على امتداد التاريخ، امتزجت طرق العرب والكرد في لوحة فسيفسائية من التعايش والصراعات، حيث تلاقت الثقافات وتقاطعت المصالح، فتارةً تشابكت الأيدي في ميادين الحضارة، وتارةً أخرى في المحطات التاريخية الإنعطافية وأحياناً قليلة اصطدمت في دهاليز السياسة والحكم بسبب العقليات والممارسات السلطوية الأحادية. من جبال كردستان الشامخة إلى سهول الجزيرة العربية الممتدة، كُتبت حكايات من الأخوة والتحالف والتكامل. فالعرب والكرد لم يكونوا مجرد جيران يتقاسمون الأرض، بل كانوا رفاق درب في مسيرة التاريخ، تبادلوا التأثير الثقافي، واندمجت لغاتهم ولهجاتهم في إيقاع الحياة اليومية، واشتركوا في الدين والمصير. لكن السياسة— بوجهها المتقلب — خلقت أحياناً بينهم فصولًا من الجفاء والنزاع عندما سلكت بعض السلطات طرق الالتفاف على إرادة الشعوب. ومع ذلك، يبقى الأمل حاضرًاً في أن تعود روح التآخي والعلاقات التاريخية لتُعيد رسم مستقبلٍ قائم على العدالة والاحترام المتبادل، بعيدًا عن إرث الصراعات والممارسات الأحادية التي أثقلتهما العقليات السلطوية والتبعيات للخارج، بيد أن هذا من الممكن أن يحدث من خلال مشروع " الأمة الديمقراطية" وتحقيق الحرية والديمقراطية لمجتمعاتنا ولشعوبنا.
إذ أن العلاقات العربية الكردية تعتبر من القضايا التاريخية المعقدة التي تشكلت عبر قرون من التفاعل السياسي، الاجتماعي، والثقافي. وقد مرت هذه العلاقات بمراحل مختلفة من التحالفات والتكاملات، حيث لعبت العوامل الجغرافية، الدينية، والسياسية دورًا محوريًا في تحديد طبيعة العلاقة بين الطرفين. في العصر الحديث، ازدادت تعقيدات هذه العلاقة مع نشوء الدول القومية، مما أدى إلى أزمات سياسية متكررة، وخاصة في العراق وسوريا. من بين المفاهيم الحديثة التي تم طرحها لمعالجة هذه الإشكاليات، نجد مشروع المفكر عبد الله أوجلان "الأمة الديمقراطية"، الذي سعى إلى تقديم رؤية جديدة للعلاقات بين المكونات المختلفة، ومنها العرب والكرد.
العلاقات العربية الكردية قبل الإسلام
كانت العلاقات العربية الكردية في ظل حكم الميتانيين تتسم بالتداخل الثقافي والجغرافي، حيث عاش العرب والكرد في مناطق متجاورة جنوب العراق وغيرها. حكمت الدولة الميتانية (حوالي 1500-1300 ق.م) مناطق واسعة من شمال بلاد ما بين النهرين وأجزاء من سوريا وتركيا الحالية، وتأثرت بالحضارات المجاورة مثل الحيثيين والآشوريين والمصريين.
لم يكن هناك إشكاليات بين الأقوام والأمم المختلفة في تلك الفترة كما هو معروف اليوم، حيث كانت الحدود الطبيعية لكل مجتمع وشعب، ولكن القبائل السامية التي استقرت في المناطق الجنوبية من الميتانيين ربما تفاعلت تجاريًا وثقافيًا مع المجموعات اللغوية الهندوآرية الحاكمة، والتي يعتقد أن الكرد من نسلها. وقد أسهم هذا التفاعل في تبادل التأثيرات اللغوية والاجتماعية، خاصة أن الميتانيين اعتمدوا على شبكة تجارية واسعة امتدت إلى الجزيرة العربية.
لذا، يُمكن اعتبار هذه المرحلة من التاريخ نموذجًا مبكرًا للعلاقات بين العرب والكرد، كما هي العلاقة مع المصريين القدماء في هذه الفترة، حيث لم تكن هناك صراعات سياسية واضحة بين الطرفين إلا مؤقتة وتنتهي باتفاقيات الصلح كما هي اتفاقية قادش بين المصريين القدماء من جهة والميتانيين من الجهة الأخرى، ولقد كانت العلاقة قائمة على التبادل والتعايش والزواج السياسي في ظل حكم الميتانيين الذين شكلوا قوة إقليمية مؤثرة في عصرهم مع البابليين والمصريين القدماء.
الكرد والعرب في التاريخ الإسلامي
مع انتشار الإسلام في القرن السابع الميلادي، انضم الكرد إلى الحضارة الإسلامية، وبرز العديد من القادة الكرد الذين لعبوا أدوارًا بارزة في التاريخ الإسلامي، مثل صلاح الدين الأيوبي ، الذي أسس الدولة الأيوبية في القرن الثاني عشر. وقد كانت العلاقة بين العرب والكرد في هذه الفترة قائمة على التعاون والتكامل، حيث أسهم الكرد في الدفاع عن الأراضي الإسلامية ضد الصليبيين والتتار. ومع ذلك، شهد التاريخ الإسلامي بعض التوترات بين الحكام العرب والكرد، خاصة عندما حاولت بعض القادة في الخلافتين الأموية والعباسية ممارسة التعصب والأحادية، أو عندما اصطدمت المصالح الإقليمية بين القوى العربية والكردية.
