منذ أن خُطّت حدود سايكس بيكو على أنقاض الإمبراطورية العثمانية، باتت شعوب الشرق الأوسط تعيش في ظل دول قومية تُفرَض من أعلى، وتتغذى على مركزية مفرطة، وتُقصي كل ما لا ينسجم مع سرديتها القومية أو المذهبيةالضيقة. وقد كانت النتيجة عقودًا من الاستبداد، وصراعات أهلية، وتهميشممنهج للتنوع الإثني والديني والثقافي الذي يزخر به هذا الجزء من العالم.
لقد فشلت الدولة القومية، رغم ادعائها تمثيل "الإرادة الوطنية"، في إنتاجنموذج تعايش عادل. بل إنها تحولت، بحسب المفكر عبد الله أوجلان، إلى "نظامحرب داخلية مستدامة"، يحوّل الاختلافات الطبيعية بين المكونات إلى أدواتللفرز والعداوة، بدلًا من أن يكون التعدد مصدر غنى حضاري. في مقابل هذاالفشل البنيوي، تبرز رؤية "الأمة الديمقراطية" كإجابة جذرية على سؤال: كيفنتشارك العيش دون أن يذوب أحدنا في الآخر؟ كيف نُبني وحدة دون إلغاء،وعدالة دون استبداد؟
التعددية الجذرية... لا تجميلية
في قلب مشروع الأمة الديمقراطية، كما صاغه أوجلان مستلهمًا أطروحاتالمفكر الأناركي الأمريكي موراي بوكتشين، تقف "التعددية الجذرية" كمبدأتأسيسي، لا شعار تزييني. ليست التعددية هنا مجرد تمثيل رمزي للمكوناتالمختلفة داخل مؤسسات الدولة، بل هي إعادة صياغة كاملة للعقد الاجتماعي،تقوم على الاعتراف بالهويات المتعددة واحترامها، ومنحها حق المشاركة المباشرةفي صنع القرار.
ففي النموذج الديمقراطي التشاركي، لا يُطلب من الكردي أن يذوب في الهويةالعربية، ولا من السرياني أن يتنازل عن لغته لصالح لغة الدولة، ولا من اليزيديأو الأرمني أو الدرزي أو الشركسي أن يتحول إلى "أقلية" هامشية. بل إن كلمكون يحتفظ بهويته الكاملة، ويشارك عبر مجالسه وكوميناته وممثليه في إدارةشؤون منطقته، انطلاقًا من مبدأ "التمثيل الحقيقي لا النيابة الشكلية".
وقد جسدت تجربة الإدارة الذاتية الديمقراطية في شمال وشرق سوريا هذاالمفهوم على الأرض، حيث نُظّمت المجتمعات في مجالس محلية متعددةالمستويات، ضمّت تمثيلًا حقيقيًا لمختلف المكونات القومية والدينية. فالآشوريإلى جانب العربي، والكردي إلى جانب السرياني، والمسلم إلى جانبالمسيحي، لا يتواجهون كغرباء بل يتعاونون كمواطنين أحرار ضمن أمةديمقراطية تعددية.
هذا التعايش لم يكن سهلًا ولا فوريًا، لكنه جاء كثمرة لسنوات من التحولالثقافي، والعمل القاعدي، والإيمان بأن التمايز لا يعني التناحر، وأن وحدةالمصير لا تعني توحيد الهويات.
لكن هذا التحول نحو اللامركزية لم يكن قرارًا فوقيًا أو محاكاة ميكانيكية لنماذجخارجية، بل جاء استجابةً لحاجة ملحّة نابعة من قلب المجتمعات المهمشة، التياختبرت على مدى عقود مرارة التبعية والتهميش والتهميش المزدوج، سواء منالدولة المركزية أو من القوى الإقليمية. ومن هنا، فإن الإدارة الذاتية ليست مجردنظام حكم، بل هي فعل مقاومة وبناء في آن، مقاومة لسلطة الدولة القوميةالإقصائية، وبناء لنظام بديل يضع الإنسان لا السلطة في المركز.
في مدن مثل قامشلو والحسكة وكوباني ومنبج، تولت المجالس المحلية تنظيمالخدمات الأساسية، وجرى دمج النساء بشكل إلزامي في المناصب القياديةوفق مبدأ "الرئاسة المشتركة"، ما يعني أن كل موقع إداري يُدار من قبل رجلوامرأة معًا، في تكريسٍ لثقافة الشراكة الجندرية والاعتراف بدور المرأة كمحورللعدالة المجتمعية.
