بث تجريبي

تحديات النساء في ظل الصراعات والأزمات

 

لم يكتفِ التاريخ بطمس وجود المرأة الفكري والروحي، بل عمد إلى إخفاء التاريخ المكتوب بفعل المرأة وهويتها البارزة في بدايات المجتمعات، فكانت رمزًا للحكمة، والأديبة، والرائدة في كل ما أسسته البشرية. فتلك الجدران والصخور، وتلك الأرض، تتكلم وترسم ملامح الأنوثة فيها. كم من يدٍ قلَبت التراب وزرعت فيه بذورًا لتنعش الحياة مجددًا، واجتهدت في حصاد تلك البذور، وأوقدت النار الأولى كفكرة مستنيرة، وتطورت فيما بعد في علم الفراسة والعلوم الطبيعية بجهدها وفكرها، واستمدّت من القوة الكونية نضالها المستمر في البحث عن حياة أفضل واستقرار وتحرّر من كل الأفكار التي تضعها في زاوية مقيدة.
فكانت النساء عبر العصور المعطاءة دائمًا: هي الأم في الدرجة الأولى، والآلهة المقدسة، وأصبحت الملكة والطبيبة والمناضلة، إلى أن قُلبت أدوارها وطُمس ذاك التاريخ الذي بنته بأيديها، وأُخفِيَت شجاعتها وأُظهرت بشكل المرأة الخنوعة. وعلى الرغم من ذلك، لم تسترح ولم تملّ، لأن في روحها ثورة لا يمكن إخمادها، تظل تناضل بشجاعتها للوصول إلى ما ترجوه من حياة آمنة ترسم فيها معالم المرأة الحقيقية.

المرأة في الشرق الأوسط، في ظل الحروب المستمرة، تلعب الدور الأساسي في المجتمعات. تعصف بها التحولات السياسية والاجتماعية وتؤثر على هذا الدور في كل مناحيه، وإلى جانب ذلك، فإن الحروب المتكررة والنزاعات المستعرة لا تزال تُلقي بظلالها الثقيلة على مسيرة تمكينها وتوعيتها. فعلى الرغم من التقدم في جميع المجالات، كالتعليم والمشاركة السياسية والاقتصادية، تبقى النساء الأكثر تضررًا في أوقات الصراع، وخاصة في بلدان الشرق الأوسط مثل: سوريا، واليمن، والعراق، وفلسطين، وليبيا، التي باتت مركزًا للحروب والتهجير والاحتلال، وما زالت لها تداعيات كبيرة وخطيرة على المرأة والمجتمع. فهذه الحروب والاحتلال والانقسام السياسي أجبرت النساء على النزوح واللجوء، وتحمل الأعباء الاقتصادية والنفسية الهائلة في كافة المجالات.

ومن النماذج الحاضرة اليوم ما شهدته سوريا من داعش والنظام البعثي، ومن ثم سياسة الجولاني الذي تسلّم الحكم بعد إسقاط النظام البعثي. نرى التحديات ملحوظة في جميع الجوانب السياسية والمجتمعية، وتواجه النساء صعوبات كبيرة في عدم إبراز دورهن في المجالات العملية والسياسية، وصولًا إلى الانتهاكات والممارسات الطائفية التي تُرتكب بحقهن، وممارسة أعمال العنف والإبادة الجماعية، كما يجري الآن في الساحل السوري، وبحق الطوائف على يد المتطرفين المتشددين. وبذلك حدثت الفوضى والأعمال التخريبية وارتُكبت المجازر بحق النساء، وهذا ما يؤكد أن السياسة الموجودة تتبع نهج التطرف الذي يمنع مشاركة النساء في المجالات السياسية والقيادية، وتفرض في الوقت نفسه هيمنة ذكورية ذات طابع عنصري أحادي الجانب ومتناقض.

