رغم وحدة كردستان جغرافياً، فثمة صعوبة في رسم خريطة سياسية لها مطلع القرن السادس عشر. وفى هذا التوقيت، تكوٌنت كردستان من إمارات وراثية متباينة المساحة والنفوذ والمكانة والدور، تأرجحت بين التبعية التامة وشبه الاستقلال والاستقلال التام. وقد أحصى شرف الدين البيتليسى في كتابه الأبرز " الشرفنامة " إمارات كردستان مطلع القرن السادس عشر بثلاثين إمارة. ونظراً لعدم وجود دولة كردية مستقلة ، فقد تمكن الشاه إسماعيل الصفوي (1501-1524 م ) من إخضاع كردستان إلى الدولة الصفوية رغم مقاومات معظم الإمارات الكردية. ولاريب أن السلطات الفارسية قد أدركت أن كردستان تقع في قلب الظهير الإستراتيجي لدولتهم علاوة على مزاياها الاقتصادية والمرورية والعسكرية.
لم تستوعب السلطات الفارسية طبائع وخصائص الأكراد، وانتهجت سياسات عكس الشخصية الكردية. وعلى المستوى الإداري، اعتمدت الدولة الصفوية على قيادات تركمانية (في الأغلب شيعية) موالية بديلاً عن الزعامات (الأمراء) الكردية. وعلى الصعيد الديني، أجبرت السلطات الصفوية الأكراد السنة على اعتناق المذهب الشيعي. وفى السياق السياسي، استخدمت العنف الوحشي ضد تمردات وعصيانات وانتفاضات الأكراد. وفى الإطار الإستراتيجي، سخرت الدولة الصفوية الموارد البشرية والمادية الكردية لصالح طموحاتها التوسعية.
وإزاء ممارسات السلطات الصفوية الوحشية لنشر مذهبها الشيعي، استجار رجال الدين الأكراد والعرب "السنة " بالسلطان العثماني سليم الأول (1512-1520م) . ورغم وجاهة وجدوى الوازع الديني في الصدام الصفوي العثماني، فقد اهتم الطرفان بالسيطرة على كردستان الواقعة في المنطقة الحدودية بينهما علاوة على مواردها البشرية والمادية الثرية والمتنوَعة. وعندما تصاعدت العمليات العسكرية بين الصفويين والعثمانيين، سعى الطرفان لاستمالة الأكراد إلى معسكره. وفعلاً، نجح العثمانيون في استمالة الأمراء الأكراد وعلى رأسهم إدريس البيتليسى صاحب المكانة الدينية الذي قام بدور مهم في استقطاب الأكراد السنة للانضمام إلى المعسكر العثماني.
وقد التقى الطرفان، الصفوي _ العثماني، عند سهل جالديران شمال شرق بحيرة فان (وان ) يوم 23 أغسطس 1514 م (الخريطة رقم 4) . وبفضل مؤازرة كردية واسعة من الفرسان المحاربين وتفوق المدفعية بقذائفها النارية ومقاتلي الإنكشارية ، انتصر العثمانيون، وفقد الصفويون السيطرة على كردستان غرب جبال زاجروس. وتُعد معركة جالديران علامة فارقة ونقطة تحوٌل في التاريخ الفارسي – الكردى- العثماني. وبعد هذه المعركة، انتفضت معظم الإمارات الكردية ضد بقايا القوات الصفوية الباقية في كردستان.
وعلى مدار عاميّ 1514 – 1516 م ، سعى الشاه الصفوي لاسترداد الهيمنة على كردستان ذات الثقل الإستراتيجي. وفى المقابل ، تكوٌنت قوات عثمانية – كردية بقيادة إدريس البيتليسى . والتقى الجيشان الصفوي والعثماني في قوج حصار الواقعة بين نصيبين والرها خلال شهر مارس 1516م. وقد انتهت المعركة بنصر ساحق للقوات العثمانية – الكردية. وبذلك، اكتملت هيمنة السلطان على الأناضول الشرقي ومعظم كردستان. ونظراً لانشغال سليم الأول بفتح الشام ومصر، فقد آثر عدم إخضاع كردستان مباشرة للحكم العثماني، وبايع معظم أمراء الأكراد السلطان العثماني سليم الأول بموجب عهود ومواثيق.
والسؤال الجوهري هنا: ماهي العهود والمواثيق التي بموجبها خضعت كردستان للسلطنة العثمانية؟
تَحدّدت وضعية كردستان القانونية والسياسية تأسيساً على نوعين من الاتفاقيات والمعاهدات؛ أولاهما الاتفاقية العثمانية الكردية بين السلطان العثماني سليم الأول والأمير الكردي إدريس البيتليسى ، وثانيهما المعاهدات المبرمة بين الدولتين العثمانية والصفوية .
ثمة اتفاق أبرمة إدريس البيتليسى خلال النصف الثاني من عام 1514 م نيابة عن السلطان سليم الأول مع الأمراء الأكراد، تخضع بموجبه الإمارات الكردية إلى الإدارة العثمانية غير المباشرة. وقد قامت العلاقات العثمانية – الكردية على خمسة بنود وهي: الحفاظ على حرية واستقلال الإمارات الكردية ، الاعتراف العثماني بوراثة الحكم في الإمارات الكردية شريطة صدور فرمان سلطاني للاعتراف بحكم كل أمير جديد ، مساعدة الأمراء الأكراد الجيوش العثمانية في حروبها وحق الباب العالي في عزل الأمير الذي يتقاعس عن أداء هذا الواجب ، مساعدة السلطات العثمانية الإمارات الكردية في مواجهة الأخطار الخارجية ، دفع الإمارات رسوم وضرائب إلى السلطات العثمانية. وضمنياً، وتعهد الأمراء الأكراد بعدم التمرد على الدولة العثمانية. والأهم ، تعهدوا بعدم تغيير حدود إماراتهم بغية توسيعها.
وجدير بالتسجيل أن الاتفاق العثماني - الكردي لم يكن اتفاقاً ندياً بين قوتين متعادلتين ، ومال الميزان لصالح الدولة العثمانية. ورغم المزايا التي نالها الأمراء الأكراد لاسيما الاحتفاظ بإماراتهم وحكمها وراثياً ، فقد مارست السلطات العثمانية نفوذها على كردستان من خلال ضرورة صدور فرمان سلطاني لأي أمير جديد. وعلى هذا النحو، تحكمت الأستانة في مصائر كردستان؛ إذ صدرت فرمانات التنصيب للأمراء الموالين والموالين جداً فقط ، وهو ما خلق شرخاً في العلاقات العثمانية -الكردية.
وثمة انتقاد حاد إلى سياسات البيتليسى في تنظيم كردستان التي أثرت سلبياً على المسار الكردي حتى النصف الأول من القرن التاسع عشر. إذ بدلاً من تأسيس كيان كردى مركزي وجيش قوى قادر على الدفاع عن كردستان أمام التهديدات المتلاحقة من الشرق الصفوي والغرب العثماني، قسّم كردستان إلى مجموعة إمارات. ولاريب ان هذه التقسيمات الإدارية نبعت من تعقيدات جغرافيا كردستان الطبيعية والبشرية. ومهما يكن من أمر، نجح السلطان العثماني في تقسيم كردستان، وأثار العداوات وخلق النزاعات بين الأمراء الأكراد. وبذا، سهل على الأستانة اختراق كردستان.
جدير بالذكر أن الوضع العام في كردستان عقب وفاة السلطان سليم الأول (1520 م) والأمير العالم البيتليسى (1522 م) قد اتسم بعدم الاستقرار لاسيما وأن الدولتين العثمانية والصفوية لم تُرسُما الحدود بينهما ولم تعترفا بنفوذ بعضهما البعض وبذا ، كانت الدولتان في حالة حرب ، ولذا ، جرّد السلطان سليمان القانوني (1520-1566 م) ثلاث حملات خلال أعوام 1533 -1536، 1548 ،1553م إلى التخوم الشرقية مع الدولة الصفوية وفى القلب منها كردستان. وبعد أن أنهكت الحروب حكومتي الشاه والسلطان ، عقدا معاهدة آماسيا في 29 مايو 1555 م لتكون أول معاهدة سلام كرًست "الوضع القائم " على الأرض ؛ أي مجمل الفتوحات العثمانية في الشرق. وتُعد هذه المعاهدة أول معاهدة دولية أقرت تقسيم كردستان واحتلالها. ومنذ خمسنيات القرن السادس عشر، تكوُنت كردستان العثمانية من خمس ولايات وهى: أرضروم ، فان ، ديار بكر، الموصل ، شهرزور –الخريطة رقم 5-.