ومن أبرز ما يميز هذه التجربة هو المرونة البنيوية التي تسمح لكل منطقة بأنتصوغ آلياتها الخاصة بما يتناسب مع خصوصياتها الثقافية والديمغرافية،ضمن الإطار العام لمبادئ الأمة الديمقراطية. فلا توجد "مركزية واحدة" تفرضعلى دير الزور ما يناسب عامودا، أو على الرقة ما يناسب الشهباء. وهذا مايجعل الإدارة الذاتية قادرة على استيعاب التناقضات وحل النزاعات محليًا، عبرآليات العدالة التصالحية، واللجان المجتمعية، والاحتكام إلى الأعراف التيتتوافق مع مبادئ حقوق الإنسان.
هذه التجربة، رغم التحديات الهائلة من حروب خارجية، وحصار اقتصادي،وضغوط إقليمية ودولية، أثبتت أنها قادرة على الصمود، بل والتطور، لأنها لاتستند إلى قرار فوقي أو شعارات فارغة، بل إلى إرادة شعبية منظمة، تدرك أنطريق التعايش لا يمر عبر الدمج القسري ولا عبر التجزئة الانفصالية، بل عبراللامركزية الديمقراطية التي تحرر المجتمعات من التبعية، وتعيد إليها كرامتهاوفاعليتها.
من الربح إلى الحياة
في قلب الدولة القومية يكمن اقتصاد رأسمالي احتكاري يُخضِع الإنسانللسوق، ويحوّل المجتمعات إلى مجرد مستهلكين أو عمال مأجورين في خدمةرأس المال. هذا الاقتصاد، الذي تغذيه الشركات الكبرى والدولة المركزية، لايعترف بالقيم الاجتماعية، ولا بالتوزيع العادل للموارد، بل يحتكر الثروة والقرار، ويخلق تبعيات قاتلة تُغذّي الفقر والنزاعات وتُفكك الروابط المجتمعية.
على النقيض من ذلك، يطرح مشروع الأمة الديمقراطية تصورًا جذريًا للاقتصاديقوم على التمحور حول المجتمع لا السوق، ويُعرف بـ"الاقتصاد المجتمعي". ويُعدّ هذا المفهوم من أهم ما تبناه عبد الله أوجلان في أطروحاته، متأثرًا بأفكاربوكتشين حول "البيئة الاجتماعية" وضرورة إخضاع الاقتصاد لمبدأ أخلاقييراعي حاجات الناس وتوازنهم مع الطبيعة.
الاقتصاد المجتمعي لا يهدف إلى تعظيم الربح، بل إلى تحقيق الاكتفاء الذاتي،العدالة، وتقوية الروابط المجتمعية. لذلك، يشجع هذا النموذج إنشاء التعاونياتالزراعية والصناعية، وتمكين النساء والمكونات المهمشة من إدارة الموارد المحلية. وهو ما انعكس بوضوح في تجربة شمال وشرق سوريا، حيث أُنشئت مئاتالتعاونيات الصغيرة، لا سيما في قطاعي الزراعة والغذاء، وجرى توزيع الأرضعلى من يعمل بها، لا من يملكها وفق نظام الريع.
لم تَعُد الدولة هي الموزّع الوحيد للثروة، ولا الشركات الخاصة هي من يحددالأسعار. بل أصبحت المجالس المحلية، من خلال لجان الاقتصاد، تُخطط بشكلتشاركي للاحتياجات، وتحدد أولويات الإنفاق، وتُقيم المشاريع المجتمعية التيتخلق فرص العمل وتدعم الفئات الأكثر تهميشًا، في نموذج يعيد إلى"الاقتصاد" معناه الأخلاقي والاجتماعي.
كما أن مفهوم "الربح" نفسه أعيد تعريفه. لم يعد يُقاس بما يدخل الخزينة منأموال، بل بما تحققه المشاريع من تعزيز للتماسك الاجتماعي، تمكين للمرأة،حماية للبيئة، وتأمين للغذاء والدواء بأقل كلفة وبأعلى مشاركة ممكنة.
