على مقربة من ضفاف النيل، وفي قلب العاصمة المصرية القاهرة، نظم مركز آتون للدراسات السياسية "فعاليات سيمنار التاريخ الوسيط" للسنة الثانية على التوالي، وسط حضورة لنخبة من المتخصصين في علم التاريخ، لا سيما في هذه الحقبة الزمنية المهمة، خصوصاً عندما يتعلق الأمر بإسهامات المكون الكردي، وسط إشادات من المشاركين بدور الكرد، وما قدموه حضارياً، واندماجهم في المجتمعات مع الحفاظ على هويتهم.
فعاليات السيمنار الثاني جرى خلالها استعراض عدد من الدراسات المتميزة، لكل من الدكتورة أمينة إبراهيم دربك، والدكتورة شيماء يعقوب، والدكتورة سامية جمال عبدالرحيم، والدكتور إبراهيم مصطفى الصعيدي،والدكتور محمود عزب، فيما كان التعقيب للأستاذ الدكتور إبراهيم محمد مرجونة، والأستاذة الدكتورة تيسير محمد شادي، فيما شارك في التعقيب عبر زووم الدكتور خليل العلي الرئيس المشترك لمنسقية الجامعات في إقليم شمال وشرق سوريا، والدكتور صلاح الدين مسلم الأستاذ بجامعة كوباني السورية.
إسهامات عظيمة للكرد في التاريخ الإسلامي
أدار الندوة وقدمها الدكتور علي ثابت صبري الأكاديمي والباحث في علم التاريخ، والذي استهل الندوة بالترحيب بالحضور، موضحاً أنه سيتم التركيز في التاريخ الوسيط على التاريخ الإسلامي، وما يخص إسهامات الشعب الكردي فيه، خاصة أن المكون الكردي كان له إسهامات عظيمة في تلك الفترة، وقد اشترك الكرد بشكل مباشر في كل الأحداث العظيمة التي مر بها العالم الإسلامي، وتصدر للدفاع عنه، وقاد الأمة الإسلامية لانتصارات عظيمة.
وأوضح "صبري" أن هذا يأتي فضلاً عن إسهاماتالمكون الكردي الواضحة في الثقافة الإسلاميةـ وغيرها من المجالات، لافتاً إلى أن الكرد شعب زراعي، والشعب الزراعي بطبيعته يبحث عن الاستقرار وبناء الحضارات، مؤكداً أن هذا ما ينطبق على الكرد، منوهاً إلى أن هذا الشعب على مدار تاريخه لم يكن صدامياً.
الجلسة الأولى
نقل الدكتور علي ثابت صبري الكلمة الأولى في الجسلة الأولى إلى الدكتورة أمينة إبراهيم دربك، التي تحدثت عن أهمية دراسة المدن وتاريخها، حيث استعرضت دراستين لها، الأولى هي: مدينة كركوك منذ الفتح الإسلامي حتى الغزو المغولي (21 – 656ه/ 642 – 1258م). أما الثانية: مدينة شهرزو منذ الفتح الإسلامي حتى الغزو المغولي .. دراسة في التاريخ السياسي والحضاري (21 – 656ه/ 641 – 1258م).
وأوضحت أن الدراسة الأولى أتت كأول دراسة متخصصة حول تاريخ مدينة كركوك التي لم يكتب عنها من قبل سوى بعض البحوث الجغرافية، رغم أنها تحتفظ بتراث هام وشهدت أحداثاً هامة على مر التاريخ، بما تملك من موقع متميز ومكانة كبيرة في التاريخ الإسلامي، وبما عرفت به من تنوع في مكوناتها وفي مقدمتهم الكرد، الذين كان لهم إسهامات عظيمة، وقد شاركوا في الفتوحات الإسلامية ومواجهة ثورات الخوارج والقرامطة وغيرهم.
أما الدراسة الثانية والتي كانت عن مدينة شهرزور، فتقول الدكتورة أمينة إن أهميتها تأتي من كونها تسلط الضوء على تاريخ شهرزور، هذه المدينة العراقية القديمة التي أدت دوراً حضارياً بارزاً. وقد كانت خط الدفاع الأول عن بعض المدن الرئيسية مثل الموصلوكانت مسرحاً للصراع بين القوى السياسية.
انتقلت بعد ذلك الكلمة إلى الدكتورة شيماء يعقوب، التي قبل أن تتطرق إلى دراستيها أبرزت دور الكردالتاريخي على كافة المستويات وفي كافة المجالات،وكيف كان لهم تفكيراً مسبقاً للأمام، وخاصة فيما يتعلق بالمكانة الكبيرة التي أولوها للمرأة، معددة الأمثلة على ما ذكرته.