وفى هذا السياق، ثمة تمييز بين ثلاث شرائح إدارية في كردستان، انبثقت من خصائصها الذاتية وعلاقاتها مع مركز الولاية والعاصمة العثمانية وهي: سناجق كردية خاضعة للنظام الإداري العثمانى العام ، سناجق كردية ذات امتياز خاص، سناجق كردية تابعة للأمراء الأكراد. ولاريب أن الإدارة العثمانية المركزية قد قبلت على مضض هذه التقسيمات وتلك الصلاحيات في الأراضي المكتسبة في كردستان . بيد أنها ظلت تتحَين الفرص لتقليل مساحات الحرية والاستقلال في كردستان تمهيداً لإحكام السيطرة عليها وإخضاعها إلى الحكم المباشر للأستانة شأن بقية الولايات العثمانية.
وعندما تولى السلطان مراد الرابع حكم السلطنة العثمانية (1623-1640 م)، عانت السلطنة من الفوضى السياسية والتدهور مما أدى إلى إعادة احتلال الدولة الصفوية لبغداد وكردستان، ولكن نجحت القوات العسكرية العثمانية في استرداد بغداد. وانتهت الحروب الصفوية العثمانية، وتم ترسيم الحدود بين الدولتين (بطول 1180ميل) في معاهدة قصر شيرين (زوهاب = زهاو) شرق كردستان في 17 مايو 1639م.وبموجبها، رسخت تقسيم كردستان بين الدولتين العثمانية والصفوية، وصارت كردستان بمثابة الإقليم الحاجز بين الدولتين . وتأسيساً على هذا التقسيم ، وقع الجزء الأكبر غرب سلسة جبال زاجروس في الدائرة العثمانية ، ووقع الجزء الأصغر شرق زاجروس في الدائرة الصفوية. وبموجب زوهاب ، انتهت مرحلة التوسع الصفوي ، وخضعت كردستان للحكم العثماني غير المباشر .
والسؤال المهم هنا: ماهي السياسات التي انتهجتها السلطات العثمانية سواء في الأستانة أو في الأقاليم إزاء الإمارات الكردية الواقعة في دائرة دولتها؟
على مدار ثلاثة قرون ونيف، برعت الدولة العثمانية بدءاً من سلاطينها مروراً بصدورها العظام وانتهاءً بحكام ولاياتها في انتهاج سياسة "فرق تسد " بين الإمارات الكردية. وقد ابتغت الحكومات العثمانية إضعاف هذه الإمارات على خلفية إشعال الصراعات فيما بينهما وإشغالهم بمشاكل داخلية والحيلولة دون توسيع نفوذها وتوحيد راياتها في مواجهة الدولة العثمانية. ولاريب أن الدولة العثمانية قد استفادت من تنافر وتناحر الإمارات الكردية لتصب في مصلحتهم في خط متواز مع عدم وجود قوة كردية "رشيدة " تعي المصلحة القومية وتسعى إلى الحفاظ عليها. وبذا، نجحت الدولة العثمانية في خلخلة بنية كردستان الداخلية، وتعيين الأمراء الموالين لهم وعزل المعارضين لهم، والإخلال بحدود الإمارات وسلطاتها. ودأبت السلطات العثمانية التدخل في الشئون الداخلية للإمارات الكردية.
هذا ، وقد تذَرعت السلطات العثمانية في تنصيب وعزل الأمراء الأكراد بعدة حجج. أقلها: قيام الأمير بالنهب والسلب وقطع الطرق. وأطرفها : عدم تقديم الأمراء التهنئة للسلطان أو الإساءة في معاملة حاشية السلطان وعدم تقديم الهدايا المناسبة. وأكثرها شيوعاً: الخيانة العظمى وإتهام الأمير بالتمرد والعصيان ومحاولة الانفصال والاستقلال عن الدولة العثمانية وعدم المساهمة في المجهود الحربي العثماني. وأخطرها: التخابر مع الدول الأعداء لاسيما الدولة الصفوية الفارسية.
وقد استغلت الدولة العثمانية براءات وفرمانات تنصيب الأمراء الأكراد في السحب من رصيد استقلال الإمارات الكردية. ولذا، اضطر معظم هؤلاء الأمراء إلى اقتراف سياسات موالية للباب العالي وأذرعه في الولايات خشية العزل. وهكذا، تحوّل معظم الأمراء إلى موظفين عثمانيين أكثر من كونهم حكام إمارات وسناجق كردية. أكثر من هذا ، سعى العثمانيون إلى خلخلة دوائر نفوذ وسلطات الإمارات الكردية من قبيل استغلال فترات الانتقال من أمير إلى آخرللتلاعب في حدود ونفوذ هذه الإمارات. وأحياناً اقتطعت السلطات العثمانية جزءاً حيوياً من إمارة والاستحواذ عليه ، وكذا، استقطعت جزءاً من إمارة وألحقتها بأخرى ، وأحياناً ضمت إمارة بأكملها إلى إمارة أخرى.
وقد صوّرت السلطات العثمانية حق الأمراء الأكراد في فرض الضرائب وجمعها بأنها من أعمال السلب والنهب وقطع الطرق. كما انتهجت سياسات مضادة إزاء العشائر الكردية واصفة تحركاتها وحركاتها بالتمرد والعصيان والفساد، ومتهمة إياها بارتكاب أعمال السلب والنهب وقطع الطرق. وقد استخدمت السلطات القوة الغاشمة لقمع هذه الحركات وتلك التحركات. ولذا، صارت آلية تجريد الحملات العسكرية العثمانية ضد العشائر الكردية ركيزة رسمية اتسمت بها العلاقات العثمانية الكردية. وهنا، أدركت السلطات العثمانية قوة العشائر الكردية وثقلها، ولذا، سعت إلى استمالتها بغية توظيفها في الحروب والغزوات والفتوحات التي قامت بها الدولة العلية. وفى هذا الإطار، ركزت إستراتيجية الباب العالي على رؤساء العشائر الكبيرة والقوية. ولاغرو؛ إذ أن استمالة الرؤساء يعنى بإيجاز ضمان ولاء العشائر.
وهكذا يلاحظ مما سبق أن السلطات العثمانية قد انحرفت عن تنفيذ الاتفاق العثماني الكردي بخصوص الإمارات الكردية في استقلالها وشبه استقلالها، وانتهجت ضدها سياسات فرق تسد وتجريد الحملات العسكرية القمعية. ورغم هذا أحرزت مزايا من الأكراد وكردستان صبت في صالح الدولة العثمانية. فعلى امتداد حقبة الإمارات الكردية منذ أوائل القرن السادس عشر وحتى أوائل القرن التاسع عشر ، أسهم الأكراد عسكرياً في الحروب العثمانية لاسيما على الجبهات الشرقية. وقد أسفرت هذه الحملات عن حصاد أرواح آلاف الأكراد وتدمير البنى التحتية لكردستان واستنزافها مادياً إما بالضرائب الباهظة أو بقبول الرشاوى. وبذا ، انتهج الباب العالي سياسات متنوَعة ومتباينة لكسر شوكة الإمارات الكردية .وتُعد الميزة الكبرى فقط هي اعتراف الدولة العلية بكردستان حتى مطلع القرن التاسع عشر، ليبدأ الصراع العثماني الكردي الذى انتهى بسقوط عصر الإمارات الكردية على نحو ما سنفصله .