بهذا المعنى، لا يعود الاقتصاد مجرد أداة إنتاج مادي، بل يصبح ممارسةتحررية وتربوية في آن، تعيد ربط الإنسان بأرضه، ومجتمعه، وتاريخه، وتُخرجالإنتاج من منطق الجشع إلى منطق الاكتفاء والتشارك والحياة.
من التنميط إلى الوعي الحر
لا يمكن لأي مشروع تحرري أو نظام بديل أن يترسخ دون ثورة ثقافية وتربويةتتجاوز المفاهيم النمطية التي رسّختها الدولة القومية عبر أنظمتها التعليميةوالإعلامية والدينية. فالدولة القومية، منذ نشأتها، لم تكتفِ بالقمع الأمنيوالعسكري، بل مارست قمعًا ناعمًا عبر صناعة وعي زائف يصور التنوعتهديدًا، والمعارضة خيانة، والاختلاف انقسامًا.
من هنا، يُولي مشروع الأمة الديمقراطية أهمية قصوى للتحول الثقافي، بوصفهحجر الأساس لأي تغيير بنيوي. ويدرك أوجلان في كتاباته أن الإنسان "لا يولدقوميًا، أو متعصبًا، بل يُصنع كذلك" عبر منظومة تربوية قمعية تنسف التفكيرالنقدي، وتُعيد إنتاج السلطة الأبوية والهرمية في كل مفاصل الحياة.
لذلك، كان من أولى خطوات الإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا، منذتأسيسها، إعادة بناء النظام التعليمي من الجذور:
- بإدخال لغات المكونات في التعليم (الكردية، العربية، السريانية...) باعتبارهاحقًا لا منّة.
- وبتطوير مناهج ترتكز على مبادئ الحرية، المساواة، العدالة، البيئة،التشاركية، واللاعنف.
- وبإعادة تعريف الهوية من كونها انتماءً مغلقًا إلى كونها مساحة انفتاحوتفاعل.
- التعليم هنا لا يُفهم كمجرد تحصيل أكاديمي، بل كمجال لبناء إنسان حر، ناقد،مشارك، يتجاوز الازدواجية بين "الوطني" و"الخائن"، ويستبدلها بثنائية"الإنساني" و"الاستبدادي". وتُدَرَّسُ في بعض المدارس مبادئ الأمةالديمقراطية، والعدالة الاجتماعية، والتاريخ من منظور الشعوب لا من منظورالأنظمة.
بل امتد هذا التحول إلى الخطاب الإعلامي، والعمل الثقافي، والممارساتاليومية، حيث تشكلت مراكز ثقافية ومكتبات ومسرحيات وأفلام تعيد قراءةالتاريخ من زاوية المهمّشين، وتُنقّب في الذاكرة الجمعية عن مشترك إنسانيجامع، بدلًا من سرديات الكراهية القومية أو الطائفية.
وقد أسهم هذا التحول الثقافي في تهيئة الأرضية للتعايش بين المكوناتالمختلفة، لأنه كسر القوالب المسبقة، وفتح الأفق أمام جيل جديد يؤمن بالشراكةبدل الهيمنة، وبالحوار بدل الإلغاء، وبالاختلاف كقيمة لا كتهديد.
المرأة كفاعل أساسي في بناء التعايش
من بين كل الثورات التي بشّر بها مشروع الأمة الديمقراطية، تظل ثورة المرأةهي الأكثر جذرية وتحولًا، لأنها لا تعيد فقط موقع المرأة في المجتمع، بل تعيدتشكيل المجتمع ذاته على أسس جديدة. فالعنف، والتمييز، والهرمية، والسيطرة،كلها مترسخة في البنية الذكورية التي حكمت المجتمعات لآلاف السنين، وبلغتذروتها مع الدولة القومية الحديثة، التي وإنْ رفعت شعارات الحداثة والمساواة،لم تكن إلا إعادة إنتاج للسلطة الذكورية بأدوات أكثر مركزية وهيمنة.
بحسب عبد الله أوجلان، فإن "حرية المرأة هي معيار حرية المجتمع"، وإن تحررالمرأة لا يعني فقط تمكينها اقتصاديًا أو إشراكها سياسيًا، بل يعني تفكيكالمنظومة الذكورية بكل تجلياتها: في الدولة، والأسرة، والثقافة، والدين، واللغة.