وقد استعرضت الدكتورة شيماء بدورها دراستين لها، الأولى كانت في مرحلة الماجستير والتي ركزت على دور الكرد في مصر عصر المماليك البحرية (648 –784ه/ 1250 – 1382م)، حيث سلطت من خلالها الضوء على الدور الكبير الذي لعبه الكرد وأهميتهم خلال عصر المماليك، لا سيما وأن هؤلاء حين أتوا إلى مصر بعد الدولة الأيوبية لم يكن لديهم الخبرة السياسية والإدارية الكافية، ومن هنا وجدوا ضالتهم في الكرد الذين كانوا رجال دولة ولديهم الخبرة في إدارة شؤون الدولة.
ونوهت إلى أن الكرد كانوا عنصراً أساسياً خاصة في العهد الأيوبي، وقدموا إسهامات كبيرة ومجد سياسي وعسكري كبير من ذلك معركة حطين، قائلة إنه يكفيهم فخرأ أن يخرج منهم أبطال لا ينساهم التاريخ مثل صلاح الدين الأيوبي، حيث تطرقت في الدراسة إلى دورهم السياسي والاقتصادي والاجتماعيوالعسكري، وإسهاماتهم كذلك العلمية والحضارية.
أما دراستها الثانية وهي خاصة بالدكتوراة، وكانت حول الدور السياسي والحضاري للنساء الكرد في العصر العباسي؛ حيث قالت إن المرأة الكردية ساهمت بدور مهم في العصر العباسي والدويلات المستقلة في المشرق الإسلامي، مؤكدة أن دور المرأة ظهر كذلك فيمختلف المجالات، وكانت تقف جنباً إلى جنب مع الرجل.
تقييم في ختام الجلسة الأولى
في ختام الجسلة الأولى، انتقلت الكلمة إلى الأستاذة الدكتورة تيسير محمد شادي للتعقيب على الدراسات التي تم استعراضها، وقد أشادت بتجربتي الدكتورة أمينة إبراهيم دربك والدكتورة شيماء يعقوب. وقد أشارت في هذا السياق إلى الصعوبات التي تواجه الدراسة التاريخية للمدن مثل حالتي شهرزو وكركوك، وفي مقدمة ذلك ندرة المصادر عن تاريخ المدن، بل والأصعب من ذلك أن يتم تخصيصها عن مدن كردية.ولفتت إلى أن الدكتورة شيماء يعقوب بذلت بدورهامجهوداً كبيراً فيما يتعلق بدراسة موقع الكرد خلال دولة المماليك في مصر، وكذلك دور المرأة الكردية، مشيرة كذلك إلى ندرة المصادر والمراجع في مثل هذه الدراسات.
انتقلت الكلمة التقييمية الثانية إلى الأستاذ الدكتور إبراهيم مرجونة، الذي أكد أهمية التاريخ الكردي ودراسته، مشيراً في هذا السياق إلى أهمية دراستي كركوك وشهرزور، معتبراً أنهما دراسات جيدة جداً وفيغاية الأهمية؛ كونها تطرقت إلى البعد الجعرافي بما يشكل من فكر وثقافة وكينونة الشعوب، وبما يتميز به المجتمع في المدينتين، موضحاً أن هذه المجتمعات عاشت في حالة سلام وكل فرد فيها يتعامل كعضو ناجح وفاعل فيه، على نحو ينسجم مع فلسفة المفكر الأممي عبدالله أوجلان، وفكرة المؤاخاة التي تذيب الفوارق. وقال إن ما ميز الكرد في كركوك وشهرزور حالتهم السلمية، والعيش المشترك مع جميع العناصر السكانية. ولفت إلى أن هذه الإمارات لم تفكر في الخروج عن الدولة حتى لو كانت مستقلة، موضحاً أن هذه طبيعة الكرد على مر تاريخهم؛ فالكردي يريد أن يكون فاعلاً في مجتمع لا أن يسبح عكس التيار، كما أنه يندمج في المجتمع الذي لا يعيش فيه لكنه يحافظ على هويته من الذوبان.