التنظيمات العثمانية والإمارات الكردية
منذ عشرينيات القرن التاسع عشر، اخذت حدود الدولة العثمانية تتقلص، وازدادت الصراعات بين قيادات الدولة بغية الاستئثار بالسلطة. واندلعت ثورات وانتفاضات داخلية وحروب خارجية انخرطت فيها الدولة العلية حفاظاً على كيانها. وأفرزت التطورات السياسية والاقتصادية صراعات عرقية وعشائرية وقومية. وقبل القرن التاسع عشر، استهدفت الحركات الثورية والانتفاضات إجراء إصلاحات مرتبطة بتخفيض الضرائب وتحقيق العدالة. وطمحت حركات القرن التاسع عشر إلى فصل ولايات عثمانية وتحريرها لبناء كيانات سياسية جديدة على نحو ما جرى في البلقان ومصر وكردستان.
هذا، وقد تميَز القرن التاسع عشر بتدخل الحكومة العثمانية بقدر أوسع في خصوصيات المؤسسات والرعية. ولذا ، انتهجت وسائل جديدة للسيطرة على الرعايا والدفاع عن حدودها. وفى هذا السياق، تنامت الطبقة البيروقراطية (الإدارية) ؛ وتزايدت مهامها التي كانت متروكة سابقاً لرعايا الدولة التي اقتصر دورها وقتذاك على جمع الضرائب والاستعداد للحروب . و تدريجياً، اتجهت الأستانة إلى العناية بالمرافق العامة شأن الدول الحديثة في أوروبا، وأسَست وزارات للتجارة والصحة والمعارف، وأقامت مؤسسات تعليمة لتدريب الكوادر البشرية للجهاز الإداري العثماني، وأرسلت بعثات إلى أوروبا لدراسة اللغات والعلوم التكنولوجية . وقد أولت الحكومة المركزية العثمانية عناية فائقة بالجيش العثماني لاسيما في الاستعانة بالنظم العسكرية الأوروبية الحديثة. واعتمدت الدولة على التجنيد الإجباري بعد أن كانت تعتمد على القوات التي يُعدها الأمراء والزعماء المحليون من قبيل أمراء الأكراد.
وبهذه الوسائل، نجحت الحكومة المركزية العثمانية في إحكام السيطرة على الجماعات التي تحدت سلطة الدولة وهيبتها من آن لآخر خصوصاً الإنكشارية والقبائل العشائرية ، كردية وعربية، والسلطات الدينية. ورغم هذا، لم تسيطر تماماً على الأوضاع ؛ إذ ظلت العشائر الكردية تتمتع بقدر وافر من الحرية الذاتية ، وتمتع الزعماء المحليون بنفوذهم التقليدي، وظل الاقتصاد العثماني قوامه القطاع الزراعي الذي سيطر عليه الإقطاعيون والأعيان والوجهاء المحليون. وظلت السلطات العثمانية إبان عشرينيات القرن التاسع عشر متذبذبة حيث كان السلطان محمود الثاني (1808-1839 م) مشغولاً في الداخل بالقضاء على الإنكشارية وإخضاع الزعماء المحليين عموماً والكرد خصوصاً لمشيئة الباب العالي . وفى الداخل، وصل الجيشان الروسي والمصري إلى مشارف الأستانة. ومنذ سحق السلطان العثماني الإنكشارية في عام 1826 م ، سيطر السلطان على مقاليد الأمور. وقد اتصف القرن التاسع عشر بكونه الأكثر دموية في التاريخ العثماني . ولاريب أن العنف والدموية قد رافقا تنامى الشعور القومي لدى عرقيات وقوميات الدولة ورد فعل الدولة.
وجدير بالتسجيل أن البعض ارتأى بأن التنظيمات العثمانية رمت إلى نشر العدالة وتحقيق المساواة بين الرعية العثمانية. ولكن اتسمت هذه الإصلاحات بالبطء والسطحية ، واقتصرت فقط على المدن الكبرى مما ولَد إحباطاً لدى الجموع الغفيرة التي ثارت واحتجت وانتفضت في الولايات العثمانية. وارتأى البعض الآخر بأن الثورات والحركات الانفصالية نجمت عن الاضطهاد والظلم وسوء الإدارة وغياب الحقوق المدنية.
ولعل السؤال المهم الذي يفرض نفسه الاّن: كيف طبقت السلطات العثمانية إصلاحاتها وتنظيماتها في كردستان؟
مع بداية القرن التاسع عشر، ظلت كردستان منقسمة بين الدولتين العثمانية والقاجارية ، واستمرت داخلياً منقسمة إلى إمارات إقطاعية بعضها مستقل والبعض الاّخر شبه مستقل لاسيما إمارات بابان وسوران وبهدينان وبوتان وهكاري .وعلى المستوى الإداري العثماني ، وقعت إمارات بابان وسوران وبهدينان ضمن باشوية بغداد. ورغم هذا، كانت سلطة والى بغداد على الأمراء الأكراد شكلية باستثناء تقديم قوة عسكرية وقت الحروب وإرسال هدايا ثمينة للوالي العثماني في المناسبات مقابل الإعفاء من الضرائب. وفى أقصى الأناضول الشرقي ، تُوجد إقطاعيات كردية احتل فيها الأمير الكردي موقعه بسلطات مطلقة لاسيما في فرض الضرائب وجمعها. وفى هذا السياق ، اصطدمت الإصلاحات والتنظيمات العثمانية في السيطرة المباشرة على كردستان مع امتيازات الأمراء الأكراد السياسية والاقتصادية علاوة على الصدام مع الأكراد أنفسهم الرافضين والكارهين للحكم الأجنبي المباشر والسافر.
اصطدمت إصلاحات السلطان سليم الثالث (1789-1807 م) بصعود قوة إمارة بابان وبالذات إبان فترة حكم الأمير عبد الرحمن باشا (1789-1808 م) . وقد تمتعت هذه الإمارة بموقع إستراتيجي بين ولاية بغداد العثمانية وبلاد فارس القاجارية. ووسعت بابان حدودها حتى ضمت أربيل وضواحيها. وتميَزت بخصوبة أراضيها وثراء اقتصادها، واستحوذت على قوة عسكرية مسلحة جيداً وفقاً لمقتضيات مطلع القرن التاسع عشر. وقد تطلع عبد الرحمن باشا إلى تثبيت دعائم حكمه، واكتساب حلفاء خارجيين من الإمارات الكردية المجاورة. واستغل الأمير البابانى سوء العلاقات العثمانية -الفارسية لتوسيع دائرة امتيازاته.
وإزاء بروز الإمارة البابانية، سعت السلطات العثمانية في ولاية بغداد إلى إزاحة الأمير عبد الرحمن باشا القوى ووضع بدلاً منه ابن عمه خالد باشا المتواطئ مع الوالي العثماني. ولهذا، اندلعت بين عامي 1806-1808 م سلسلة مواجهات شرسة بين القوات العثمانية وقوات العشائر الكردية المتوافقة معها وبين القوات البابانية الكردية المتحالفة مع والى كرمنشاه الفارسي. ورغم أن المعارك بدأت بانتصارات بابانية ، فقد انتهت الحروب بهزيمة عبدالرحمن باشا ولجوئه إلى بلاد فارس في عام 1808 م .
وجدير بالملاحظة وجود وجهات نظر متباينة في رؤية تجربة المواجهة العثمانية الكردية خلال العقد الأول من القرن التاسع عشر. فمن المنظُور العثماني، تُعد تمرداً وعصياناً وخروجاً عن الطاعة السلطانية. وبالغت رؤى كردية باعتبارها نقطة بداية اليقظة الفكرية واستهدفت نيل استقلال كردستان. ولاريب أن هذه المواجهة الأولية قد أرست قواعد الرد العثماني الضاري على أي طموح كردى؛ إذ أسفرت حروبها وتداعياتها عن آلاف القتلى . وأدركت السلطات العثمانية أن الخيانات الأسرية والانشقاقات العشائرية أقصر الطرق لهزيمة الأكراد وإسقاط إماراتهم الواحدة تلو الأخرى.
