتها تدعم ما يعرف بـ "حكومة المنفى" التي يقودها الناشط الأمازيغي فرحات مهني، والحال نفسه بالنسبة للتوظيف الإسرائيلي لورقة "الطائفة الدرزية" كجزءٍ من استراتيجيتها تجاه محيطها الإقليمي في سوريا ولبنان. وبالتالي، ففي مثل هذه البيئة المتأزمة، يصبح من الصعب إقناع الفاعلين الاجتماعيين والسياسيين بأن النموذج التعددي الذي يقترحه أوجالان يمكن أن يشكل بديلاً سلمياً ومتكاملاً. بل إن هذه الجماعات، نتيجة لما مرت به من اضطهاد أو توظيف سياسي لهويتها، قد تطالب بالانفصال أو بالاستقلال بدلًا من الاندماج التعددي.
رابعا. رفضٌ خارجيٌ وداخلي؛ فرغم النجاح الذي حققتها تجربة الإدارة الذاتي في شمال وشرق سوريا، إلا أن نموذجا لامركزيا قادرا على الصمود في وجه التحديات المتلاطمة في الشرق الأوسط، يبدو كتحدٍ جاد لفلسفة الدولة القومية التي تصارع من أجل بقاءها في المنطقة وحول العالم، ولعل في ذلك ما يفسر العداء المستعر من جانب تركيا – وإيران أيضا – ضد تجربة الإدارة الذاتية، ليس لكونها وثيقة الصلة بالقضية الكردية فحسب، بل خوفا من عدوى وانتشار هذا النموذج اللامركزي.
فرص ومقومات داعمة لنموذج الاندماج الديمقراطي
رغم التحديات التي تكتظ بها البيئة الإقليمية في الشرق الأوسط، أمام نموذج "الاندماج الديمقراطي"، لكن ذلك لا يعني إمكانية نجاح هذا النموذج الذي ينبع أساسا من عُمْق تاريخ المنطقة، لاسيما وأن الدولة القومية بالأساس تعبر عن نموذجٍ "وافدٍ" أو "مستوردٍ" من خارج المنطقة؛ أي أنها منتج غربي بالأساس، الأمر الذي يمهد الطريق لتخلل الاندماج الديمقراطي لمساحات اجتماعية وسياسية أكبر بمرور الوقت، وهو ما يعززه عدد من المعطيات السوسيولوجية الأصيلة ببيئة الشرق الأوسط وذلك على النحو التالي:
أولا. ملاءمة التنوع الثقافي والإثني والديني؛ فالشرق الأوسط يُعد من أكثر مناطق العالم تنوعًا من حيث الأعراق والديانات والمذاهب، ويكاد لا توجد دولة في الإقليم تخلو من مكونات فرعية تطمح إلى الاعتراف والمشاركة الفاعلة. وفي هذا السياق، فإن ما يميز نموذج أوجالان هو أنه لا يسعى إلى صهر هذا التنوع في قالب موحّد أو فرض هوية فوقية، كما تفعل الدولة القومية من خلال مقارباتها التقليدية، بل يقوم على الاعتراف بالتعدد وتفعيله ضمن إطار تنظيمي مرن، يُعطي لكل جماعة الحق في التعبير عن خصوصيتها الثقافية والدينية والسياسية، ضمن منظومة تشاركية لا تلغي الآخر. بما يعني أن هذا الطرح يتوافق بشكل كبير مع الواقع الفسيفسائي للمنطقة، مما يجعله أكثر قابلية للتقبل من قِبل الشعوب، إذا ما أتيحت له الفرصة.