ومن هذا المنطلق، لم يكن دور المرأة في مشروع الأمة الديمقراطية دورًا رمزيًا،بل كان محوريًا، ومؤسسًا. فقد شُكّلت أكاديميات نسوية مستقلة، ووُضعتقوانين صارمة لمناهضة العنف الأسري والزواج القسري، وفُرضت نسبة تمثيلنسوي لا تقل عن 50% في كل مؤسسة، مع مبدأ "الرئاسة المشتركة" كنموذجلحكم يوازن بين الجنسين ويكسر مركزية الذكر.
لكن التحول الأكبر تجلى في تأسيس وحدات حماية المرأة، التي ظهرت فيمواجهة تنظيم داعش، لكنها سرعان ما أصبحت رمزًا عالميًا للمرأة المقاومة،والمقاتلة، والقيادية. لم تحمل المرأة السلاح دفاعًا عن أرضها فحسب، بل دفاعًاعن مشروع تحرري كامل، وعن كرامة جميع النساء المضطهدات حول العالم.
وقد انعكست هذه الثورة النسوية على مجمل بنية المجتمع، لأن المرأة حين تُحرر،تُعيد إنتاج القيم، وتكسر منطق السيطرة، وتغرس ثقافة التشاركية والعدالة. فالمجتمعات التي كانت أسيرة مفاهيم "العار"، و"الطاعة"، و"القوامة"، بدأتتُعيد تعريف الأسرة، والسلطة، والشرف، والحق، من منطلق إنساني وأخلاقيجديد.
بهذا المعنى، لا يمكن الحديث عن تعايش مشترك دون أن تكون المرأة شريكًاكاملًا، لا ضحية ولا تابعًا. فالتعايش لا يُبنى فقط على تسوية سياسية بينالهويات، بل على تحول أخلاقي وفكري يضع المرأة في قلب المجتمع، لا علىهامشه.
الأمة الديمقراطية… أفق الخلاص في زمن الانهيار
في زمنٍ يتهاوى فيه ما تبقى من الدولة القومية تحت وطأة الحروب الأهلية،والتطرف، والانهيار الاقتصادي، واستبداد السلطة، تبرز الأمة الديمقراطية لاكبديل فوقي جاهز، بل كأفق للخلاص من الانقسام، ومنطق الإقصاء، ومنظومةالسيطرة التي رسختها أنظمة ما بعد الاستعمار.
ليست الأمة الديمقراطية مشروعًا خياليًا أو حُلمًا مثاليًا بعيد المنال، بل رؤيةعملية نابعة من حاجات الناس، وتجاربهم، ودماء أبنائهم وبناتهم الذين قاتلوا لالأجل سلطة، بل لأجل كرامة العيش المشترك. إنها لا تسعى إلى توحيد الناسقسرًا، ولا إلى فصلهم بجدران، بل إلى صياغة وحدة حرة تقوم على التعدد،وتعايش ناضج يستند إلى الوعي، لا الإنكار.
في كتاباته العميقة من زنزانته في إيمرالي، قدّم عبد الله أوجلان للأجيالالقادمة خريطة طريق نحو شرق أوسط أكثر عدلًا وتسامحًا وحرية. مستلهمًامن فكر موراي بوكتشين، ومن تراث الشعوب المقاومة، دعا إلى كسر ثالوث"الدولة – السلطة – الذكر"، وبناء مجتمع حرّ، ديمقراطي، تشاركي، لا مركزي،تُصاغ فيه السياسة من القاعدة، ويُعاد فيه تعريف الاقتصاد والتربية والثقافةوالعدالة على أسس مجتمعية أخلاقية.
تجربة الإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا، رغم كل ما يحيط بها منتحديات وتهديدات، تمثل نموذجًا أوليًا حيًا لما يمكن أن تكون عليه الأمة الديمقراطية في الممارسة: مشروعًا للتعايش، لا الهيمنة؛ للعدالة، لا الانتقام؛للمستقبل، لا للماضي المقيد بسلاسل القومية والطائفية والاستعمار.
وإذا كان انهيار النماذج القائمة قد بات واقعًا، فإن السؤال الحقيقي الذي يواجه شعوب المنطقة لم يعد: هل نُغيّر؟ بل: إلى أين نمضي بعد الانهيار؟
وفي هذا المفترق المصيري، قد لا يكون هناك طريق أوضح وأرحب وأكثرإنسانية من طريق الأمة الديمقراطية.
...نقلاً عن مركز آتون للدراسات
من زوايا العالم
منبر الرأي
أصداء المرأة
فضاءات الفكر