ومن المفارقات ، تزامنت هزيمة الأمير الكردي عبد الرحمن باشا البابانى مع صعود السلطان محمود الثاني عرش السلطنة (1808 – 1839 م) واتباع سياسة التنظيمات الجديدة التي اصطدمت هي الأخرى مع طموحات الأمراء الأكراد. وبات محمود الثاني مقتنعاً على خلفية المواجهة البابانية العثمانية بأنه من أجل إنجاز السيطرة العثمانية التامة على كردستان، فلابد من القضاء نهائياً على حكم إمارات بابان في السليمانية وسوران في رواندوز وبهدينان في العمادية وبوتان في الجزيرة.
الصراع العثماني السوراني
وفى هذا السياق، قَرر السلطان محمود الثاني القضاء التام على تعهدات وامتيازات وخصوصيات كردستان المبرمة منذ مطلع القرن السادس عشر. ويرجع هذا إلى رغبة السلطات العثمانية في قطع الطرق على فارس القاجارية وروسيا القيصرية من أجل التدخل في الشأن العثماني الداخلى عن طريق الإمارات الكردية خصوصاً وأن الدولتين تسعيان لاستثمار النفوذ الكردي ضد الحلف العثماني. كما أراد الباب العالي القضاء مبكراً على نشوء وتطوٌر أية حركة كردية في مهدها. وفى نفس الوقت، احتاجت الدولة العثمانية موارد كردستان الاقتصادية لتصب مباشرة في خزائنها، وكذلك، توفير الدعم البشرى اللازم للجيش العثماني الجديد بديلاً عن نظام الإنكشارية العتيق المنحل منذ عام 1826 م وآنذاك، تصاعدت قوة إمارة سوران الواقعة في جنوب كردستان تحت قيادة الأمير محمد باشا الكبير. وقد سيطرت عليه إمكانية توحيد الأكراد وتأسيس دولة مستقلة لهم مستغلاً هزيمة العثمانيين على أياد الروس 1828-1829م، واستقلال اليونان في عام 1831 م ، والصدام العسكري بين السلطان العثماني محمود الثاني والوالي المصري محمد على.
وثمة سؤال يطرح نفسه: ما هي طموحات الأمير محمد باشا السورانى؟
امتلك محمد السورانى شخصية وطنية قيادية من المنظور الكردستاني . وبينما وصف الرحالة الإنجليزي ميجرسون قمة طموحات الأمير بالاستقلال القومي واشترك معه المستشرق الروسي خالفين وزاد عليه بـ “تكوين كردستان مستقلة “، فقد أعرب الأمير محمد السورانى نفسه عن منتهى طموحاته في السيطرة على الحكومات التي هي تحت تصٌرف الإقطاعيين في كردستان : وليس له تدخل في منطقة حكومة ملك الإسلام" ؛ أى السلطان العثماني.
وللوصول إلى هذه الأهداف، خاض محمد السورانى صراعاً مع منافسيه وخصومه من الأقرباء منذ اعتلائه حكم إمارته في عام 1813 م. وبعد نجاح هذه المرحلة، اتخذ من رواندوز عاصمة للإمارة السورانية، وحصنها بتشييد الأسوار والقلاع والأبراج . ولاريب أن تأسيس عاصمة قوية حصينة يمثل خطوة مهمة على درب بناء أية دولة. ثم شرع في غزو الإمارات الكردية المجاورة مما استلزم جيشا ًنظامياً قوياً حديثاً. ولهذا، أقام مصانع للإنتاج السلاح والذخيرة. ورغم إن بعض المصادر قد بالغت في تعداد الجيش السورانى بأنه بلغ خمسين ألف فرد، فعلى الأرجح أنه تراوح ما بين 15-25 ألف جندي. وبعد ذلك عزز الأمن الداخلي ، وأسَس دواوين إدارية ومالية ومعرفية وقانونية . وفى خطب الجمعة، تم الدعاء للأمير محمد السورانى، وضُربت العملة الذهبية والفضية في رواندوز العاصمة.
وهكذا، نجح الأمير محمد باشا السورانى في وضع أسس بنيان كردى مستقل: بناء جيش حديث، إنتاج سلاح وذخيرة، بنية إدارية واقتصادية، سك عملة، الدعاء له في خطب الجمعة. والسؤال الاّن: ماهي حدود إمارة سوران بعد هذه الغزوات وتلك الإنجازات؟
امتد نفوذ إمارة الأمير محمد السورانى خارج حدودها التقليدية ؛ إذ احتلت مدينة أربيل وطردت البابانيين من رانيه وكوى وسنجق ، وجعل نهر الزاب الصغير حداً فاصلاً بين إماراتيّ رواندوز وبابان. ووسع رقعة إمارته إلى منطقة بهدينان حيث أخضع دهوك وعقرة وعمادية ، وسنجار والشيخان الإيزيديين. وبذا، شغلت مساحة امتدت من حدود الموصل حتى الحدود الفارسية، ووصلت إلى حدود إمارة بوتان القوية برئاسة الأمير بدر خان بك الذي حمل نفس طموحات الأمير محمد باشا. وقد فشلت جمع المساعي لإقامة تحالف سياسي بين الأميرين الكرديين الطموحين في مواجهة مركزية الأستانة وطهران.
وعلاوة على اتساع الخلاف بين القيادات الكردية زمن الصراع الكردي العثماني، هناك اختلافات دينية ومذهبية شقت الصف الكردي. فمثلاً، اقترف الأكراد السنة مذابح ضد الأكراد الإيزيديين بغية الاستيلاء على أراضيهم في سنجار والشيخان إبان توسعات الأمير محمد السورانى لضم إمارة بهديان. ومن المفارقات، أفتى الملا محمد الخطى – مفتي سوران – باستباحة دماء الأكراد الإيزيديين مما أوعز صدور الأمير وقادته وجنوده ضد أقرانهم الإيزيديين.
وهكذا، أسَس الأمير محمد السورانى إمارة قوية، ووسَع حدودها حتى أذربيجان الغربية شمالاً وكركوك جنوباً، ومن ماردين غرباً حتى الحدود الفارسية شرقاً. وفى هذا الوقت، أنهت الدولة العثمانية مشاكلها مع الولاية المصرية بموجب صلح كوتاهية (5 مايو 1833) ومع روسيا القيصرية بمقتضى معاهدة خونكار أسكلسى (8 يونيو 1833 م). ولذا، هرولت صوب كردستان لتصفية حركة الأمير محمد السورانى واحتلال إمارته وإخضاعها مباشرة للحكم المركزي العثماني.
في عام 1834م، كلف السلطان محمود الثاني والى سيواس محمد رشيد باشا للقضاء على الأمير محمد السورانى والتخلص من أي روح انفصالية في كردستان. وفى صيف 1834م، هاجمت قوات رشيد باشا العثمانية الأقاليم الكردية من الشمال. وقد نهبت هذه القوات وخرٌبت كل ما هو كردى، ونكلت بشكل وحشي بآلاف الأكراد العُزل من الأطفال والنساء والشيوخ. ومع ذلك، قاوم الأكراد بشراسة، وعرقلوا مسيرة القوات العثمانية بسهولة إلى الأمير السورانى، ومن المفارقات ساهم أرمن المنطقة في مقاومة القوات العثمانية. وإزاء مقاومة الأكراد العنيفة العنيدة ، قامت السلطات العثمانية بتهجير جماعات منهم قسرياً إلى أقاليم بعيدة مما أدى إلى هلاك العجائز والأطفال.
وبحلول شتاء عام 1835م، توقف الزحف العثماني صوب الداخل الكردستاني خصوصاً بعد نقص المؤن والذخائر واستنزاف قوى العثمانيين جراء حرب العصابات الكردية في الجبال والصحاري رغم تفوقهم العددي والعتّادى. وقد انتهز الأمير محمد السورانى انسحاب القوات العثمانية، وزحف بقواته في أكتوبر 1835م للسيطرة على كردستان الشرقية الواقعة تحت السيطرة الفارسية القاجارية. ومن المفارقات، قابله الأكراد كأنه مُخلّص لهم من نير الحكم الفارسي .وبحلول صيف 1836 م ، ترامت الأخبار إلى محمد السورانى بقدوم حملة عثمانية ضد رواندوز . وعندئذ ، وقع الأمير الكردي بين الجيشين العثماني والفارسي . وفى نهاية عام 1836م ، استؤنفت المعارك العثمانية الكردية بشراسة عند وادي نهر حرير. وقد تمخضت المعارك عن تقهقر الجيوش العثمانية دون إحراز انتصار مباشر.