وعن دراستي الدكتورة شيماء يعقوب، أكد الدكتور إبراهيم مرجونة أهميتهما خاصة أنها تناولت الكرد في عصر المماليك، الأمر الذي يعبر عن ديمومة الوجود الكردي، وأن الكرد دائماً جزء من الحصون وتأسسواعلى تربية دينية جهادية تؤمن بالآخر والتنوع ولا تدعو لعزله. وأشار إلى أن الكرد عرفوا خلال فترة المماليك بالتميز العسكري والمهاري وساهموا في حماية الثغور في الدولة الإسلامية، وكان لهم حضوراً سياسياً وإدارياً كبيراً، كما وجد المماليك فيهم مجموعة تستطيع الاندماج والتعايش. وأشار إلى أن الدراسة الثانية تطرقت إلى المرأة الكردية، بما لديها من دور كبير، وإيمان من الرجل الكردي بمكانتها، وهو إيمان ناتج عن وعي منه بأهميتها.
رؤية من شمال وشرق سوريا
قبل إنهاء الجسلة الأولى، جرى الاستماع إلى تعقيبين من الدكتور خليل العلي الرئيس المشترك لمنسقيةالجامعات في إقليم شمال وشرق سوريا، والدكتور صلاح الدين مسلم الأستاذ بجامعة كوباني. وأكد الدكتور خليل العلي أهمية انعقاد هذا السيمنار، باعىتباره خطوة مهمة في مسار التعاون الأكاديمي، وبما تحمل العلوم من أهمية في خلق التواصل بين الشعوب، والتأكيد كذلك على اعتزاز الكرد بالعلاقات التاريخية مع العرب.
بدوره، أكد الدكتور صلاح الدين مسلم أن الكتابات التي تكتب عن الشرق الأوسط والشأن الكردي من شأنها تطوير العلاقات العربية الكردية، التي أكد أننا في أمس الحاجة إلى تطويرها. وتحدث في هذا السياق عن الخلافات بين الكرد والعرب والفرس، وقال إنه عند تحليل التاريخ سنجد أن وراء تلك الخلافات ذهنية الدولة. كما أكد الحاجة إلى الفصل بين التاريخ المجتمعي والتاريخ الذي كتبته الدولة، موضحاً أن مشكلة الأول أنه لم يكتب.
الجلسة الثانية
وبعد استراحة وجيزة انطلقت فعاليات الجلسة الثانية، وجرى خلالها استعراض 3 دراسات متميزة، منها دراسة الدكتور محمود عزب التي أتت تحت عنوان: الدور السياسي والعسكري للأكراد في عهد السلطان صلاح الدين الأيوبي خلال الفترة الواقعة بين عامي (566 – 589ه/ 1170 – 1193م). وقد أوضح في كلمته أن الدراسة جاءت لإلقاء مزيد من الضوء على تاريخ وحضارة مكون مهم من مكونات الأمة الإسلامية، متمثلاً فى الكرد، موضحاً جوانب سياسية وعسكرية مهمة خلال فترة عصيبة من تاريخ الأمة الإسلامية،قاصداً هنا عصر الدولة الأيوبية، التي واجهت الحروب الصليبية.
ولفت إلى أنه من خلال هذه الجوانب السياسية والعسكرية يمكن أن نوضح ما كان لقادة الكرد من صفحات ناصعة فى التاريخ السياسي والعسكري خلال تلك الفترة، مؤكداً أيضاً أنه يكفي الكرد فخراً أن السلطان صلاح الدين الأيوبي موحد الجبهة الإسلامية ومحرر بيت المقدس وصاحب نصر حطين كان ينسب لهم.
وتحدث الدكتور محمود عزب كذلك عن أسباب اختياره للموضوع، موضحاً أن هذا يعود إلى دور الكرد السياسي والعسكري المهم خلال عصر الحروب الصلبية، وإن كانت هناك بعض الدراسات التي تحدثت عن الكرد ودورهم السياسي والعسكري خلال عصر الحروب الصليبية بصفة عامة، إلا أن موضوع الدراسة أكثر دقة وتخصيصاً، ولم يقتصر على الدور الكردي في جهاد الصليبيين فحسب، وإنما يتناول أصل الكرد، وظهورهم على مسرح الأحداث التاريخية، والموطن الأصلي لهم، ومدى تأثيره على سلوكهم وأخلاقهم وطبائعهم المختلفة، ونظامهم العسكري في الحروب.
دراسة أخرى كانت للدكتورة سامية جمال عبدالرحيم وسلطت الضوء فيها على إمارة بني شداد، مؤكدة أننا حين نتحدث عنها لا نتحدث عن سطور منسية في كتاب قديم، بل عن قصة نُسجت بخيوط القوة والحكمة، في أرض من أغنى أراضي الشرق، على ملتقى الجبال والأنهار، في قلب جنوب القوقاز، والتي قامت في زمن كانت الخلافة العباسية تترنح فيه، والقوى الإقليمية تتنازع، فبرز بنو شداد بثبات وحضور، وحافظوا على استقلالهم النسبي في بحر متلاطم من الصراعات، وأداروا شؤون دولتهم بحنكة جعلتهم نموذجاً يُدرّس في فن البقاء السياسي.
