بث تجريبي

الغرب الليبي يغلي.. صرخة الشارع في وجه السلاح وحكومة الدبيبة

في طرابلس المدينة التي سئمت دوي الرصاص ووجع الانقسام، لم يعد صمت الشوارع خيارًا، فالنفوس المشحونة بالغضب خرجت عن طورها، وتدفقت جموع من الغاضبين إلى الميادين، تهتف بسقوط حكومة لم تعد تمثلها، وتطالب بخروج التشكيلات المسلحة من الأحياء والعودة إلى دولة تحكمها مؤسسات مدنية لا أهواء الفصائل في مشهد ليبي منهك منذ سنوات.

من العاصمة إلى مصراتة، تمددت شرارات الاحتجاجات، ومع تصاعد الاشتباكات المسلحة بين فصائل تدين بالولاء لحكومة الوحدة الوطنية في الغرب الليبي، باتت الثقة الشعبية بالسلطة في الحضيض.

ويحكم البلد الذي مزقته الحرب والانقسامات منذ أكثر من عقد من الزمن، حكومتان، إحداهما حكومة "الوحدة" في طرابلس، تدعمها مجموعات مسلحة متحالفة معها، إلى جانب حكومة ثانية مقرها بنغازي شرقي البلاد تسيطر على أغلب مناطق البلاد، حيث نطاق سيطرة قوات الجيش الوطني الليبي بقيادة المشير خليفة حفتر.

غضب شعبي في طرابلس

في مشهد غير مسبوق منذ سنوات، عادت الجماهير لتملأ ميادين العاصمة الليبية طرابلس، احتجاجًا على الاشتباكات المسلحة المتكررة بين التشكيلات التابعة لحكومة الوحدة الوطنية، برئاسة عبدالحميد الدبيبة، هذه المواجهات، التي باتت سمة مألوفة في حياة السكان، فجرت موجة من الاحتقان والغضب الشعبي، سرعان ما تحولت إلى مظاهرات واسعة متدرجة.

الاحتجاجات بدأت من ميدان الشهداء، في قلب العاصمة طرابلس وأشهر ميادينها، ثم امتدت إلى مناطق مثل سوق الجمعة والهضبة وعين زارة والقرة بولي وغيره من المناطق، إذ رفع المحتجون شعارات صريحة تطالب برحيل الحكومة الحالية، وإخراج جميع الميليشيات من المناطق السكنية، واستعادة الدولة لسيادتها عبر مؤسساتها الأمنية الشرعية.

ورغم الإعلان عن "اتفاق هش" لوقف إطلاق النار بين الفصائل المتناحرة، لم تهدأ النفوس، ولم تنطفئ نيران الغضب، إذ لم تعد الوعود الرسمية كافية لتبديد شعور المواطن بأن حياته باتت رهينة لتقلبات الولاءات المسلحة.

مظاهرات عين زارة والكيزة والهضبة

منطقة عين زارة كانت واحدة من بؤر التظاهر المشتعلة، حيث خرجت حشود شبابية تطالب صراحة برحيل عبدالحميد الدبيبة من منصبه، الفيديوهات التي تداولها رواد مواقع التواصل الاجتماعي، التي بثتها عديد من وسائل الإعلام المحلية وصفحاتها على وسائل التواصل الاجتماعي خاصة فيسبوك، أظهرت متظاهرين يشعلون إطارات السيارات في الشوارع الرئيسية، خاصة عند جزيرة الكيزة ومنطقة الهضبة الخضراء.

وفي مشهد غير مألوف، اندفعت أعداد كبيرة من سكان مدينة مصراتة، المعقل السياسي والعسكري للدبيبة، إلى الساحات، خاصة أمام "قاعة الشعب"، في احتجاج صاخب ضد إرسال قوات من المدينة للمشاركة في القتال بطرابلس، المتظاهرون اعتبروا هذا الإجراء "زجًّا" بأبناء مصراتة في معارك لا تمثلهم ولا تعبر عن إرادتهم، بل تخدم مصالح ضيقة لطبقة سياسية منفصلة عن الواقع.

حصار مقر الحكومة

وصل عشرات المتظاهرين، منطقة طريق السكة حيث مقر مجلس الوزراء لحكومة الوحدة الوطنية، محاولين حصار المقر ومرددين شعارات مناهضة للحكومة ورئيسها الدبيبة، إلا أنه سرعان ما واجهتهم مجموعات مسلحة بإطلاق الرصاص الحي لمحاولة تفريقهم. 

وناشد المتحدث باسم جمعية الهلال الأحمر الليبي، بهاء الكواش، الليبيين ضرورة البقاء داخل منازلهم؛ حفاظًا على سلامتهم، لافتًا إلى أن الجمعية نشرت أرقام هواتف غرف الطوارئ على صفحات التواصل الاجتماعي والقنوات الفضائية لاستقبال مكالمات العالقين. 

وفي حديثه لـ"القاهرة الإخبارية"، اليوم الخميس، أضاف "الكواش"، أن الجمعية استقبلت مئات الاتصالات من الليبيين الذين نشبت في مناطقهم اشتباكات، مؤكدًا أن الجمعية عجزت عن فتح ممرات آمنة في بعض المناطق. 

ولفت إلى أن فرق الطوارئ التابعة لجمعية الهلال الأحمر الليبي، انتشرت في عدد من المناطق داخل العاصمة طرابلس، خلال الساعات الماضية خصوصًا بعد إعلان الهدنة، وتعمل مع الجهات المختصة على فتح ممرات آمنة إنسانية؛ لتقديم المساعدات وإجلاء العائلات العالقة في مناطق النزاع.  