هنا ، اتفقت الدولتان العثمانية والفارسية مع روسيا القيصرية وبريطانيا العظمى على ضرورة القضاء على السورانى وحركته خوفاً من تكوين كيان كردى قوى على الحدود العثمانية الفارسية.
خشيت سان بطرسبرج على مصالحها الحيوية في بلاد فارس من احتمال تكوين دولة كردية فتية. وفى نفس الوقت، ارتابت لندن من صعود قوة سوران في كردستان. ولاغرو؛ إذ اعتبرت لندن وجود العثمانيين الضعفاء أفضل من الأكراد الأقوياء للحفاظ على سلامة الممرات إلى الهند. كما خشيت لندن من أن يشغل الروس الفراغ في كردستان وبلاد ما بين النهرين والأناضول إثر سقوط الدولة العثمانية. وكذا ، تخوٌفت لندن كما الأستانة من اتفاق الأمير الكردى مع الوالي المصري محمد على باشا لـ"اقتطاع البلاد الكردية والعربية من جسم الدولة العثمانية " واحتمال إعلان الأمير محمد السورانى الولاء للحكم المصري في سوريا . ولهذا، ارتأت لندن وفى ركابها الأستانة سرعة تدمير الإمارة السورانية قبل أن يستشرى خطرها على امتداد كردستان. وبذلت لندن مساعي دبلوماسية واسعة لتوحيد القوتين العثمانية والفارسية ضد الإمارة الكردية لؤاد حٌكم إقامة كيان قوى في كردستان. بيد أن الأستانة رفضت اقتسام طهران معها الانتصارات في كردستان، واعتبرت المساعي الفارسية تدخلا ًفي شئونها الداخلية ومناورة للتسلل إلى كردستان العثمانية.
وعلى المستوى الكردي ، عانى الأكراد في رواندوز من نقص الماء والمؤن نتيجة الحصار العثماني ، وفقد الأمير محمد معظم مناطق نفوذه. واستغل الأمراء الذين خضعوا للأمير السورانى رغبة أو رهبة فرصة الحصار العثمانى وأعلنوا التمرد عليه. كما أن استخدام العنف تجاه العامة والحروب المستمرة قد أثقلت كواهل الأهالي . وهكذا، توافرت الأجواء التي ساعدت القوات العثمانية على اكتساح إمارة رواندوز وإسقاط قلاعها. وحسب توصيف الرحالة الإنجليزي فريزر؛ إذا كانت جيوش محمد السورانى " مخلصة له، لاستطاع أن يزدرى بالقوى التي زحفت عليه كلها..... وكان البعض من ضباطه ميالين للخيانة .... وقد أفزعهم رؤية بيارق السلطان وهي تٌرفرف أمامهم، أضف إلى ذلك بقايا التبجيل لخليفة الرسول وزعيم الإسلام الديني".
وفى هذا السياق، وجه القائد رشيد باشا رسالة إلى الأمير محمد السورانى دعاه فيها بصفته "مسلماً حقيقياً" إلى عدم إراقة دماء المسلمين ، وقطع له العهود والمواثيق إذا استسلم دون حرب؛ وسوف ينال عفو السلطان وفرماناً رسمياً بحكم إمارته. وقد تلقف الملا محمد الخاطى - مفتي سوران – هذه الدعوة ، وأشار على الأمير بعدم جدوى مقاومة السلطان – الخليفة، وحثه على تسليم نفسه حقناً للدماء. وأفتى بتحريم قتال القوات العثمانية باعتبارها قوات خليفة المسلمين ، وسوف يٌخل بالدين والإيمان والعصمة الزوجية. ولذا، رفضت قطاعات كردية عريضة الانخراط في محاربة قوات السلطان – الخليفة. ومن المفارقات لم يجرؤ الملا خاطي على الإفتاء بأن حرب الأمير السورانى ضد السلطان "شرعية"؛ إذ أن محمود الثاني بحملاته ضد الأمير محمد قد نكث بعهود ومواثيق إدارة كردستان التي أبرمها السلطان سليم الأول والشيخ البيتليسى منذ مطلع القرن السادس عشر. كما أن الأمير لم يٌعلن العصيان أو الانفصال رسمياً عن الدولة العثمانية رغم أن أفعاله كانت ستٌؤدى حتماً إلى الاستقلال. ولم تكن طموحات السورانى تتعدى حدود كردستان .
وأخيراً اضطر الأمير محمد السورانى إلى تسليم نفسه ، واقتاده رشيد باشا أسيراً إلى الأستانة في أواخر عام 1836م. وبينما كان السلطان محمود الثاني يٌثنى على السورانى، عاثت القوات العثمانية كردستان، وخلفت وراءها الخراب والدمار إثر حرق القرى وهلاك آلاف الأبرياء. ولم تكتف القوات العثمانية باحتلال مدينة رواندوز فقط ، بل احتلت جميع الأراضي المجاورة ، وقامت بتهجير العديد من الأكراد قسرياً إلى مناطق نائية وبعيدة عن كردستان. وبعد ستة شهور قضاها الأمير الكردي محمد السورانى منفياً في الأستانة ، عفا عنه السلطان ، لكن أمر بقتله سراً في عام 1837م ، ورميه في البحر الأسود. وهكذا ، أخذت إمارة رواندوز السورانية في التفكيك رويداً رويداً.
وخلال الفترة من 1837إلى 1839م ، تجددت القلاقل في كردستان وبالأخص في أرضروم وإرزنجان وبايزيد وبيتليس. وحل حافظ باشا محل رشيد باشا في قيادة القوات العثمانية الذي أخمد المقاومة الكردية بكل الطرق الوحشية؛ إذ قصفت المدفعية العثمانية عدة قرى كردية وأبادتها عن بكرة أبيها، وقبضت السلطات العثمانية على قادة التمرد وعلقتهم على المشانق في الميادين العامة. وفى ديار بكر، قضت على العشائر المحاربة، وأسقطت إمارة بهدينان وألحقتها بولاية الموصل. وبذلك، حلت إدارات عثمانية محل الإدارات الكردية في إمارة رواندوز وضواحيها ؛ وحكمتها بالحديد والنار واضطهدت الأهالي ، ونهبت أملاكهم وأموالهم.
وهكذا، نجحت الدولة العثمانية بدعم بريطانيا وروسيا وبلاد فارس في القضاء على أول تجربة كردية ابتغت تأسيس كيان سياسي كردى مستقل عشية أربعينيات القرن التاسع عشر. وللوصول إلى هذه الغاية، استخدمت كل وسائل العنف المسلح وسياسات فرق تسد والفتاوى المسيسة . ورغم أن حكومة الأستانة المركزية نجحت في إسقاط إمارة محمد السورانى، فإنها لم تتمكن من اجتثاث فكرة الثورة والرغبة في تأسيس كيان كردى حر ومستقل من العقل الجمعي الكردي. وبينما اعتقدت الأستانة أنها أغلقت باب رواندوز وقضت على الثورة الكردية، فقد انفتح عليها بوابات إمارة بوتان لتدخل العلاقات العثمانية الكردية مرحلة أكثر تعقيداً إبان أربعينيات القرن التاسع عشر على نحو ما سنستعرضه حالاً.
الصراع الباباني العثماني
خلال أربعينيات القرن التاسع عشر، انتشرت حمى المواجهات العثمانية الكردية من إمارة سوران جنوب كردستان إلى إمارة بوتان في شمال كردستان. وتعتبر إمارة بوتان من أقدم وأعرق الإمارات الإقطاعية الكردية التي تأسست منذ منتصف القرن الثانى عشر الميلادي. ووقعت بوتان بين نهر دجلة في جنوب ولاية الموصل شرقا ًوبين بوتاتن صو أحد روافد نهر دجلة غرباً في المنطقة المسماة بالجزيرة.