العلاقات العربية الكردية في العصر العثماني
مع صعود الدولة العثمانية في القرن السادس عشر، خضعت معظم المناطق الكردية للحكم العثماني. منح العثمانيون الكرد بعض الامتيازات الذاتية، وعقدت اتفاقات مع الإمارات الكردية بعد معركة جالديران (1514م)، ومنحتها حكمًا ذاتيًا مقابل الضرائب والمشاركة في الحروب. وعلى الرغم من ذلك، كانت هناك فترات من التوترات نتيجة لمحاولات العثمانيين تحجيم دور الكرد وإنهاء خصوصيتهم وإداراتهم المحلية.
من جهة أخرى، كانت العلاقات بين العرب والكرد خلال الحكم العثماني متأثرة بالصراع بين القوى العثمانية والفارسية " الدولة الصفوية " ، حيث حاول الطرفان استمالة الكرد والاستفادة من قوتهم وجغرافيتهم لتعزيز نفوذهم في المنطقة. وفي عام 1683م، تحالف الكرد رسميًا مع الدولة العثمانية وشاركوا في معاركها. كما أدت النزاعات بين الدولة العثمانية والصفوية إلى تقسيم الأراضي الكردية بين الإمبراطوريتين، مما أثر على وضع الكرد وعلاقتهم بالعرب. رغم ذلك، لم تكن هناك خلافات عرقية جوهرية بين العرب والكرد في هذه الفترة، حيث كان كلاهما جزءًا من الإمبراطورية العثمانية، ويعانيان من هذه الدولة نفسها.
التغيرات في القرن العشرين: الدول القومية وصعود القومية الكردية
لم يكن التاريخ رحيمًا بهذه العلاقة. إذ جاءت التحولات السياسية في القرن العشرين لتعيد ترسيم الحدود، وتضع العلاقة بينهما في اختبار جديد، بين تطلعات الكرد نحو تقرير المصير، ورؤية الدول العربية للوحدة والاستقرار. فمع انهيار الإمبراطورية العثمانية بعد الحرب العالمية الأولى ( 1914 – 1918م) وبداية عصر الدولة القومية، تعرضت العلاقات العربية الكردية لاختبارات كانت قاسية على سبيل المثال لا الحصر. تقسيمات سايكس-بيكو 1916م، ومحاولات طمس الهوية الكردية، والصراعات السياسية، كلها عوامل أسهمت في تعقيد هذه العلاقة. ومع ذلك، ظل الكرد والعرب يتشاركون في هموم واحدة، ويواجهون تحديات مشتركة، من الاستعمار إلى الأنظمة الشمولية، ومن الحروب الأهلية إلى التهديدات الخارجية. جل هذا أدى ذلك إلى شعور الكرد بالخذلان، حيث لم يتم الاعتراف بحقهم في إقامة دولة مستقلة.
ففي العراق، شهدت العلاقة بين الكرد والعرب توترات متزايدة، بلغت ذروتها في حروب طويلة بين الحكومة العراقية والحركات الكردية المسلحة، خاصة في الستينيات والسبعينيات. وفي سوريا، تعرض الكرد لسياسات قاسية شملت سحب الجنسية عن آلاف الكرد وحرمانهم من الحقوق الثقافية والسياسية. وأصبح الكرد جزءًا من الدول العربية الناشئة، لكنهم واجهوا سياسات تهميش ومحاولات تعريب، خاصة في فترة حكم الأنظمة القومية مثل حزب البعث.
واليوم، في ظل التحولات الجيوسياسية الكبرى التي تشهدها المنطقة، تبرز فرص جديدة لإعادة تعريف هذه العلاقة. فمن خلال الحوار والمصالحة، ومن خلال الاعتراف بالتنوع الثقافي والسياسي، ومن ثم يُمكن للعرب والكرد أن يبنوا مستقبلًا مشتركًا يقوم على الاحترام المتبادل والتعاون الاستراتيجي. لا شك إنها لحظة تاريخية تتطلب من الجميع أن ينظر إلى الماضي بوعي، وإلى الحاضر بمسؤولية، وإلى المستقبل بأمل . ومن ثم يبرز على الساحة مشروع مهم يُعد من أهم الحلول للقضية الكردية ألا وهو المشروع الأوجلانى " مشروع الأمة الديمقراطية" ، وليس هذا فحسب بل يُعد هذا المشروع من أهم الرؤى لمستقبل العلاقات العربية الكردية .
