بث تجريبي

البرلمان السوري .. بين أزمة الشرعية والتطلعات لبناء دولة جامعة

في ظل التحولات المستمرة والمتسارعة التي تشهدها الساحة السورية، تمر البلاد بمرحلة فارقة في تاريخها واختبار حقيقي للقدرة على بناء دولة جامعة أو تكريس بنية تفتقر إلى الشرعية الداخلية. فعلى الرغم من تعدد المبادرات التي يقودها نظام "الشرع" منذ سقوط نظام "الأسد"، وإن جاءت تحت عنوان الإصلاح، لا تزال مفتقرة إلى التمثيل الحقيقي لجميع مكونات المجتمع السوري.
يكمن الخلل الأساسي في فلسفة بناء الدولة ذاتها وليس مجرد محتوى النصوص، حيث يُطرح برلمان انتقالي يتشكل عبر توافقات فوقية – معظمها برعاية خارجية – وبدون آليات انتخاب شفافة ورقابة شعبية فاعلة. كما يتم توزيع المقاعد وفق منطق توازني طائفي أو مناطقي، لا بناءً على إرادة الناخبين السوريين والانتماء السياسي، بما يضرب مبدأ المواطنة بحد ذاته من العمق، ويحول البرلمان إلى غرفة تنفيس للأزمات لا لحلها.
بناءً على ما سبق، يسعى هذا التحليل إلى تقديم قراءة ومحاولة لتحويل اللحظة الانتقالية الراهنة في سوريا إلى فرصة لإعادة تأسيس الدولة المدنية المؤسسية على مواطنة منتخبة، لا لمجرد إعادة صياغة قديمة منقسمة ومفتقرة للشرعية الشعبية، خاصًة مع الوضع القائم الذي يشي بإعادة إنتاج النظام القديم بصورة معدلة، وهو ما يهدد بإطالة أمد الأزمة وتوسيع فجوة الثقة بين الدولة والمجتمع.

التمثيل السياسي:
رغم النصوص المقترحة للدستور المؤقت على مفهوم الشمولية، إلا أن القراءة المتأنية لمواده بوضوح تبرز أن ما يُطرح لا يرتقي إلى مستوى عقد اجتماعي جديد، بل إنه أقرب إلى محاولة لتثبيت صيغة توافقية هشة لا تعكس إرادة الشعب السوري وطموحاته في الديمقراطية والمساواة. حيث تفتقر النصوص التي تتحدث عن تمثيل الأقليات وضمان الحقوق والمشاركة لجميع الفئات إلى وجود ضمانات دستورية واضحة، فهي تركز السلطة الفعلية في يد أجهزة أمنية وقضائية لم تتغير بنيتها.
بالتالي، يبقى التمثيل مجرد إطار نظري للاستهلاك السياسي والدبلوماسي، ودون ترجمة التطلعات والوعود إلى مشاركة فاعلة حقيقية، تعيد تشكيل العلاقة بين الدولة والمواطنين، وتفتح الباب للمصالحة الوطنية الشاملة. فعند مراجعة نصوص الدستور، يتضح لنا أنه على الرغم من ورود عبارات مثل "حماية حقوق الأقليات" أو "حرية التعبير"، فإن هذه الصبغ ليست مدعومة بضوابط قانونية لازمة للتطبيق الفعلي.
وبالإشارة إلى أن النظام الانتقالي مركّز للغاية، نجد أن ذلك قد منح السوري "أحمد الشرع" حق تعيين ثلث أعضاء البرلمان والمجلس الأعلى للقضاء، مما يضفي طابعًا استبداديًا على البناء الدستوري الجديد، ويُبنى على منطق هرمي لا يوازي المبادئ الديمقراطية التي تطالب بمناهج لا مركزية وضمان توزيع عادل للسلطة عبر انتخابات شفافة. ومن المرجح أن يؤدي ذلك إلى توتر مجتمعي طويل الأمد إذا لم تُعزز المؤسسات بضمانات فعالة للحقوق وتوازن حقيقي بين السلطات.