بصعُود بدرخان بك عرش إمارة الجزيرة وإقليم بوتان في عام 1821م، حدثت نقلة نوعية في شمال كردستان وفى المواجهات الكردية العثمانية. وعلى مدار ثلاثينيات القرن التاسع عشر، أقام بدرخان بك كياناً كردياً سياسياً وتحاشى الصدام المباشر مع القوات العثمانية. ورغم أن الأمير بدرخان بك رفض التحالف مع الأمير محمد السورانى، وهو خطأ ، فقد سعى حثيثاً إلى تأسيس "حلف مقدس “لإقامة اتحاد عام بين إمارات كردستان المختلفة. وفى هذا الصدد، استعان الأمير بدرخان بك بطائفة من العلماء الأكراد المسلمين السنة الذين جابوا كردستان داعين إلى الاتحاد المقدس وإقناع أهلها بـ “الأمنية الشريفة التي يرمى إليها الأمير ".
وهكذا، نجحت جهود الأمير بدرخان بك في تكوين اتحاد كردى، امتد من حدود الموصل جنوباً إلى مدينة سنندج في إمارة أردلان داخل بلاد فارس شمالاً، وإلى مدينة فان وأبواب مدينة ديار بكر شرقاً. وبذا، تجاوزت إمارة بدرخان بك حدود الإمارة السورانية، وضمت مساحات إليها من كردستان الفارسية . وقد اتفق الأمراء الأكراد المتحالفون لإعادة بناء القلاع المتهدمة وإقامة التحصينات وزيادة عدد القوات المسلحة في أراضيهم. وأسس بدرخان بك مصنعين في عاصمته الجزيرة لإنتاج السلاح والذخيرة. وأرسل بعثات كردية إلى أوروبا لإعداد كوادر بشرية مؤهلة في جميع المجالات العسكرية والعلوم الحديثة. وشرع بدرخان بك في بناء أسطول حربي وتجارى.
وعلى المستوى الاجتماعي ،ابتغى الأمير بدرخان بك تطبيق العدالة. ومن مظاهر هذه العدالة ، توزيع الأراضى على الفلاحين الفقراء، وإلغاء الضرائب الباهظة التي فرضتها الدولة العثمانية على الفلاحين. ووضع بدرخان بك حداً لعمليات السلب والنهب التي كانت منتشرة في هذا الوقت، وخلت الإمارة من المحسوبية والمنسوبية والفساد. وفى هذا السياق، هاجرت جماعات كردية من بقية الإمارات إلى إمارة بوتان. وقد رحبت حكومة بدرخان بك بهؤلاء المهاجرين إليها، وأعطت لكل مهاجر قطعة أرض زراعية مقابل تسليم ثُلث قيمة محصولها إلى بيت المال. واشترطت عليهم أيضاً أن يكونوا على أهبة الاستعداد للدفاع عن الإمارة.
وفى الإطار الديني، شغل الدين مكانة جد مهمة في تكوين شخصية بدرخان بك ، ورسم رؤيته إلى صياغة العلاقات بين الطوائف وأطياف المنظومة السكانية لإمارته. وقد وقع الأمير تحت سيطرة علماء الدين والشيوخ والطرق الصوفية لاسيما النقشبندية . ولذا، حرص على تطبيق الشريعة الإسلامية. ورغم هذا، كان مؤمناً بحرية الأديان، وعامل أهل الذمة في إمارته الكبرى بالحسنى خصوصاً وأنها ضمت إيزيديين وأرمن وآشوريين وسريان وكلدان وغيرهم من الأمم التي سكنت كردستان. وفعلاً، أبطل بدرخان بك كثيراً من العادات التي كانت مفروضة على أهل الذمة من قبيل إرتداء أزياء خاصة بهم، وترجُل الراكب منهم فور رؤية قائد مسلم، وكذلك، شجٌع زواج المسلمين بالأرمنيات والآشوريات .
وعلى درب استكمال بناء دولة حديثة وقوية ، اتخذ بدرخان بك خطوات فارقة. فمثلاً اتخذ مدينة الجزيرة عاصمة لإمارته الكبرى، سك عملة معدنية مكتوباً على أحد وجهيها "بدرخان أمير بوتان " والتاريخ الهجري على الوجهة الآخر. ودعت له المشايخ في خطب الجمعة مع استمرار الدعاء والاحترام للسلطان العثماني. ورفع بدرخان بك أعلاماً كردية على مؤسسات الإمارة. وهكذا، سطعت إمارة بوتان وملحقاتها في شمال كردستان، وضمت المنطقة الواقعة بين بحيرتيَ فان وأورميا شمالاً؛ والموصل ورواندوز جنوباً بعد أن نجحت القوات العثمانية في القضاء على إمارات بهدينان وسوران وبابان جنوب كردستان.
وبعد أن نجح الأمير بدرخان بك في استكمال ملامح دولة عصرية، فالسؤال المهم الذي يفرض نفسه: ما هي أهداف الأمير الكردي؟
ثمة رؤى كردية غالباً واستشراقية أحياناً قد وضعت حركة بدرخان في إطار قومي ترمى إلى تحرير كردستان من حكم الدولتين الفارسية والعثمانية. وثمة آراء صنفتها في سياق الحركات الانفصالية التي شهدتها الولايات العثمانية على امتداد القرن التاسع عشر.
وفى الأغلب الأعم لم ينوى بدرخان بك الاستقلال التام عن الدولة العثمانية وإقامة كردستان حرة مستقلة، والاكتفاء فقط بتكوين إمارة كردية ذات استقلال ذاتي أوسع من أسلافه. ولعل مما يٌعًزز هذا الرأي رفض بدرخان بك الانضمام مع حركة محمد السورانى آنفة الذكر. كما أنه استمر في الدعاء للسلطان عبد الحميد الأول في خطب الجمعة قبل اسمه. ناهيك أنه انضم إلى القوات العثمانية المهزومة في معركة نزيب (نصيبن)عام 1939 م، ولم ينضم إلى الأمير المصري المنتصر إبراهيم باشا على نحو ما فعل الأمير اللبناني بشير الشهابي (1877-1840م) .
ورغم أهداف بدرخان بك الواضحة، انزعجت الدولتان العثمانية والقاجارية ومن خلفهما بريطانيا العظمى وروسيا القيصرية إثر تصاعد قوة الإمارة الكردية البدرخانية في كردستان. ولذا اتفقت هذه الدول على حتمية تحطيم حلم وطموح بدرخان بك وإسقاط إمارته والقضاء عليه. وفى هذا السياق، افتعلوا صراعاً كردياً آشورياً؛ بالأحرى إسلامياً مسيحياً، بغية توظيفه لبلوغ هدفهم الأوحد؛ إسقاط الإمارة البدرخانية.
الصراع الكردي الآشوري
منذ عصور سابقة، عاش الآشوريين "النساطرة" والسريان والكلدان جنباً إلى جنب مع الأكراد في ولايات هكاري وبوتان والموصل وغيرها في بلاد ما بين النهرين وكردستان –خريطة رقم 6 - . وقد اتسمت العلاقات بينهما بالتعاون المشترك والاحترام المتبادل. وقد تميٌز الآشوريون بكونهم أمة قبلية جبلية مولعة بالحروب، ولا يمكن تمييز ملبسهم عن الأكراد عدا ارتداء العمامة الكردية والقلنسوة المخروطية البيضاء الأشورية .
وجدير بالتسجيل أن الآشوريين والأرمن قد استفادوا من نظم الإدارة العثمانية. فمن المنظور الديني، عاش المسيحيون في كردستان وبلاد ما بين النهرين في هياكل شبه مستقلة تسمى "مللت " (ملل)، حلت محل السلطة المباشرة للحكومة المركزية للأستانة، ومثلث مركز الحياة الاجتماعية. ومن المنظور الإداري، وقعت الجيوب الآشورية والأرمنية في الحدود الجغرافية للإمارات الكردية. والثابت أن الأمير بدرخان بك قد اتبع سياسة التسامح الديني إزاء أهل الذمة. وعلى المستوى الاقتصادي، استعان بالأرمن لإدارة اقتصاد إمارته لأنهم على امتداد الدولة العثمانية مشهورون بالكفاءة والخبرة في المجالات الاقتصادية. وبذا، لم يلجأ الأمير الكردى إلى انتهاج سياسة فرق تسد بين الجماعات المسيحية.