ثانيا. القابلية للتطبيق على المستوى المحلي، فرغم التحديات الكبيرة على مستوى الدولة، أظهرت لتجارب محلية، مثل تجربة "روج آفا" في شمال وشرق سوريا، أن نموذج الاندماج الديمقراطي قابل للتطبيق فعليًا، لا سيما على المستوى المجتمعي المحلي. فالمجالس الشعبية، ولجان الحي، والهيئات التنظيمية التي شُكلت في هذه المناطق نجحت – نسبيًا – في تنظيم الحياة الاجتماعية والسياسية بشكل لا مركزي، قائم على المشاركة الواسعة من مختلف المكونات، بما في ذلك النساء والمجموعات المهمشة. وفي حين أن هذه التجربة قد لا تكون مثالية نتيجة لما يعوقها من تحديات إقليمية، لكنها أثبتت أن وجود إرادة مجتمعية ومناخ أمني يسمح بالتنظيم الذاتي، يمكن أن يفتح المجال لتطبيق مفاهيم أوجالان بطريقة عملية.
ثالثا. تجاوز الاستقطاب القومي والديني؛ ففي منطقةٍ مأزومةٍ بالصراعات الطائفية والقومية، يشكّل نموذج الاندماج الديمقراطي رؤية تتجاوز هذا الانقسام الحاد عبر التركيز على القيم المشتركة والمصلحة المجتمعية بدلًا من الخطابات القومية أو الطائفية الضيقة. هنا يرى أوجالان الصراع الحقيقي ليس بين الأعراق أو الأديان، بل بين نخب السلطة والمجتمعات المحرومة من المشاركة. وعلى هذا، يُمكن لنموذج الاندماج الديمقراطي أن يُسهم في خلق مساحات مشتركة للحوار والعمل بين مكونات كانت في حالة تصادم دائم، الأمر الذي يدفعها لترسيخ ثقافة التعايش وتقليل احتمالات الانفجار المجتمعي التي كشفت عنها الثورات التي اجتاحت المنطقة خلال العقد الأخير.
بجانب ما سبق، فإن نموذج "الاندماج الديمقراطي" يتجاوز المقاربات التقليدية، حينما يتجاوز الاستقطاب القومي والديني، الأمر الذي يجعله قادرا على تشكيل مخرج من العديد من الصراعات المذهبية والقومية في حال توفر بيئة سياسية مناسبة.
الاندماج الديمقراطي: من خيار بديل إلى ضرورة تاريخية
أخيرًا، رُغم أن الطريق أمام تطبيق نموذج الاندماج الديمقراطي، كما يطرحه عبد الله أوجالان، لا يخلو من العوائق البنيوية والسياسية – بدءًا من البُنى المركزية الصلبة، وصولًا إلى هشاشة الثقافة الديمقراطية – إلا أن جملةً من المقومات الموضوعية في الواقع الشرق أوسطي تمنح هذا النموذج ما يكفي من الواقعية والجدارة بالتجربة. في منطقة تتسم بتنوع إثني وديني عميق، وبمستوى مرتفع من الصراع والتهميش، يقدّم الاندماج الديمقراطي خريطة طريق عقلانية وسلمية لإدارة التعدد بعيدًا عن مقاربات "الصهر" القسري التي سادت لعقود تحت غطاء الدولة القومية المركزية. ولعل في الخصائص البنيوية الداعمة لهذا النموذج في مجتمعات الشرق الأوسط، ما يدفعنا للقول بأنه ليس مجرد تصور نظري، بل مشروع يمكن تجسيده ميدانيًا حين تتوفر إرادة مجتمعية منظمة وحيز سياسي يسمح بالتنظيم الذاتي. الأهم من ذلك، أن تجربة مثل "الإدارة الذاتية" في شمال وشرق سوريا من شأنها أن تفتح الباب أمام تصور جديد للهوية والانتماء، لا يقوم على محو الفوارق أو فرض الانسجام القسري، بل على الاعتراف بها وتدبيرها ديمقراطيًا ضمن إطار مشترك. وهذا ما يجعل الاندماج الديمقراطي ليس فقط خيارًا ممكنًا، بل حتميًا في ظل انسداد أفق الدولة المركزية التقليدية وفشل سياساتها الإقصائية في إنتاج استقرار دائم أو عدالة اجتماعية حقيقية.
........ نقلاً عن مجلة الأمة الديمقراطية
من زوايا العالم
منبر الرأي
أصداء المرأة
منبر الرأي
منبر الرأي
منبر الرأي