مشروع أوجلان "الأمة الديمقراطية": رؤية جديدة للعلاقات العربية الكردية
في العقود الأخيرة، حاول المفكر الكردي عبد الله أوجلان تقديم مفهوم جديد للعلاقات بين الكرد والعرب، وذلك عبر مشروع "الأمة الديمقراطية"؛ إذ يقوم هذا المشروع على رفض الدولة القومية التقليدية، والدعوة إلى نموذج جديد للحكم يعتمد على الديمقراطية المباشرة، التعددية، وحقوق الشعوب المختلفة ؛ إذ تُعَدُّ العلاقات العربية الكردية من أكثر القضايا تعقيدًا في تاريخ الشرق الأوسط، حيث تباينت بين فترات من التعايش والتعاون وفترات من الصراع والتوتر. وفي ظل التحولات الجيوسياسية الراهنة، برز هذا المشروع كإطار جديد يُمكن أن يُسهم في إعادة تشكيل هذه العلاقات على أسس تعاونية وسلمية. بيد أن يسعى هذا المشروع يسعى إلى تجاوز القوميات المغلقة وإنشاء نموذج ديمقراطي قائم على التعددية، ما يجعله رؤية مهمة لتحقيق الاستقرار والتنمية في المنطقة.
مفهوم الأمة الديمقراطية
يستند مشروع "الأمة الديمقراطية" إلى فكرة تجاوز مفهوم الدولة القومية التقليدية، التي تعتمد على التجانس القومي والإقصاء، إلى نموذج اجتماعي وسياسي يتبنى التعددية الإثنية والثقافية واللغوية. يرى أوجلان أن الحلول القومية الصرفة أثبتت فشلها في إدارة التنوع العرقي والديني في الشرق الأوسط، ويطرح بديلًا يعتمد على الإدارة الذاتية، والمشاركة المجتمعية، واحترام الهويات المختلفة في إطار ديمقراطي لا مركزي.
كما يرتكز المشروع على فكرة أن الهوية الوطنية القومية لا يجب أن تكون أساس الحكم، بل يجب أن تقوم المجتمعات على أساس اللامركزية السياسية، المساواة، وتمكين كافة المكونات العرقية والثقافية من تقرير مصيرها ضمن إطار ديمقراطي تعددي. من هذا المنطلق، يشكل المشروع نموذجًا يُمكن أن يُساعد في تحقيق تقارب بين العرب والكرد من خلال التعاون السياسي والاجتماعي بدلًا من الصراعات القومية.
في سوريا، تطبق بعض مكونات الحركة الكردية هذا النموذج عبر الإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا، حيث يتم العمل بنظام المجالس الشعبية التي تشمل العرب، الكرد، السريان، وغيرهم. ورغم أن هذه التجربة واجهت انتقادات من بعض الأطراف العربية، إلا أنها تُقدم نموذجًا يُمكن أن يكون حلًّا للصراعات العرقية في المنطقة.
تأثير" الأمة الديمقراطية" على العلاقات العربية الكردية
رغم الطابع الإيجابي للمشروع، فإنه يواجه عدة تحديات، أبرزها:
التحديات والفرص في العلاقات العربية الكردية
رغم المبادرات المختلفة لتعزيز التعاون العربي الكردي، لا تزال هناك تحديات كبيرة تواجه هذه العلاقة:
مع ذلك، هناك فرص لتحقيق تعاون أفضل:
لا شك أن العلاقات العربية الكردية معقدة ومتداخلة، حيث مرت بمراحل مختلفة من التعاون والتناقض. وبينما كان التاريخ مليئًا بالدورس وأهمية الاتفاق، فإن المستقبل يحمل فرصًا للتقارب إذا تم تبني سياسات أكثر شمولية وعدالة وديمقراطية؛ إذ مشروع "الأمة الديمقراطية" يُمثل نموذجًا يُمكن أن يُسهم في حل بعض التحديات، لكنه يواجه صعوبات سياسية واجتماعية تحتاج إلى عمل وجهود أكبر لتحقيق التوافق والأخوة والتشارك الحقيقي بين الطرفين.
ورغم التحديات التي تواجهه " الأمة الديمقراطية " ، فإن اعتماده كإطار فكري وسياسي واجتماعي جديد قد يُسهم في تحقيق السلام والتنمية في الشرق الأوسط، خاصة إذا تم تطبيقه بمرونة تتناسب مع واقع المجتمعات المحلية. كما أن مناقشة مشروع "الأمة الديمقراطية" قد تفتح آفاقًا جديدة لحل مشكلات الشرق الأوسط، وتُسهم في تعزيز العلاقات بين العرب والكرد عبر نموذج قائم على التعايش السلمي والتكامل المشترك. في نهاية المطاف، فإن بناء علاقات مستقرة بين العرب والكرد يعتمد على الاعتراف المتبادل بالحقوق وفهم الشريك الأخر، وتبني نموذج للحكم يضمن العدل والمساواة للجميع. كما أن مشروع "الأمة الديمقراطية" يُمثل رؤية جريئة ومبتكرة يُمكن أن تُشكل أساسًا لعلاقات عربية كردية أكثر استقرارًا وتعاونًا على أساس السلام والمجتمع الديمقراطي وحرية وتمكين المرأة والشباب وتعزيز الدبلوماسية الثقافية والمجتمعية.
من زوايا العالم
أصداء المرأة
من زوايا العالم
من زوايا العالم