وفي هذا السياق، أوضحت أنه لا يمكن أن نتحدث عن هذه الأرض وتاريخها دون أن نذكر الكرد، ذلك الشعب الذي عُرف بالقوة والشجاعة، والقدرة على الصمود أمام التحديات، حيث أكدت أن الكرد كان لهم دوراًمحورياً في الدفاع عن الإسلام، وحماية حدود هذه المناطق، وصد الغزوات المتكررة، منوهة إلى أنهم كانوا دائماً في الصفوف الأولى حين تتعرض البلاد للخطر، كما لفتت إلى أن الكرد بطبيعتهم لا يعرفون الاستسلام، وظلوا على مر العصور قوة فاعلة في صنع الأحداث وحماية القيم التي يؤمنون بها.
وأوضحت الدكتورة سامية جمال أنها اختارت هذا الموضوع لأنها تؤمن أن التاريخ الكردي والإسلامي في هذه المنطقة، لم يعط ما يستحقه من دراسة، رغم أن أرضه شهدت ولادة كيانات كان لها أثراً كبيراً في صياغة المشها السياسي والحضاري للشرق، كما أوضحت أن بني شداد، وإن اختلفت هويتهم العرقية، إلا أن أرضهم وتاريخهم امتزج بتاريخ شعوب هذه المنطقة، ومنها الشعب الكردي، في مسيرة طويلة من التفاعل والمصير المشترك.
أما الدراسة الأخيرة فكانت للدكتور إبراهيم مصطفى الصعيدي، وفيها يسلط الضوء على مفهوم "هيبة الدولة" ويحدده ويعرفه، ومنها التعريف الإجرائي المتمثل في قدرة الدولة على استخدام استراتيجية تحافظ بها على مقوماتها ونظمها ومؤسساتها وحدودها وحقوق المواطنين داخلها، وإجبار الأفراد والمؤسسات داخلياً والدول الأخرى خارجياً على احترامها، وهنا يضرب المثل بالدولة الأيوبية، والتي وصف عهدها – أي عهد الأيوبيين الكرد – بأنه من أزهى فترات الحضارة الإسلامية في مصر والشام، مع أنها نشأت في ظروف في غاية القسوة والتعقيد، على مختلف المستويات الأمنية والسياسية والعسكرية والحضارية والدينية.
وقد تطرق الدكتور إبراهيم مصطفى الصعيدي في الدراسة إلى استراتيجيات وآليات تشكيل هيبة الدولة الأيوبية وإرساء قواعدها في عهد صلاح الدين الأيوبي، موضحاً أن قوة الدولة الأيوبية ظهرت في ظل الظروف العصيبة، بقدرتها على استحداث وسائل واستراتيجيات حديثة؛ فقد استحدثت سلاح البحرية، الذي قد انتهى في مصر بسقوط الدولة الفاطمية، كما استحدثت الدولة فرقاً عسكرية وأسلحة بالجيش، استطاعت من خلالها تنفيذ عمليات عسكرية كبرى، كسلاح الاستخبارات، كما أنه من مظاهر عظمة هذا العصر، أن السفارات لم تنقطع حتى وقت الحرب، وكذلك العلاقات التجارية، والتي استطاعت الدولة أن تطوع هذه العلاقات في تحقيق أهدافها، وزيادة قوتها، وفى النهاية استطاعت الدولة أن تنجح في مواجهة التحديات العالمية في ذلك العصر، وتحقق هيبتها، ولعل فشل الحملات الصليبية خير شاهد على ذلك،
وقد اختتم فعاليات الجلسة الثانية من سيمنار التاريخ الوسيط الثاني بتعقيبات تقييمية من الدكتور إبراهيم مرجونة والأستاذة الدكتورة تيسير شادي، وبعدها فتح النقاش أمام الحضور الذين مثلوا كوكبة من الباحثين والمثقفين والسياسيين والأكاديميين، مثل الدكتور طه علي أحمد الباحث في شؤون الهوية، والدكتورة سحر حسن أحمد المتخصصة في علم التاريخ، والدكتورة فرناز عطية المتخصصة في العلوم السياسية، والناشطة النسوية الكردية نوجين يوسف، وليلى موسى ممثل مجلس سوريا الديمقراطية في القاهرة، والباحث السياسي المصري محمد صابر، وغيرهم.
منبر الرأي
من زوايا العالم
فضاءات الفكر
فضاءات الفكر