بث تجريبي

الأمة الديمقراطية: تطبيق اللامركزية في بناء مجتمع تحرري

انتهينا في المقال السابق، إلى أن اللامركزية ليست مجرد آلية إدارية، بل مشروع تحرري يمهد لبناء ديمقراطية جذرية تبدأ من القاعدة وتصعد نحو القمة، مع الحفاظ على الهويات الثقافية والخصوصيات الاجتماعية، وفي هذا السياق، أشرت إلى طرح المفكر “الأممي” عبد الله أوجلان حول “الأمة الديمقراطية” كإطارٍ نظري يُجسد هذا النهج. في هذا المقال، سنفصل ما بدأناه سابقاً مستعرضين أسسه النظرية، وارتباطه باللامركزية، وتطبيقاته العملية، لنكشف كيف يقدم نموذجاً بديلاً عن الدولة القومية التقليدية، نحو مجتمع يقوم على التعاون والمساواة.

أسس نظرية “الأمة الديمقراطية”

لم يأتِ الطرح الأوجلاني حول “الأمة الديمقراطية” كإطار كونفدرالي أوسع، من فراغ، بل جاء كرد فعل على فشل النماذج القومية والاشتراكية التقليدية في حل قضايا الشعوب المضطهدة، خاصةً الكرد. مُستوحى من أفكار الفيلسوف الأمريكي “موراي بوكشين” في “الإيكولوجيا الاجتماعية” والإدارة البلدية الحرة، حيث يقول المفكر عبد الله أوجلان أن بوكشين “يَطرحُ تشخيصاً أكثر صواباً للمجريات الحاصلة في الحقلِ الاجتماعي، عندما قال أنّ الكادحين في المدن والقرى الأوروبية كانوا مَيّالين بقوةٍ للكونفدرالية الديمقراطية حتى أعوام 1850م، وأنّ هذه الفرصةَ ذهبت أدراجَ الرياح مع استسلامِ الاشتراكيين لمفهومِ الدولة القومية المركزية”. (مانيفستو الحضارة الديمقراطية، المجلد الثاني، ص199)، وهو ما يتسق مع رفضه للدولة القومية كأداةٍ للهيمنة والاستغلال، معتبراً إياها مصدراً للنزاعات الإثنية والاجتماعية.

على ذلك، تحل “الأمة الديمقراطية” كنموذجٍ اجتماعي يتجاوز الحدود السياسية الجامدة واللغة الواحدة والثقافة الموحدة، ويكتسب هذا البديل الديمقراطي بريقَه من كونه يعبّر عن أمة لا تقوم على الإكراه أو الإقصاء، بل على التعددية والتشاركية، حيث يصبح كل فرد وجماعة مشاركاً في صنع القرار، ولهذا يقوم ذلك النموذج على ثلاثة أعمدة رئيسية:

ـ الديمقراطية الجذرية والمباشرة: بدلاً من التمثيل البرلماني التقليدي من خلال مجالس محلية مفتوحة، حيث يمارس المواطنون السلطة مباشرة في مجتمعاتهم. بعبارةٍ أخرى، فإن ذلك يعني ضمان انتقال السلطة من المركز إلى القاعدة، بما يجعل اللامركزية جوهراً للنظام.

ـ النسوية والمساواة الجندرية: ذلك أن أحد مرتكزات “الأمة الديمقراطية” تتمثل في مفهوم “الجنولوجيا” (علم المرأة غير التقليدي)، الذي يعتبر أن السيطرة الذكورية إنما هي أساس كل أشكال الهيمنة، بما في ذلك الرأسمالية والدولة، ففي “الأمة الديمقراطية”، تكون المرأة شريكاً متساوياً في كل مستويات التنظيم، مع ضمان تمثيلها في المجالس والقرارات.

ـ الإيكولوجيا والاقتصاد التعاوني: أي أن تدمير البيئة لا ينفصل عن النظام الرأسمالي العالمي، ولهذا يقترح المفكر أوجلان اقتصاداً مشتركاً يعتمد على الاكتفاء الذاتي والتعاون، بعيداً عن الاستغلال. ومن خلال هذه التشاركية الاقتصادية تتعزز اللامركزية من خلال إدارة الموارد محلياً، مع الحفاظ على التوازن البيئي.

بهذه الأسس، تتحول “الأمة الديمقراطية” إلى أداة للتحرر الجماعي، حيث لا تكون الهوية القومية مصدراً للانقسام، بل جسراً للتعايش بين الأعراق والثقافات.