وفى الأغلب، تسبٌبت هذه السياسة الاقتصادية لبدرخان بك إزاء الأرمن في إثارة الغيرة والحسد في نفوس الآشوريين، كما أثارت الضغينة والحقد نحو الأمير وبنى جلدته من الأكراد المسلمين. ومن المفارقات تزامن صعود قوة الأمير الكردي مع ازدياد المصالح الاستعمارية البريطانية -الروسية في المناطق الحدودية بين الدولتين العثمانية والفارسية. وفى هذا المضمار، أسهمت البعثات التبشيرية وبالأخص البروتستانتية (الإنجيلية) في تأليب الآشوريين ضد البدرخانيين على نحو ما سوف نبرزه حالاً.
استغلت روسيا القيصرية حروب الدولة العثمانية معها ومع الدولة الفارسية في التوغل داخل نطاق المصالح البريطانية على امتداد الحدود الفارسية -العثمانية لاسيما في كردستان مما سيترتب عليه تهديد مصالح بريطانيا. ولهذا، وثقت الحكومة القيصرية علاقاتها مع الأرمن ليكونوا بمثابة أداة لإحراز مصالحها. وفى المقابل، وظفت الإدارة البريطانية الجماعة الآشورية لبلوغ نفس الأهداف الروسية. وهنا، لعبت البعثات التبشيرية دوراً مهماً في هذه المعادلة.وتحت ستار المدارس والمستشفيات الإرسالية والبروتستانتية، أرسلت بريطانيا أدواتها الاستطلاعية والتحريضية والدعائية إلى البؤر المسيحية في الإمارات الكردية لاسيما هكاري وتياري وتخوماواشتيا. وفى هذا الإطار، بدأ الصراع الكردي الآشوري منذ أوائل أربعينيات القرن التاسع عشر عندما رفض مارشمعون – الزعيم الروحي للآشوريين - في هكاري الانضمام إلى القوات الكردية ضد القوات العثمانية للقضاء على إمارة بهدينان. وهنا، لجأ مارشمعون إلى المبشرين البروتستانت والقناصل الإنجليز للاستقواء بهم ضد بدرخان بك. وعلى امتداد أعوام 1841-1843م، سيطر التمرد على الآشوريين. ولهذا، لجأ الأمير الكردي بدرخان بك إلى والى أرضروم المشرف إدارياً على هكاري وبوتان لإثناء مارشمعون بالطرق السلمية عن الاستمرار في عصيانه ضد الطموحات الكردية. وفعلاً، أبلغ الوالي العثماني مارشمعون بعدم الانخراط في المسائل الدنيوية (السياسية) والتركيز فقط على المسائل الدينية. ولكن مارشمعون رفض التعليمات العثمانية، وظل في زعامة الآشوريين ضد بدرخان بك. كما رفض دفع الضرائب المعتادة للإمارة الكردية .
تأسيساً على هذه التطورات، قاد الأمير بدرخان بك جيشاً كردياً قوامه حوالي 26000جندى في عام 1843م لتأديب مارشمعون وأنصاره. وجدير بالإشارة، لم يكن كل الأشوريين تحت الطاعة العمياء لمارشمعون؛ فقد رفض الأشوريون في تخوما عدم الانضمام إلى القوات الآشورية بقيادة زعيمهم الروحي. وكانت الإدارة البريطانية وأذرعها في كردستان والأناضول على علم تام بالتمرد الأشورى ورد الفعل الكردي، ولهذا، طلبت من والى الموصل العثماني محمد باشا كريتلى مساعدة الآشوريين ، كما ضغطت من خلال العقيد شيل ضابط الوحدة التجسسية في الشرق على السلطات الفارسية للحيلولة دون مساعدة أكراد بلاد فارس الأمير بدرخان بك في الهجوم على مواقع المتمردين الآشوريين. ورغم هذا، استطاعت القوات الكردية اقتحام جولة ميرك – معقل مارشمعون – الذي هرب إلى الموصل، واحتمى بالقنصلية البريطانية بها .
وثمة تقارير جد متباينة بخصوص الخسائر البشرية والمادية للحرب الكردية الآشورية. وفى هذا الصدد، بينما حصرت المصادر الآشورية والإنجليزية الضحايا الآشوريين بأكثر من عشرة اّلاف نسمة ، فقد قدرتها التوقعات الكردية بين 2000-3000 ضحية . وقد أسهبت تقارير المبشرين الإنجليز والأمريكيين فى حدوث "حالات النهب والخراب في الكنائس والمزارع، وسبي النساء، وقتل الأطفال، والقساوسة بواسطة الأكراد المتعصبين “.
ولاريب وقوع خسائر بشرية ومادية في حروب قبلية من قبيل التي وقعت بين الأكراد والآشوريين من الطرفين لاسيما في الطرف الآشوري المهزوم. بيد أن رقم أكثر من عشرة اّلاف قتيل يُعد من المبالغات لاسيما وأن تعداد الآشوريين آنذاك لا يتجاوز 60000 نسمة، ودارت المعارك بأسلحة بدائية وفى مناطق جبلية وعرة جداً، ولمدة لا تزيد عن شهر. ولم تحدث المعارك على امتداد أماكن توزيع الآشوريين، بل وقعت في منطقة تياري فقط. وقد بالغ الإنجليز والمبشرون البروتستانت في الخسائر البشرية والمادية لتأليب الرأي العام الأوروبي والعثماني ضد بدرخان بك. وفعلاً، تدخل ممثلو القوى الأوروبية في الآستانة لدى الباب العالي مطالبين إياه بالتدخل الفوري لـ "وقف المذابح ضد الآشوريين " .
ولهذا أرسلت الحكومة العثمانية بالأستانة وفداً رسمياً بقيادة كامل باشا إلى الأمير بدرخان بك في أوائل أغسطس 1844م. وقد طالبه الوفد العثماني بوقف المعارك وتسليم الأسرى الآشوريين. وأوضح بدرخان بك لكامل باشا أن الآشوريين هم "الطرف البادئ بالاعتداء " بإيعاز من المبشرين والقنصل البريطاني في الموصل نمرود رسام . وقد ابتغت حملته عليهم مجرد تأديبهم نظراً لاعتداءاتهم المتكررة على القرى الكردية المتاخمة للمناطق الآشورية. وقد سلٌم بدرخان بك الأسرى إلى كامل باشا بعد أن شهدوا أمام الوفد بحسن المعاملة. ولكنه رفض تسليم بعض الآشوريين الذين اعتنقوا الإسلام .
ورغم أن الأمير بدرخان بك قد طوى صفحة الحرب من جانبه، فقد ظل الآشوريون المدعومون من الإنجليز علانية والعثمانيين بالصمت يتحرشون عسكرياً بالقرى الكردية مما أدى إلى مواجهة حربية في يوليو 1846م بين الأكراد والآشوريين في منطقة تخوما. ومرة ثانية، هرب مارشمعون إلى نمرود رسام قنصل بريطانيا في الموصل. ومرة ثانية، ضخٌم المبشرون والقناصل الأوروبيين حجم الضحايا الآشوريين أملاً في تشجيع حكوماتهم على الضغط على الدولة العثمانية للتدخل لإنهاء حكم الأمير بدرخان بك .
وإذا كانت الأوساط الإنجليزية وأذرعها قد صوٌرت الأزمة الكردية الآشورية على أنها صراع إسلام ضد مسيحية لإثارة الرأي العام ضد الدولة العثمانية، فإنها قد صّورتها للدولة العثمانية نفسها بأن غاياتها محو الآشوريين من هكاري وحيثما تواجدوا لخلق تجانس كردى استعداداً للانفصال عن الدولة العثمانية وإقامة دولة كردية. ومن المفارقات، دعٌم الإنجليز الآشوريين ضد الأكراد لإضعاف شوكتهم. وبذا، تَخلو هكاري من الأكراد وتصبح منطقة آشورية خالصة مما يسهل حكمها ذاتياً. وفى الواقع تمنت الأستانة أن يقضى طرف من طرفي الصراع على الآخر، وإن انزعجت بشدة جراء بزوغ كردستان البدرخانية . ويٌلاحظ أن الصراع الكردي الآشوري لا يعدو أن يكون صراعاً عشائرياً؛ إذ أن نزعة مارشمعون المسيحية لا تقل شراسة عن نزعة بدرخان بك العشائرية الكردية الإسلامية .
