تعيش شعوب الشرق الأوسط منذ قرنين تقريبًا في دوامة من الأزمات السياسية والاجتماعية، حيث تتعاقب موجات الفعل الاعتراضي والحراك الشعبي مع موجات الثورة المضادة. وقد فرضت القوى الدولية المهيمنة نموذج الدولة القومية على المنطقة بعد الحربين العالميتين، فكان هذا النموذج أداة لترسيخ السلطة المركزية والأحادية وقمع التنوع المجتمعي، خدمةً لقوى السلطة والدولة ورعاتهم الدوليين، بدل أن وسيلة لبناء حياة ديمقراطية تشاركية، تنقذ مجتمعاتنا وشعوبنا وتبلور إرادتهم الحرة. تشير هذه المقالة إلى الصراع بين المجتمع والدولة، ودور الدولة القومية والثورة المضادة، كما تبين المسار البديل الذي اقترحه القائد والمفكر عبد الله أوجلان، والقائم على المجتمعية الديمقراطية كضمانة للحياة الحرة والسلام الحقيقي.
أزمة غياب الفعل المجتمعي الديمقراطي
إن تفاقم القضايا والأزمات التي تعاني منها شعوب ودول المنطقة يؤكد أن مجتمعاتنا ما زالت غائبة عن الفعل الإرادي المؤسساتي، رغم ما شهدته، وما تزال تشهده، من موجات فعل اعتراضي وحراك ثوري في العديد من دولها بين الحين والآخر. ويعود ذلك إلى هيمنة نسق الثورة المضادة السلطوية على معظم التحركات والثورات بالفكر والسلوك، حيث تجدّد الهياكل والتحالفات السلطوية الفوقية نفسها غالبًا عبر ضخ دماء ووجوه جديدة في عروق السلطوية الدولتية، من دون العمل على بناء المجتمعية الديمقراطية أو تجاوز ثقافة السلطة والدولة والذكورية.
الدولة القومية كأداة للثورة المضادة
في منطقتنا، الشرق الأوسط، ومع التقسيمات والدويلات التي رسمتها القوى الخارجية بعد الحربين العالميتين الأولى والثانية، أضحى النموذج الدولتي المفروض على المنطقة ـ وهو نموذج الدولة القومية ـ من أهم أشكال الثورة المضادة وفق ما أشار له القائد عبدالله أوجلان في كتبه، فقد جلب هذا النموذج الخراب والقتل والتهجير والذكورية والإبادات الجماعية على مجتمعاتنا، رغم تاريخ طويل من التعايش والتنوّع والأخوّة. ومع سيطرة هذا النموذج، لم تهدأ المشاكل ولم تُحلّ القضايا، لأنه هو نفسه الذي ينتج الأزمات، باحتكاره عناصر القوة وحق التنظيم والتعبير باسم مصلحة الدولة وأمنها، التي غالبًا ما تخدم فئة ضيقة على حساب المجتمع.
الربح كأداة للهيمنة على الإنسان والمجتمع والطبيعة
أصبح الربح هدفًا اقتصاديًا وسلطويًا يتجاوز الإنسان والمجتمع ليطال الطبيعة ذاتها، بحيث وُضِع الثلاثة في خدمة قوى السلطة والدولة، رغم كل أشكال التمويه والشكليات والأيديولوجيات المصطنعة والمحرفة، حتى من الأديان والعلوم الوضعية، لتشرعن هذه الهيمنة والنهب المنظم لقوت الشعب وموارده الأساسية. وهنا، تحوّل الربح إلى ثورة سلطوية دولتية مضادة ضد المجتمع والطبيعة، التي باتت تعاني على نحو يهدد استمرار الحياة، مع تغيّر المناخ والطقس، وارتفاع درجات الحرارة، وانتشار الأوبئة والأمراض.
الأحادية القومية وطمس التنوع المجتمعي
ولعل الأحادية التي يمتاز بها هذا النموذج من التراكم السلطوي القمعي لا مثيل لها في تاريخ البشرية؛ فهي أحادية تسعى إلى فرض لون واحد للحياة بشكل قسري، وفرض هوية الدولة القومية المصطنعة على مجتمعات متنوّعة ومختلفة، بعيدًا عن حق هذه المجتمعات والشعوب في الحفاظ على خصوصياتها وثقافاتها ولغاتها، وإدارة شؤون مناطقها، حتى ضمن الدول التي فُرضت عليها وأُلبِسَت كالثوب غير المناسب لشعوب وجغرافية الشرق الأوسط.
الركائز الأيديولوجية للهيمنة
في الأيديولوجية والفقه الرسمي للدولة القومية، كانت ـ وما تزال ـ القوموية والإسلاموية ركنين أساسيين. وهذان الركنان شكّلا القاعدة لمشروع الهيمنة على شعوب المنطقة ونهب مواردها، بدعم من النظام العالمي المهيمن. وقد استُخدما كأداتين لتبرير الاستبداد الداخلي وإدامة التبعية الخارجية، عبر شرعنة القمع، وتكريس الانقسام، ورفض وإقصاء الآخر المختلف، وإجهاض أي مشروع ديمقراطي يعبّر عن إرادة الشعوب وحقها في التعددية والحرية.
استهداف قوى الحرية والديمقراطية في ظل هيمنة الثورة المضادة
أما قوى الحرية والديمقراطية وفي مقدمتهم المرأة والشباب ـ أي قوى المجتمع الأساسية ـ فقد كانت ولا تزال تحت ضغط شديد من معظم الأطراف التي تنشط ضمن إطار الثورة المضادة، بدءًا من النظام العالمي وتابعته وأداته المتمثلة في الدولة القومية، مرورًا بمرتكزاتها من القوموية والإسلاموية. ويجري التضييق عليها وسدّ الطريق أمامها، لأنها القوى التي تعمل على تحقيق هدف بناء المجتمعية الديمقراطية كبديل عن الدولة القومية الأحادية. وهو ما يتعارض مع مصالح النخب السلطوية ومنظومة الهيمنة العالمية والإقليمية.
نحو دستور يضمن المجتمعية الديمقراطية
يمكن القول إن الصراع الأساسي في المنطقة، بل وحتى في التاريخ البشري، هو بين المجتمع والدولة، كما يشير القائد عبدالله أوجلان في كتبه. وإن فهم الثورة المضادة، وضمان القدرة على التغيير، يتطلبان إدراك ماهية هذا الصراع عبر التاريخ، وفهم أن الدولة وخاصة بصيغتها القومية تعمل على إضعاف النسيج الأخلاقي والسياسي للمجتمع، وفرض الفردانية كمنهج حياة، بما يسهل التحكم به، مهما ادّعت غير ذلك. ولقد فشلت أغلب محاولات الإصلاح والتغيير والتحول الديمقراطي في دول المنطقة، لأن الدولة القومية أعادت إنتاج نفسها بعد كل حراك شعبي أو ثورة وبسلطة دولتية جديدة. وباعتقادنا، يكمن الحل في جعل المجتمع، بكل فئاته وقواه الحرة، محور العمل والبناء والتحول الديمقراطي، من خلال مأسسة الحياة الديمقراطية، وبناء ذهنية تشاركية، وصياغة دستور ديمقراطي يضمن التعددية والشراكة بين المجتمع والدولة، ويحفظ حقوق كافة المكونات، بعيدًا عن استبدال سلطة بأخرى، كما هو الحال في معظم دول المنطقة.
نقلاً عن وكالة فرات للأنباء(ANF)
منبر الرأي
فضاءات الفكر