اللامركزية كأداة لتحقيق “الأمة الديمقراطية”

في سياق الاندماج الديمقراطي، تكتسب اللامركزية بُعداً تحررياً في الطرح الأوجلاني؛ إنها ليست مجرد توزيع للسلطات الإدارية، بل آلية لبناء مجتمع يبدأ من المجتمعات المحلية ويمتد إلى كونفدرالية إقليمية، حيث تتحول الدولة القومية إلى “فخ للقمع والاستغلال”. لذا؛ يقترح نموذجاً يفصل الأمة عن الدولة، مما يسمح بتعايش سلمي مع الدولة إذا لم تتدخل في الشؤون الذاتية.

وبشكلٍ عام، فإن هذا النهج يعكس تحولاً في استراتيجية الحركة الكردية من السعي لدولة كردية مستقلة إلى بناء كونفدرالية ديمقراطية تتجاوز الحدود الوطنية، ولهذا من الطبيعي أن يؤكد المفكر أوجلان بشكلٍ متكرر في كتاباته، إن “الأمة الديمقراطية” تمنح كل مكون صوتاً، محافظة على هوياته الثقافية، مما يجعلها حلاً للنزاعات في الشرق الأوسط، مثل القضية الكردية والعربية والتركية.

روج آفا والتطبيق العملي

على مدار العقد الأخير برز نموذج الإدارة الذاتية الديمقراطية القائمة في شمال وشرق سوريا كتطبيق لا مركزي يتجاوز الحدود العرقية والدينية رغم التحديات العاصفة المحيطة محليا وإقليميًا. وفي إطار هذا النموذج تم تشكيل مجالس محلية تضم ممثلين عن كل مكونات المجتمع من الكرد والعرب والآشوريين وغيرهم، مع نظام اقتصادي تعاوني ووحدات دفاع نسائية (YPJ)، ورغم التحديات المحيطة بدايةً من الحصار التركي وضغوط السلطة في دمشق…إلخ، نجحت روج آفا في بناء نموذج لا مركزي يجمع التعددية الإثنية مع الديمقراطية المباشرة، مما يثبت عملياً إن “الأمة الديمقراطية” ليست نظرية مجردة، بل قابلة للتطبيق، إنه نموذج يجسد الديمقراطية الجذرية كرفع للوعي، ولعل أبرز النجاحات التي تحققت في إطار “الإدارة الذاتية” هو تحقيق التعايش القائم على ضمان حقوق الأقليات الثقافية والدينية، والتي عبَّرت عنها العديد من الاستحقاقات الانتخابية القائمة على التمثيل المباشر، وهناك أيضا المقاومة العسكرية والأمنية، التي تجلت في قدرة “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) الذراع العسكري للإدارة الذاتية على هزيمة داعش؛ ما عزز شرعيتها الدولية لتؤكد على فاعلية أفكار مثل “الدفاع الذاتي” التي تمثل أحد الركائز الأساسية لطرح الأمة الديمقراطية. واقتصادياً، تمكنت الإدارة من اعتماد نموذجٍ تعاونيٍ يرتكز على الزراعة المستدامة والصناعة المحلية بما يعكس أفكار القائد عبد الله أوجلان الرافضة للرأسمالية.

ما سبق يعني إن “الأمة الديمقراطية” ليست مجرد مشروع فكري نظري، بل رؤية شاملة تسعى لإعادة تشكيل بنية المجتمع من خلال تفكيك مركزية الدولة القومية، وبناء نظم لا مركزية قائمة على الديمقراطية المباشرة، والعدالة الجندرية، والاقتصاد التعاوني، والتوازن الإيكولوجي. لقد أظهر تطبيق هذا النموذج في روج آفا إن بناء مجتمع تحرري لا يستلزم بالضرورة إقامة دولة جديدة، بل قد يتحقق من خلال تنظيم اندماجي ذاتي ديمقراطي يتجاوز الانقسامات القومية والطائفية، ويعزز التعددية والتشاركية، وتكمن أهمية هذا الطرح في قدرته على تقديم بديل واقعي لأنظمة الحكم السلطوية المنتشرة في كثير من مناطق العالم، وخاصةً في الشرق الأوسط، من خلال ربط النظرية بالممارسة، والفكر بالواقع. وإذا كان هذا النموذج لا يخلو من التحديات السياسية والعسكرية والاقتصادية، فإنه يظل تجربة ملهمة تفتح أفقاً جديداً أمام الحركات الاجتماعية التي تسعى لبناء مجتمعات عادلة ومستقرة خارج أطر الهيمنة التقليدية.

الغاية إذن، إن “الأمة الديمقراطية” ليست مجرد طرح كردي لحل قضية قومية، بل مشروع إنساني لا مركزي يقوم على النهج الإندماجي الديمقراطي الإنساني واسع النطاق بما يجعله قادراً على تشكيل مدخل حقيقي لإعادة بناء المجتمع على أسس من الحرية، والمساواة، والتعايش.

... نقلاً عن صحيفة روناهي 

قد يهمك