بث تجريبي

الحل القانوني للقضية الكردية وأبعاده

منذ أكثر من قرنٍ من الزمان، يعيش الشعب الكردي حالةً من النفي والغياب داخل نصوص الدساتير وحدود الدول التي وُزِّع عليها قسرًا.

شعبٌ له لغةٌ وثقافةٌ وهويةٌ ضاربةٌ في أعماق التاريخ، لكنه جُرِّد من الاعتراف القانوني، وصار وجوده يتيمًا بين سطور القوانين. هذا الغياب لم يكن خطأً عابرًا، بل كان فعلًا متعمّدًا وممنهجًا، هدفه شطب الكرد من سجل الشرعية السياسية والحقوقية.

واليوم، ينهض القائد والمفكر عبد الله أوجلان ليضع إصبعه على جوهر الداء: القضية الكردية لن تجد طريقها إلى الحل إلا عبر الاعتراف القانوني. إنه لا يطالب بمكرمة، بل بحق أصيل، وبفتح صفحة جديدة تخرج الكرد من دائرة الإنكار إلى رحاب الدساتير، ومن هوامش السياسة إلى صلبها.

من المقاومة إلى الشرعية القانونية

في أحدث رسائله من إمرالي، شدّد عبد الله أوجلان على أن عملية السلام والمجتمع الديمقراطي وصلا إلى مرحلة الحل القانوني. وأوضح أن مئة عام من التهميش جعلت الكرد دائمًا خارج نطاق القانون.. 

لكنه في إطار الأمة الديمقراطية يصرّ على مشروع جمهورية ديمقراطية تعترف بالتعددية وتحميها. إن ما يطرحه أوجلان ليس مجرد إصلاح حقوقي محدود، بل انتقال جذري من منطق الإنكار إلى منطق الاعتراف، من هامش الدساتير إلى صلبها.

غياب القانون.. عقبة أمام السلام

غياب الأساس القانوني لا ينعكس فقط على غياب الحقوق، بل يشكل عائقًا أمام أي عملية سياسية جادة. ففي تركيا، على سبيل المثال، لم يستطع من ألقوا السلاح العودة إلى الحياة المدنية لأن البرلمان لم يُصدر قوانين تؤسس للعدالة الانتقالية. 

ولهذا شددت نائبة رئيسة كتلة حزب المساواة وديمقراطية الشعوب، كُليستان كوج يغيت، على ضرورة إدراج التعديلات القانونية في جدول أعمال البرلمان فورًا، معتبرة أن الحل لا يمكن أن يتحقق عبر النوايا الطيبة وحدها، بل بخطوات قانونية ملموسة.

الأمر ذاته ينطبق على سوريا: فالإدارة الذاتية التي نجحت في هزيمة داعش، والتي تضم خليطًا من الكرد والعرب والسريان والأرمن وغيرهم، ما تزال بلا اعتراف دستوري. وبغياب هذا الاعتراف، تبقى إنجازاتها رهينة اللحظة، قابلة للإلغاء أو التفريغ من مضمونها بمجرد تغيّر موازين القوى.

الدستور كضمانة للعيش المشترك

ما يطرحه أوجلان يتجاوز الحقوق الثقافية واللغوية التقليدية التي غالبًا ما تُستخدم كمسكّنات سياسية. هو يتحدث عن تثبيت مبدأ العيش المشترك في صلب الدستور، بحيث لا تكون هوية أي مكوّن مرهونة بمزاج السلطة أو التحولات السياسية. 

هذا الاعتراف الدستوري يحوّل الكرد من موضوع نزاع إلى شريك متساوٍ، ويجعل التعددية قوة للنظام السياسي بدل أن تكون نقطة ضعفه.