معوقات البناء البرلماني:
جاء الحديث حول تشكيل مجلس شعب انتقالي ضمن هذا السياق الغائم، في محاولة لإضفاء الشرعية على المرحلة الانتقالية التي لم يتم التوافق عليها وطنيًا، ولا تتوافر لها شروط وضمانات كفيلة بتحقيق تمثيل فعلي لكافة السوريين. فالبرلمان السوري في صيغته المقترحة لا ينبثق عن انتخابات حرة، ولا يتمتع باستقلال تشريعي أو رقابي فعلي، بل إنه تَشَكَّل من وظيفته التشريعية الأصيلة. ويمكن التطرق إلى مجموعة من العراقيل التي قد تعيق هذا البناء البرلماني، ويمكن توضيحها على النحو التالي:
(1) غياب التمثيل الديمقراطي الفعلي: لا يعتمد تشكيل مجلس الشعب على إرادة الناخبين أو الاقتراع المباشر، بل إنه يقوم على اتفاقات وتعيينات عبر لجنة عليا يسيطر عليها الرئيس، ما يجعل البرلمان هيئة رمزية بلا مصداقية وتمثيل فعلي للمواطنين. ويفرغ ذلك العملية التمثيلية من محتواها، لحصر السلطة في أيدي النخبة المعيّنة، بما يضعف شرعية الدولة من الداخل.
(2) تغوّل السلطة التنفيذية: لا يمتلك المجلس صلاحيات رقابية حقيقية، حيث تخضع قراراته لسلطة رئيس الدولة أو الأجهزة السيادية، ويؤدي ذلك إلى غياب الرقابة الفعلية. فالبرلمان الانتقالي يخضع لتشكيل غير منتخب، يُقسم بموجب صلاحيات الدستور المؤقت بحيث يلتزم بسياق رؤية الرئيس التنفيذية دون مساءلة حقيقية.
(3) تلاشي الرقابة المجتمعية أو الإعلامية: لا توجد آليات لمساءلة أعضاء المجلس، ولا تتوفر قنوات لإيصال صوت المجتمع أو انتقاد الأداء. ويعني ذلك أن البرلمان الانتقالي لا يتيح مجالًا لمساءلة أعضائه من قبل الشعب أو الإعلام الحر. فلا توجد جلسات عمومية مفتوحة أو بثوث صحفية، ولا تقارير سياسية شفافة، بما يضعف الاستجابة للمطالب الشعبية.
(4) التوزيع الطائفي والمناطقي: تُبنى تركيبة البرلمان على توازنات فوقية لا على أسس العدالة والمواطنة. ومع غياب الطابع المدني في توزيع المقاعد البرلمانية لا ينبع التمثيل من إرادة المواطنة بقدر ارتباطه بأحجام طائفية أو مناطقية تُخطط خارج صناديق الاقتراع. ويكرّس ذلك تقسيمًا استبداديًا تحت مسمى "التوازن"، بما يحول البرلمان إلى جسد هش تُدار فيه اللعبة السياسية عبر التقاسم المذهبي لا القوانين والكفاءة.
(5) الاعتماد على الشرعية الدولية لا الشعبية: يعوّل النظام السوري الانتقالي على الاعتراف الخارجي به بدلًا من ترسيخ الثقة الشعبية، مما يزيد من هشاشته وارتباطه بالتحولات الإقليمية. وغياب الشرعية الشعبية في مقابل الشرعية الدولية بتشكيل البرلمان يمثل أزمة مركبة، حيث يتم بناء مؤسسات الدولة بتطمينات من الخارج، بينما لا تُبنى الثقة الحقيقية إلا من قبول داخلي ملموس لها ولممثليها. فبرلمان مُدار عبر تفاهمات خارجية يفتقد الشرعية في الشارع، وسيكون هشًّا ينتظر أول أزمة لإفشاله.

ضرورة المسار الشامل:
إن المقاربة السليمة للملف السوري، ترتكز على وحدة الأرض، واحترام السيادة، وتفعيل العملية السياسية الجامعة، فأي مشروع لبناء مؤسسات الدولة يجب أن يستند إلى شرعية داخلية متماسكة لا إلى دعم خارجي مشروط. فغياب التوافق الوطني الحقيقي بين المكونات السورية كافة حول صيغة الحكم وشكل البرلمان، مع استمرار تغييب القوى الوازنة من المعادلة – وعلى رأسها الأقليات من الكرد والسريان – لا ينجم عنه استقرار، بل إنه يؤدي إلى تكريس حالة الاحتقان والتشظي المجتمعي.
وفي إطار الرؤية المصرية الراسخة، فالبناء السياسي في سوريا لا يتم عن طريق توجيهات خارجية أو الاعتماد على الاعترافات الدولية، بل عبر عملية داخلية حقيقية، تُصاغ بها المؤسسات مثل البرلمان والدستور بانسجام داخلي عميق مع تطلعات السوريين كافة، وبعيدًا عن التدخلات الخارجية. ويشدد موقف القاهرة على أن غياب التوافق الحقيقي بين كافة مكونات الشعب السوري – وخصوصًا الكرد – سيحوّل البرلمان إلى غطاء شكلي يُعرض الدولة لمخاطر التقسيم وإعادة إنتاج خطاب طائفي تهديدي، مع إعادة تدوير الأزمة بدلًا من حلها.
وختامًا، يمكن القول إنه إذا لم يتم تصميم العملية السياسية ضمن عقد اجتماعي دستوري متكامل يضمن توزيعًا عادلًا للسلطة ومؤسسات فعّالة، سيظل النظام عرضة لهشاشة بنيوية، ويمهد لعودة التطرف واستغلال الفراغ لصالح جماعات الإرهاب والانقسامات الإقليمية. ولا يمكن أن يتم بناء دولة مدنية مستقرة بقرارات فوقية أو مجالس صورية، بل يتطلب ضمان عملية سياسية حقيقية تشمل مشاركة شاملة، بما يوفر لكل مكون سوري صوتًا فاعلًا ومكانة متكافئة.
وتبقى الشرعية الوحيدة القادرة على تأسيس وطن فعلي هي تلك التي تعتمد في بنائها على الداخل السوري، وتقوم على ميثاق وطني وعقد اجتماعي جامع ينهي عقود الصراع والانقسام، لمنع الأطراف المتطرفة من استغلال الفرصة للعودة إلى المشهد السياسي السوري تحت شعارات الانتصار الطائفي أو الحماية الذاتية.

قد يهمك