يعرف السوريون قبل غيرهم أن حكم بلدهم وإدارتها، خصوصًا في هذه المرحلة، ليس أمرًا سهلًا وليس نزهة. كما يعلمون أن من يتبوّأ سدّة الحكم عليه تحمّل أعباءً جسام، لكنهم في الوقت نفسه لا يملكون رفاهية الانتظار ريثما تجرّب الإدارة الحالية وتتدرّب وتتعلم، (ويا عالِم هل ستنجح أم ستخفق؟). كما لا يريدون تكرار تجربة إدلب وتعميمها على كلّ سوريا، فهذا بالنسبة لهم ضربُ مُحال لا يمكنهم قبوله، فسوريا لا يمكن أن تكون معزولة كإدلب أو تحت رحمة تركيا أو سيطرتها المطلقة، فهذا يضرّ بسيادة البلد ومصالح شعبها، ولا يمكن للسوريين أن يقبلوا العيش تحت الهيمنة الخارجية مهما كانت.
واليوم وبعد تسعة أشهر يُفترض أن الحكومة الانتقالية وعت وأدركت حجم المسؤولية الجسيمة الملقاة على عاتقها، والحِمل الذي ورّطت نفسها بتحمّله، وإن قيادة البلد وإدارتها سياسيًا ودبلوماسيًا واقتصاديًا تتطلب الكثير من العمل، والدقيق من المهارات، والعظيم من القدرات، والكبير من الإمكانات، وإن خبرات تجربة حكم إدلب لا تفي بمعايير حكم سوريا، وإن إرضاء وتطمين القوى السورية المختلفة ليس مِنّة تُوهب، ولا رفاهية تُمنح، ولا نافلة يمكن إغفالها أو الاستغناء عنها، وليس مجرد شعار ترفعه الحكومة دون أن تترجمه على أرض الواقع. بل هو واجب وضرورة لإدارة المرحلة والعبور بالبلد إلى سبل السلام وإلى برّ الاستقرار.
وبغض النظر عن أداء الحكومة الانتقالية الكارثي داخليًا، حيث أصوات الشكوى تعلو يومًا بعد يوم، ليس في عموم سوريا؛ بل في المناطق التي تضم الحاضنة الشعبية لمؤيدي السلطة الحالية، كذلك تتسع حالة الانقسام المجتمعي وتترسخ بعد أحداث الساحل والسويداء، وحرب الاستنزاف المندلعة بين أحياء مدينة حلب وعلى ضفتي الفرات، خصوصًا عند سد تشرين ومحيطه.. فإن أداء الحكومة الخارجي أيضًا لا يقل كارثية بل يزيد. ومع أن الانفتاح الدولي والإقليمي على دمشق كان لافتًا ومنقطع النظير، وكل الدول المهتمة بسوريا رحبت بهذه الحكومة، وقدمت لها كل ما تحتاجه من دعم وتأييد ووعود بالتعاون، إلا أن ذلك ينحسر اليوم شيئًا فشيئًا، فالدعم يتناقص، والتأييد يتلاشى، والوعود بدأ التملص منها.
ومع أن البعض مرتاح للتعاون مع تركيا والسعودية والأردن، إلا أن ذلك لا يُغني عن تعاون ووفاق الحكومة الانتقالية مع بقية القوى المحلية الداخلية؛ بل هو الأولوية، ولا يمكن للدعم الدولي أن يستمر مع حالة التشرذم والاقتتال الداخلي الذي يندلع بين الفينة والأخرى هنا وهناك. كما لا يمكن للدعم الخارجي الاستمرار، خصوصًا إنْ تم توجيهُه لدعم الاحتراب المحلي. علاوةً على إن الحكومة لا تملك رفاهية خوض مزيد من الصراعات الداخلية، لأن مواردها بالأساس لا تفي بأقل القليل من احتياجات مسؤولياتها الخدمية، أو تأمين أبسط مقومات الحياة للمواطنين الذين مازال اعتمادهم الأساسي على حياة التقشف التي يحُييها هو تحويلات ذويهم في المُغترب، وعلى ما يعود به العائدون من دول اللجوء، وهؤلاء مازالوا أقلية لا تُذكر، ومازال ما يحملونه من أموال لا تكفي لإنهاض بلد “مسوّاة بالأرض”.
إن لعبة “سلاك لايننغ” التي تلعبها الحكومة اليوم، أو سياسة المشي على الحبل التي تنتهجها تهدد بخسارة كل مكتسبات الثامن من كانون الأول. كما تهدد بالسقوط في هاوية الفشل، وتضييع فرصة ذهبية لإعادة بناء الدولة على الأسس التي ناضل السوريون لأجلها طيلة أربعة عشر عامًا، وضحّوا لأجلها بأغلى ما يملكون من أرواح وأرزاق، ويمكن الاستغناء عن المغامرة والمقامرة، والعودة للسراط المستقيم طريقًا، وإلى السهل الممتنع أسلوبًا ومنهجًا.
واليوم لا أحد يتكلم إلا عن الأخطاء سواء من الموالاة أو المعارضة، فإلى متى؟ المشي في حقل ألغام ليس لعبة أو مهارة.. إنه مقامرة ثمنها الحياة نفسها، وليس هناك عاقل تسوّل له نفسه هذا المسير، ولا يمكن لأصوات العقل أن تسكت، وهي ترى البلد أمام العين تسقط في الهاوية. إنها ليست ترِكة أو هِبة أو ملك يمين الحكومة، إنها بلد لها شعب يخاف عليها ويدافع عنها سواء ضد الطامعين فيها، أو ضد من يجرّها للخراب أو الضياع.
... نقلاً عن صحيفة روناهي
من زوايا العالم
منبر الرأي
أصداء المرأة
منبر الرأي
منبر الرأي
منبر الرأي