الأمة الديمقراطية كإطار للحل القانوني

يرى عبد الله أوجلان أن الحل القانوني لا يمكن فصله عن الإطار الأشمل لفكر الأمة الديمقراطية. فالمشكلة الكردية لم تنشأ فقط من غياب الاعتراف القانوني، بل من النموذج القومي المركزي للدولة الحديثة في تركيا وسوريا وسواهما. هذا النموذج أقام هويته على الإقصاء والإنكار، وحوّل الأقليات إلى تهديد دائم يجب احتواؤه أو صهره.

الأمة الديمقراطية، كما يطرحها أوجلان، تقدم نقيضًا لهذا المنطق:

- هي ليست دولة قومية جديدة، بل شبكة من المجتمعات المحلية التي تدير شؤونها ذاتيًا، في إطار عقد اجتماعي ديمقراطي يضمن مشاركة كل المكونات.
- وهي لا تنفي وجود الدولة، لكنها تسعى إلى جعلها دولة معيارية، تستند إلى القانون وتعمل كحَكم بين المكونات بدل أن تكون أداة بيد قومية واحدة.
- في هذا التصور، يصبح الاعتراف القانوني بالكرد وغيرهم من المكونات ضمانة دستورية لبقاء التنوع، لا مجرد تنازل سياسي ظرفي.

بهذا المعنى، فإن الحل القانوني الذي يطالب به أوجلان ليس مجرد تعديلات أو حقوق ثقافية، بل هو تأسيس لبنية قانونية تُمكّن نموذج الأمة الديمقراطية من العمل على أرض الواقع. فالتعددية لا تُحمى بالشعارات، بل تُكرَّس بنصوص ملزمة وقوانين راسخة.

دروس من تجارب العالم

التاريخ الحديث قدّم نماذج متعددة لحلول قانونية ناجحة. ففي جنوب أفريقيا، لم يكن إنهاء نظام الفصل العنصري ممكنًا من دون إعادة صياغة الإطار القانوني والاعتراف بالمساواة الكاملة. وفي إسبانيا، أتاح الاعتراف بالهوية الكاتالونية والباسكية في الدستور درجة من الاستقرار رغم استمرار التوترات. 

هذه النماذج تبرهن أن الاعتراف القانوني ليس ضمانًا لحل كل المشكلات، لكنه خطوة لا غنى عنها نحو سلام عادل ومستدام.

نحو مصالحة تاريخية

الحل القانوني الذي يطرحه أوجلان ليس مجرد إطار حقوقي، بل رؤية لمصالحة تاريخية. فهو يسعى إلى تحويل المظلومية الكردية من قضية نزاع إقليمي إلى نموذج ديمقراطي قادر على احتواء جميع المكونات. 

بهذا المعنى، فإن الاعتراف القانوني بالكرد في تركيا وسوريا هو المدخل لتأسيس نظام جديد يتجاوز الاستبداد القومي والطائفي، ويرسم معالم شرق أوسط أكثر استقرارًا.

الاعتراف القانوني بوابة قرن جديد

لقد آن أوان القطع مع قرنٍ كامل من التهميش والإنكار. ما يطرحه عبد الله أوجلان ليس مجرد رؤية إصلاحية، بل نداء تاريخي لتصحيح خطأ جسيم ارتكب بحق الكرد، وظلّ يهدد استقرار المنطقة بأسرها. الاعتراف القانوني بالكرد ليس مكسبًا فئويًا، بل مكسب لتركيا ولسوريا، بل وللشرق الأوسط برمّته؛ لأنه يؤسس لسلامٍ راسخٍ وديمقراطيةٍ متينةٍ تُبنى على التعددية والعيش المشترك.

إنها لحظة اختبار لإرادة الشعوب والدول: إما أن يبقى الكرد في خانة اللامرئي، فتظل الديمقراطية منقوصة ويظل السلام هشًا، أو أن يُكتب الاعتراف القانوني في الدساتير، فيُفتح أفق جديد لقرنٍ آخر، قرنٍ من العدالة والتعايش والتاريخ المشترك.

... نقلاً عن بوابة فيتو

قد يهمك