بث تجريبي

إلهامي المليجي يكتب: من الحرب إلى السياسة.. قراءة معمقة في تحولات حزب العمال الكردستاني

في تحول يُعد الأبرز منذ انطلاقة الكفاح المسلح قبل ما يقارب نصف قرن، أعلن حزب العمال الكردستاني، في بيانه الختامي الصادر عن مؤتمره الثاني عشر، حلَّ هيكله التنظيمي، وإنهاء الكفاح المسلح، وإيقاف جميع الأنشطة التي تُمارَس باسمه. خطوة بحجم إنهاء أطول الحروب غير المعلنة في الشرق الأوسط لا يمكن قراءتها إلا بوصفها إعلانًا عن نهاية مرحلة تاريخية وبداية مرحلة جديدة قد تفتح الباب أمام حلٍ سياسي لأكثر قضايا المنطقة تعقيدًا وتشابكًا: القضية الكردية في تركيا.

الانتصار على الإنكار لا على الدولة

من اللافت أن البيان لم يقدّم الخطوة بوصفها انكسارًا أو تراجعًا تحت وطأة الضربات الأمنية أو العسكرية، بل باعتبارها تتويجًا لانتصار استراتيجي طويل النفس على سياسات الإنكار والإبادة والاستيعاب التي نشأت مع تأسيس الدولة التركية الحديثة بعد معاهدة لوزان ودستور 1924. فالحزب يرى أنه أنجز مهمته التاريخية بوضع القضية الكردية على طاولة السياسة، محولًا إياها من ملف أمني إلى مسألة وطنية ـ ديمقراطية شاملة.

هذا الطرح يضع الدولة التركية أمام سؤال وجودي: هل تملك القدرة على تجاوز بنيتها القومية الصلبة، والاعتراف الدستوري بالشعب الكردي وحقوقه الثقافية والسياسية؟ أم أنها ستستمر في إنكار واقع فرضته تضحيات أربعة عقود من الصراع والنضال؟

من الزنزانة إلى مركز المعادلة

رغم عزله التام في إمرالي منذ سنوات، يستمر القائد عبد الله أوجلان في لعب دور محوري، ليس فقط داخل البنية الفكرية والتنظيمية للحركة الكردية، بل في صياغة استراتيجية الخروج من زمن الحرب. لقد جاء البيان بوصفه ثمرة مباشرة لرؤيته المعلَنة في 27 فبراير/ شباط، والتي دعت إلى إنهاء الكفاح المسلح، وبناء شكل جديد من النضال يعتمد على فكر الأمة الديمقراطية، ويفتح الباب أمام التعايش السياسي القائم على المواطنة المتساوية، والوطن المشترك، لا على تقاسم السلطة أو تقطيع الجغرافيا.

بهذا المعنى، يتحول أوجلان إلى ما يشبه "المانديلا الكردي": سجين سياسي، لكنه الوحيد القادر على توجيه المرحلة الانتقالية نحو السلام، بشرط أن يعاد الاعتبار له سياسيًا، وأن يُكسر جدار العزلة الذي فُرض عليه منذ المؤامرة الدولية في 1999

التحول من التنظيم إلى المشروع

حل حزب العمال الكردستاني، وفق البيان، لا يعني نهاية الفكرة أو تجميد النضال، بل هو تحوّل من تنظيم سري ـ عسكري إلى مشروع وطني ديمقراطي مفتوح، يقوم على بناء تنظيمات شعبية ومدنية قادرة على الدفاع الذاتي، وبناء الاقتصاد المحلي، وتوسيع الديمقراطية القاعدية.

هنا تظهر ملامح مرحلة "ما بعد الحزب"، حيث تُستبدل البنية الهرمية المغلقة ببنية مجتمعية أفقية، تؤمن بالاكتفاء الذاتي والتنوع، وتقودها المرأة والشبيبة، وهو ما يتسق مع تجربة الإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا، التي تشكل مختبرًا عمليًّا لتطبيق فكر الفيلسوف عبد الله أوجلان.

تركيا أمام مفترق طرق 
هذا الإعلان التاريخي يضع الدولة التركية أمام مفترق طرق حاسم: فإما أن تغتنم الفرصة التاريخية للبدء بحل سياسي عادل ودائم للقضية الكردية، أو أن تُصرّ على خيار العسكرة والملاحقات والإنكار، ما يعني تحويل الفرصة إلى تهديد مضاعف.

الحكومة التركية ـ في حال رفضت التعامل مع هذه المبادرة ـ لن تواجه فقط تحدي مقاومة الداخل، بل ستُحاصر دوليًا من قبل الرأي العام، خاصة أن البيان وجّه نداءً واضحًا إلى البرلمان التركي والأحزاب السياسية والمجتمع المدني لتحمل المسؤولية في بناء السلام، وهو ما قد يخلق حركة ضغط داخلية متنامية. 

البُعد الإقليمي والدولي
التحوّل في استراتيجية حزب العمال الكردستاني لا يمكن عزله عن السياق الإقليمي والدولي. فالشرق الأوسط اليوم يعيد رسم توازناته: سوريا بعد الحرب، العراق المتعدد الهويات، وإيران المضغوطة من الداخل والخارج. أما الكرد، الذين يشكلون رابع أكبر قومية في الإقليم دون دولة، فقد باتوا طرفًا فاعلًا في أكثر من ساحة، سواء عبر أدوارهم في مواجهة "داعش"، أو من خلال نماذج الحكم الذاتي التي بنوها.

البيان، بتوجيهه إلى الرأي العام العالمي والحركة الديمقراطية الدولية، يسعى إلى تدويل قضية السلام، وتحويلها إلى مسؤولية أخلاقية وسياسية للمجتمع الدولي، لا سيما القوى التي شاركت بشكل مباشر أو غير مباشر في المؤامرة الدولية ضد القائد عبد الله أوجلان، أو دعمت الأنظمة التي مارست سياسات الإبادة ضد الكرد.

تحديات المستقبل: بين الأمل والكمائن
رغم التفاؤل الذي يبثّه البيان، إلا أن طريق التحول محفوف بالألغام:

- هل ستُوقف الدولة التركية ملاحقاتها وعملياتها العسكرية؟

- هل ستسمح القوى الإقليمية بقيام حركة كردية ديمقراطية موحدة؟

- هل سينجح الكرد في إدارة خلافاتهم الداخلية بعيدًا عن الصراع الحزبي والمناطقي؟

أكثر من ذلك، فإن تحويل الزخم الثوري إلى زخم ديمقراطي يتطلب أدوات مختلفة، ومهارات جديدة، وقدرة على إدارة الحشد لا بالنداء القتالي بل بالرؤية السياسية والاجتماعية العميقة.

من النار إلى الضوء

ما أعلنه المؤتمر الثاني عشر ليس مجرد نهاية تنظيم، بل بداية زمن جديد في النضال الكردي، يقوم على نقل المعركة من الجبال إلى الميادين، من بندقية الكريلا إلى أدوات المجتمع المدني، من لغة العنف إلى خطاب السياسة.

لكن السلام، كما الحرب، يحتاج إلى طرفين. وإذا كان الكرد قد قرروا طي صفحة البندقية، فإن على تركيا أن تمتلك الشجاعة لتجاوز ذاكرة الإنكار، والبدء في صياغة عهد جديد، لا يُبنى على الغلبة، بل على الشراكة الحقيقية.
لقد آن أوان السياسة.

.... نفلاً عن موقع بوابة فيتو المصرية

قد يهمك