بعد رقصة خفيفة من أمطار الشتاء، وبعد يوم طويل من الاسترسال،
أجد نفسي أبحث بشكل غريزي عن سرٍّ جديدٍ مفقود،
لكن هذه المرة لم يكن البحث عن الإيقاع الذي يوقظ آلة روحي، بل عن صوت الغياب.
نحن، كبشر، نعيش في ضوضاء مستمرة من الأفكار التي لا تتوقف، وضوضاء العالم الخارجي الذي يصرخ بالكثرة،
وفي قلب هذه الضوضاء ننسى السؤال الحقيقي: أين المعنى حين يتوقف الكلام؟
توقفتُ طويلًا متأملة، كأنني أحاول تشغيل حاسة السمع في صمتٍ مطلق،
والإدراك هنا أن الصمت ليس مجرد غياب للصوت، بل هو وعاء للكلمة الأولى التي توحدنا في كل ضفة من أنهارنا المشرقة، حيث يتهادى النخيل حاملًا قصص ألف جيل. هناك ضوء خفي يضيء بصمت.
فهم الصابئة المندائيون، جيران الماء العذب، الذين يرتدون الأبيض كرمز للنقاء، ويحملون واحدة من أقدم رسائل التوحيد التي عرفها التاريخ.
غالبًا ما يطغى ضجيج الخلاف والسطحية على صوت الوجود الهادئ، فتتحول المجتمعات إلى جزرٍ منعزلة.
المندائيون يذكروننا برسالة النهر: أن الوصول إلى السلام لا يكون إلا بمعرفة الذات العميقة، والتواصل الصادق مع الحي العظيم، بعيدًا عن صخب العالم. فمن هم هؤلاء الذين وجدوا في الماء الطاهر سبيلًا للتوحيد الذي لا يمسه الضجيج؟
"(هو الملك منذ الأزل، ثابت عرشه، عظيم ملكوته، لا أب له ولا ولد، ولا يشاركه ملكه أحد. مبارك هو في كل زمان، موجود منذ القدم، باقٍ إلى الأبد)".
هذه هي أولى كلمات الصابئة، وهي سبب دهشتي الأولى، لأنها تذكرني بسورة الإخلاص التي أكررها كثيرًا في يومي من شدة تعلقي بها: "(قل هو الله أحد الله)".
يا عزيزي، عندما نتحدث عن التوحيد، يجب ألا نراه كتصور جامد أو نص تاريخي مغلق، بل كرحلة روحية مستمرة. وفي قلب هذه الرحلة المشرقية، يبرز المندائيون، أو كما يحلو لهم أن يعرّفوا أنفسهم: "العارفون"، اسم يجسد هدفك في معرفة النفس، شهودًا على بداية الفكر التوحيدي، حيث يرجعون جذورهم إلى النبي آدم ويحيى عليه السلام (المعمدان). هم ليسوا طارئين على هذه الأرض، بل هم نسيج أصيل من ذاكرتنا الوجودية.
"صَبَا" هي كلمة تتجاوز مجرد التسمية، فهي تعني الغطس والتعميد بالماء الجاري. هنا تبدأ فلسفتهم.
إن العبادة ليست مجرد فعل يُؤدّى، بل هي انغماس كامل، وتطهير مستمر للروح، التي تتعرض لتراكمات من ضجيج العالم وخطاياه. هم قوم لا يؤمنون بالانعزال، بل بالعيش المتناغم مع الطبيعة، محاطين بالأنهار التي أصبحت بالنسبة لهم شرايين الحياة، المتصلة بالحي العظيم، الاسم الأسمى للخالق، الذي لا يحده وصف، ولا تدركه الأبصار.
إنهم يعلّموننا أن التوحيد الحقيقي يكمن في البياض: بياض ثيابهم وبياض قلوبهم، وأن الإيمان هو في الأساس سلام وتناغم. ولكي نفهم العارفين، علينا أن نغوص معهم في معنى الماء.
إنه ليس مجرد عنصر من عناصر الطبيعة فقط، بل هو الرمز الأقدم للحياة الجارية التي لا تتوقف. وأكبر دليل على ذلك حين ننظر إلى أجسادنا، نرى أن ٧١٪ من جسدنا هو ماء. في طقسهم الجوهري (التعميد)، لا يكتفون بالرش، بل بالانغماس الكلي في الماء الجاري، الحي، النهر الذي يلمسه السكون. وفي هذا الفعل رسالة عميقة لنا جميعًا: أن التطهير الروحي يجب أن يكون جذريًا ومستمرًا، مثل جريان النهر الذي لا يرجع إلى الوراء.
في لحظة الغوص، يخلعون أثقال الزمن، ويواجهون أنفسهم العارية، في اتصال مباشر مع النور، الذي يمثل الحي العظيم. المندائي لا يرى في الماء مجرد وسيلة، بل مرآة للروح. الماء الجاري هو استعارة فلسفية لحركة الكون ونظامه السيمفوني، وهو نظام لا يعترف بالركود أو الجمود، بل يجدد نفسه باستمرار.
هذا الطقس هو دعوة للعودة إلى الفطرة، والاعتراف بأن الانفصال عن النور الكوني هو أصل التنافر والصراع الذي نعيشه. يصبح المندائي، في بياضه الناصع وهو يخرج من الماء، تجسيدًا حيًا للسلام الداخلي، الذي يتصل بالسلام الكوني.
إن أعظم درس يقدمه لنا المندائيون هو في مفهومهم للتوحيد، الذي يتجاوز الأسماء والأشكال. ففي صمت طقوسهم وبياض ثيابهم، يكمن الإيمان بالحي العظيم، الذي يتسم بالقداسة إلى درجة أنه لا يوصف ولا يُقيَّد. وهذا الاختيار للتوحيد، في عمق الإدراك الداخلي، بعيدًا عن صخب الجدال العام، هو ما يجعله توحيدًا لا يمسه الضجيج.
في زمن تزداد فيه المسميات والتصنيفات، حيث يتحول الإيمان إلى راية للصراع والانقسام، فإن الإله هو الحي العظيم، فهو بالتأكيد يشمل كل ما ينبض بالحياة، بما في ذلك قلوبنا المتعبة وأنهارنا الجارية.
هذا المفهوم يخدم هدفنا في التوحيد على المستوى الإنساني: أننا جميعًا نتحرك وفقًا لإرادة هذا الكيان الأسمى، وأن اختلافاتنا الظاهرة هي مجرد نوتات على مقام واحد، تظل متناغمة إذا أدركنا أن مصدرها واحد.
يكمن السلام الحقيقي في معرفة النفس العميقة، التي هي انعكاس للنور الإلهي، وتقود إلى القبول المطلق للآخر. عندما أرى في الآخر جزءًا من سيمفونية الخلق التي أؤمن بها، ينتهي الصراع. التوحيد ليس إنكارًا للتعدد، بل هو إدراك لوحدة المصدر في هذا التعدد.
في نهاية هذه الرحلة القصيرة إلى عوالم الصابئة المندائيين، يتبقى السؤال معلقًا فوق مياه الأنهار الجارية: ماذا تعلمنا من هذه القصة؟
أظن أنهم يعلّموننا أن السلام ليس مجرد غياب للحرب، بل هو حالة اتصال داخلي عميق، هو أن نجد في أنفسنا نفس النور الذي يبحثون عنه في المياه. هذه الأنهار ليست مجرد حدود جغرافية، بل هي رمز لتاريخنا الروحي المشترك، مياهها لا تفرّق بين مؤمن وعارف.