سقوط إمارة بوتان ونهاية عصر الإمارات الكردية
عند هذا الحد، اتفقت لندن والأستانة على ضرورة إنهاء وجود الإمارات الكردية المستقلة أو شبه المستقلة. فحسب رؤية بريطانيا، يُمثل الوجود الإنجليزي في كردستان بمثابة حائط صد إستراتيجي ضد النفوذ الروسي، وكذا، بمثابة ممر مهم للمصالح البريطانية. ومن وجهة نظر الحكومة البريطانية أن تعاملها مع دولة عثمانية ضعيفة أفضل وأسهل من التعامل مع حكومة كردية مستقلة فتية وقوية. ومن وجهة نظر الدولة العثمانية، رأى الباب العالي أهمية التخلص من إمارة بدرخان بك تأكيداً لمركزيتها على جميع الولايات العثمانية. وعقب إلغاء الإنكشارية (1826م)، أصبحت كردستان مورداً ثرياً لتزويد الجيش العثماني النظامي بالموارد البشرية وبالأخص الفرسان. ولهذا ، بات إنهاء حكم بدرخان بك في كردستان هدفاً حيوياً ومصيرياً لبقاء الدولة العثمانية ولتأمين المصالح البريطانية .
وتحت تهديد الأساطيل البحرية الأوروبية صوب المياه العثمانية، اضطرت الحكومة العثمانية إلى إعداد قوة عسكرية مدعومة من القوى الأوروبية للقضاء على أبرز الحركات الكردية خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر. وكانت الحكومة العثمانية على قناعة تامة بوعورة كردستان وجبالها الشاهقة، وشراسة عسكرها وقوة بأسهم. ولهذا، سعت إلى حل الأزمة الكردية الأشورية سلمياً وإنهاء حلف بدرخان بك المقدس. وعندما رفض الأمير، قاد عثمان باشا الأعرج - مشير الأناضول -القوات العثمانية بنفسه، وانضمت إليه كتائب أشورية وأرمنية والمرتزقة (الباشبوزق). وقد هاجم مشير الأناضول كردستان من ثلاث جبهات في اّن واحد خلال شهر يونيو 1847م.
وخلال العمليات العسكرية لم يتمكن طرف من إحراز نصر ساحق وحاسم على الآخر. وفى هذا الوقت ، انتشرت المجاعات والأوبئة والمشقات بين جميع المقاتلين. وبينما فشل الأكراد في الحصول على المواد التموينية والإمدادات العسكرية، أمر الباب العالي بالتعبئة العامة وإرسال جنود وأسلحة وذخائر من كافة الولايات العثمانية إلى القوات المحاربة في كردستان والأخطر، كثفت الأستانة عملاءها داخل كردستان لزرع الفتن وبث الفرقة بين النخبة الكردية وشراء ذممهم ووعودهم بالأموال والرتب والمناصب العالية. ومن ثم، عزل بدرخان بك عن جموع الأكراد، وتفكيك الوحدة الكردية “الحلف المقدس" وجر بعضهم إلى جانب السلطان العثماني، والإصرار على انتصار السلطنة ضد الحركة الكردية.
وفى ميدان القتال، ثبت بجلاء هشاشة الحلف المقدس. ولهذا، نجحت الجيوش العثمانية في تفريق أعضاء الحلف، وهزيمة كل واحد على حده ، وهروب بعضهم إلى بلاد فارس القاجارية وروسيا القيصرية، ولجأ البعض إلى الاعتصام بجبال كردستان، ونُفى بعضهم إلى كريت وبلغاريا. ورغم فعالية المدفعية العثمانية ونقص المؤن والذخائر وانتشار المجاعات والأوبئة والجوائح (الكوليرا)، أسهمت مشادات وتنافرات الأسرة البدرخانية الحاكمة حول مستقبل الإمارة مما هيأ المناخ للانقسامات والخيانات. ومن المفارقات، انضم عزالدين شير قائد الجناح الأيمن لقوات بدرخان بك إلى قوات السلطان. وبذا، أصبح الطريق مفتوحاً إلى إسقاط الجزيرة عاصمة إمارة بوتان. ولهذا، انسحب بدرخان بك وتمركز في قلعة أروخ . ووقف أمراء فان وبايزيد وأرضروم على الحياد. وبعد مقاومة يائسة ، وقع بدرخان بك في الأسر، واقتادوه مع أسرته إلى الأستانة في 20 يوليو 1847م، ونفاه السلطان عبد المجيد الأول إلى جزيرة كريت .
وبعد القبض على بدرخان بك وترحيله، اقترفت القوات العثمانية بحق الأكراد جرائم متعددة. وفى حملة تأديبية بقيادة الأعرج، تحوّلت عدة قرى من منطقة الجزيرة إلى أنقاض، وبيعت أملاك قادة الانتفاضة وعلى رأسهم بدرخان بك، ونكلَت القوات الغاشمة بمعظم سكان كردستان المسالمين. ورغم هذا، لم يستسلم الأكراد في ظل انتشار الكوليرا، واشتبكوا مع القوات العثمانية في حرب عصابات خلال عامي 1847-1848م، أسفرت عن ضحايا من الجانبين. ولهذا، نشر العثمانيون قواتهم العسكرية في المراكز الكردية المهمة تحسباً لاحتمالية نشوب انتفاضات وتمردات وثورات مستقبلية. ونظراً لعدم التنكيل ببدرخان بك وأسرته، روٌج المبشرون والقناصل الإنجليز رواية مفادها اتفاق السلطان العثماني والأمير الكردي للقضاء على الطموح الأشوري.
وبعد سقوط بوتان في عام 1847م، شهد عام 1849م سقوط إمارتي هكاري وبيتليس. وتعد هكاري أحد أبرز مراكز الانتفاضة الكردية ضد الدولة العثمانية، وبؤرة محورية في الوجود الآشوري الذي أسهم في تعقيد القضية الكردية. وكان عزالدين شير قد كوفئ نظير خيانته بتعيينه حاكماً على هكاري. وقد صمدت إمارة بيتليس في مقاومة القوات العثمانية حتى نهاية النصف الأول من القرن التاسع عشر. وبذا، أنهت الدولة العثمانية استقلال الإمارة البابانية لاسيما وأنها استقوت بفارس القاجارية مما أحدث احتقانات دبلوماسية بين الدولتين العثمانية والفارسية.
خاتمة
وهكذا اتضح مما سبق أن الدولة العثمانية بمساعدة بريطانيا تحديداً قد بذلت جهوداً مضيئة على درب إسقاط الإمارات الكردية وإخضاعها لحكمها المباشر بعد أكثر من ثلاثة قرون . وثبت أن الأكراد قد قاوموا بضراوة شديدة كل هذه المحاولات . بيد أن مؤازرة القوى الكبرى للدولة العثمانية وعدم اتفاق الأكراد ووقوع الخيانات بينهم قد أسهمت فى فشل المقاومة الكردية وعجزهم عن الحفاظ على امتيازتهم الإقطاعية المتوارثة منذ العصور الوسطى . وبسقوط الإمارات الكردية خضعت كردستان للحكم العثمانى المباشر منذ منتصف القرن التاسع عشر.
د. غادة موسى
أستاذ مساعد التاريخ الحديث والمعاصر – جامعة دمنهور
====================
قائمة المصادر والمراجع
أولا :الوثائق الغير منشورة
ثانيا : المراجع العربية
ثالثاً : المراجع المعربة
رابعاً :-الأبحاث المنشورة
خامساً : المراجع الأجنبية
من زوايا العالم
فضاءات الفكر
فضاءات الفكر
فضاءات الفكر