حصيلة الضحايا مجهولة

في سياق التعتيم الرسمي، الذي يلف حصيلة المواجهات الدامية في طرابلس، أكّد مصدر طبي مطّلع أن وزارة الصحة التابعة لحكومة الوحدة الوطنية، ترفض الإفصاح عن الأعداد الحقيقية للضحايا الذين سقطوا جراء الاشتباكات الأخيرة.

في الوقت نفسه؛ نفت وزارة الصحة الليبية عبر صفحتها على موقع فيسبوك، ما تم تداوله بشأن إصدارها لأي بيانات تتعلق بأعداد الجرحى أو الوفيات جراء الأحداث الأخيرة في العاصمة طرابلس، وأكدت أن جميع المعلومات المنشورة في هذا السياق مغلوطة.

طرابلس الكبرى

في تحول نوعي للأزمة، أصدر كيان يُعرف باسم "أهالي وسكان طرابلس الكبرى" بيانًا دعا فيه إلى عصيان مدني شامل يبدأ فورًا، مشددًا على مجموعة من المطالب الجذرية منها انسحاب جميع التشكيلات المسلحة من طرابلس الكبرى، وقصر مهام حفظ الأمن على الشرطة النظامية.

وطالب بإسقاط كل الأجسام السياسية والعسكرية القائمة، وتكليف المجلس الأعلى للقضاء بإدارة البلاد مؤقتًا عبر حكومة كفاءات وطنية مستقلة، والانطلاق في مسار انتخابي يبدأ بالاستفتاء على الدستور، ثم إجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية، خلال 6 أشهر بإشراف وطني ودولي نزيه.

وفي لقطات مصورة تداولتها وسائل الإعلام، ظهر متظاهرون يشعلون النيران في مدرعات تابعة للواء 444 أمام مقر "جهاز دعم الاستقرار" بمنطقة أبو سليم، في تعبير مباشر عن رفضهم لوجود هذه التشكيلات المسلحة في أحيائهم.

بيان مصراتة

وفي خضم هذا التصعيد، صدر بيان باسم "أهالي وثوار مدينة مصراتة"، أكدوا فيه دعمهم الكامل لما وصفوه بـ"الحكومة الشرعية في طرابلس"، داعين إلى إنهاء المراحل الانتقالية عبر مسار ديمقراطي واضح، ورغم هذا الدعم الظاهري، حمل البيان بين سطوره تحذيرات واضحة، إذ شدد على أن أي تغيير في السلطة يجب أن يتم عبر انتخابات حرة ونزيهة.

وعبروا عن رفضهم القاطع لأي مظاهر مسلحة خارجة عن سيطرة الدولة، وضرورة تفكيك التشكيلات غير النظامية وفق خطة وطنية، وإدانة الحملات الإعلامية التي تستهدف المدينة وأهلها.

أحزاب سياسية تُدين وتحذّر

الحراك الشعبي لم يكن منعزلًا عن المواقف السياسية، إذ أصدر التجمع الوطني للأحزاب الليبية، الذي يضم 24 حزبًا، بيانًا وصف فيه ما يحدث في طرابلس بـ"الدمار والقتل الممنهج"، محمّلًا حكومة الدبيبة المسؤولية الكاملة عن الفوضى وترويع المدنيين.

ودعا التجمع المجلس الرئاسي إلى تحمل مسؤولياته، والمضي قدمًا في تكليف شخصية توافقية لرئاسة حكومة انتقالية تمثل جميع الليبيين، وتعيد ترتيب المشهد السياسي والأمني، تمهيدًا للاستقرار وإجراء انتخابات.

اشتباكات مستمرة وتفاقم في الأزمة

ورغم بيانات الهدوء والدعوات إلى التهدئة، تجددت الاشتباكات المسلحة بين المجموعات المتناحرة في طرابلس ليلًا، وامتدت إلى مواقع متفرقة من العاصمة، بحسب ما نقلته وكالة "فرانس برس" عن مصادر أمنية، مشيرة إلى أن اشتباكات الأيام الماضية أسفرت عن مقتل 6 أشخاص على الأقل.

مجلس النواب الليبي أدان هذه التطورات، معتبرًا أن ما جرى "يهدد المسار السياسي الذي بات في أواخر النفق"، واتهم حكومة الدبيبة بـ"افتعال" التصعيد للحفاظ على وجودها وتعطيل جهود تشكيل حكومة موحدة.

وفي خطوة تصعيدية، طالب البرلمان المجتمع الدولي وبعثة الأمم المتحدة في ليبيا بسحب الاعتراف بالحكومة الحالية في طرابلس، ودعم المساعي المشتركة مع المجلس الأعلى للدولة لتشكيل سلطة تنفيذية جديدة، ذات ولاية واضحة، تنهي الانقسام وتعيد البلاد إلى سكة الانتخابات.

أزمة تتفاقم

تأتي هذه الأحداث وسط انسداد سياسي مزمن، وانقسام المؤسسات السيادية، وغياب توافق دولي على خارطة طريق واضحة لإجراء الانتخابات، ما جعل ليبيا على مشارف موجة جديدة من العنف والفوضى.

وفي ظل غياب حكومة موحدة قادرة على فرض سيطرتها، وتنامي الغضب الشعبي، ووجود جماعات مسلحة لها أجنداتها الخاصة، يبدو أن البلاد تسير في طريق وعر، قد تكون فيه الكلمة للسلاح لا للصناديق، ما لم يُستجاب لمطالب الشارع، ويُغلب منطق الحوار على رهانات القوة.

قد يهمك