وكوننا نتباحث في شأن سوريا، هناك جانب آخر علينا التطرق إليه، وهو تجارب المرأة الكردية في شمال وشرق سوريا، وفلسفة الأمة الديمقراطية التي تمثلها المرأة من كافة الجوانب، وتضم جميع المكونات بشكل عادل وشامل. وهذه التجارب التي اعتمدتها النساء الكرديات في شمال وشرق سوريا استنبطتها النساء السوريات أيضًا، واعتمدنها كتجربة مثالية يمكن من خلالها التحرر من القيود التي تفرضها الهيمنة الذكورية، والتي تسعى لتفريغ المرأة من جوهرها.

وكانت للنساء الحصة الأكبر في المناطق الكردية، من خلال تأسيس العقد الاجتماعي الجامع لكل النساء، ووحدات حماية المرأة والدفاع الذاتي، ووجود النساء كقوة دفاعية وجوهرية في سبيل الحفاظ على التمثيل العادل لهن في كل المناحي الحياتية. وكان لهذا تأثير كبير في الشرق الأوسط والعالم، وبالأخص في محاربة تنظيم داعش على يد المرأة الكردية، حيث احتفت بها العديد من البلدان والشخصيات المؤثرة، لكون النساء الكرديات يتمتعن بالإرادة الحرة، والفكر، والتنظيم النسائي الموحّد.

وكان لها الدور الأكبر أيضًا في وجودها ضمن مشروع توحيد الموقف الكردي الذي جرى مؤخرًا، وعُقد مؤتمره في شمال وشرق سوريا، وأحدث ضجّة كبيرة في الساحة السياسية والمجتمعية، لكونه يتعارض مع أفكار الهيمنة التي تدعو إلى الانقسام والتشتت. وإلى جانب ذلك، أشادت بعض الدول بهذه الخطوة، لكونها مهمة في المرحلة الحالية والأزمات التي تمر بها سوريا والمنطقة، وخاصة الخطر الذي يلاحق الكُرد والقضية الكردية ومحاولة إفراغها من الوجود النسائي البارز على مستوى أجزاء كردستان الأربعة.

لذا، من المهم جدًا إحداث ثورة ذهنية مجتمعية لفهم والوصول إلى الوعي الذي يهدف إلى المعرفة التاريخية لبناء مستقبل أفضل لجميع المجتمعات. وعليه، فإن تحرير المرأة لا يكون فقط بتغيير القوانين، بل هو ثورة ذهنية، أي تغيير في طريقة تفكير المجتمع والسلطة الذكورية. ولذلك نقول إن تجربة المرأة في شمال وشرق سوريا تمثل تجربة فريدة، ويجب حمايتها والحفاظ على المكتسبات التي حققتها، وبالأخص في هذه المرحلة التي تشكل خطورة كبيرة فيما يخص الأحداث الجارية في سوريا والبلدان الأخرى.

لذا، يلزم الاستمرار في تمكين المرأة وتوعيتها، وهذا ليس مجرد حق، بل هو ركيزة أساسية لبناء مجتمع ديمقراطي عادل. ويجب أن يتم ذلك برؤية ومنظور النساء في الدرجة الأولى، من خلال علم المرأة - الحياة (الجنولوجيا)، التي تُعتبر نافذة لجميع النساء ليتمكنّ من خلالها من الوصول إلى نساء العالم، وبالأخص في الشرق الأوسط، لأنها الداعم الأساسي لتقديم الحل للنساء. وهذا بدوره يؤدي إلى وجود حلول سياسية بعد الحرب، وتجد المرأة من خلالها فرصة لتفكيك الأنظمة الذكورية وإنهائها، فهي أرهقت المرأة وقيدتها بشكل كبير، وقمعت أصوات النساء بشكل مبالغ فيه. ولهذا، فإن التغيير الجذري يجب أن يتضمن ضمان حقوق المرأة السياسية والاجتماعية والاقتصادية، والحماية الذاتية، لبناء شرق أوسط وسوريا جديدين، تُضمن فيهما المساواة بين الجنسين، والديمقراطية، والسلام.

قد يهمك