شريانان يضخان الحياة في تنظيم جماعة الإخوان المسلمين (الإرهابية) ويضمنان لها الاستمرار،؛ الأوّل التجنيد، والثاني التمويل، وبدونهما تنتهي الجماعة وتندثر، لذا تحرص الجماعة على أن تتولى الملفين قيادةٌ بعينها من صفوة التنظيم، والمسموح لها الاطلاع على صندوق أسرار الجماعة. ولأنّ ملف التمويل تنكره الجماعة علناً وسرّاً، لذا يكتنفه الغموض حتى على الكثير من القيادات العليا في التنظيم، لارتباطه بشبكات التمويل العالمية وغسيل الأموال، وهو أمر مشين لجماعة تدّعي أنّها إسلامية.
أمّا ملف التجنيد، فهو معلن وواضح ومدوَّن في أدبيات الإخوان، بل ربما هو الهدف الرئيسي للجماعة ذاتها، والجانب السرّي فيه ليس عميقاً؛ وحدوده ألّا يعرف أسماء المنضمين الجدد إلا بعض المختصين، فبدون التجنيد يتوقف ضخ الدماء الجديدة والشباب الذي يتحرك منبهراً بالفكرة المخادعة، وبدون الشباب والدماء الجديدة لن يتم ترميم خسائر التنظيم بعد توقف العديد من عناصر الجماعة الإرهابية عن الاستمرار في التنظيم. ولأهمية عملية التجنيد في تنظيم جماعة الإخوان، فإنّه يلقى رعاية خاصة، وتتمّ متابعة عناصر الجماعة بشأن تفعيل عملية التجنيد وعدم التراخي فيها، وفي بعض الأوقات تتمّ محاسبة المقصرّين في ضم أعداد جدد للتنظيم، وتتسمّى عملية التجنيد في التنظيم بمسمّيات مختلفة، مثل: الدعوة إلى الله، والدعوة الفردية، ونشر الدعوة.
شكل التجنيد عبر تاريخ الجماعة
التجنيد للجماعة أخذ أشكالاً مختلفة باختلاف المرحلة التي تمرّ بها الجماعة، وإن ظل أسلوب حسن البنا هو الغالب على أساليب التجنيد، فأوّل خلية تم تجنيدها عبر (4) مراحل: "عمل عام يبدو دعوياً/ ربط المطلوب تجنيدهم بشخص مجنّدهم/ عزلهم عن البيئة المحيطة بهم/ السرّية في تلقي التعاليم والتربية". ولنجاح مهمته الأولى في تكوين أول خلية إخوانية اختار حسن البنا مجموعة من العمال والبسطاء من الإسماعيلية، ليضمن انبهارهم به، ولم يبدأ بزملائه في المدرسة من المعلمين، ولم ينشر فكرته في أوساط المتعلمين أو المتديين أو الشيوخ الرسميين، بل بدأ بمجموعة من العمال المهمَّشين.
بدأ البنا في تنفيذ المرحلة الأولى، فقام بارتياد المساجد التي يتواجد فيها هؤلاء العمال ليحكي لهم حكايات من التاريخ كنشاط بدا أنّه عفوي دعوي، ثم انتقل البنا إلى المرحلة الثانية، وهي ربطهم به شخصياً، فكان بالنسبة إليهم "الأفندي المتدين"، والأستاذ الذي يجيب عن أسئلتهم، ثم انتقل إلى المرحلة الثالثة وهي عزلهم عن بيئتهم الطبيعية، فأقنعهم بأن يتعلموا الدين الصحيح في مُصلّى بعيد عن الأعين، ليتحدث معهم دون أن يخشى مقاطعة المتعلمين له إذا أخطأ الاستدلال أو أفتى بدون علم، ثم الخطوة الأخيرة، وهي السرّية، رغم علنية الجمعية، فقد ظلت أمور سرّية تؤرق المنتمين إلى الجمعية لا يعلمونها، وظلت تطارد حسن البنا في الإسماعيلية، وقد كتب هذا في مذكراته (مذكرات الدعوة والداعية)، ومنذ لحظة اختيار المؤسس فإنّ الضم إلى الجماعة (التجنيد)، ارتبط بالشخص لا بفكرة التربية، بعيداً عن المجتمع، والجماعة لا تتخلى عن هذين الركنين على الإطلاق.
تطورت الجمعية، ولجأ المؤسس للخطب والمجلات والنشرات، تحت مُسمّى (الدعوة العامة)، لجذب المنبهرين بخطابهم وإحيائهم للاحتفالات الدينية، ثم تبدأ بعدها (الدعوة الخاصة)، أي اختيار المتدينين لعضوية الجمعية، ومنها يتم اختيار من يصلح للتنظيمات الإخوانية السرّية. ومثلت المدارس الأهلية الإلزامية والمدارس الليلية التابعة للجماعة أحد أهم مصادر التنظيم للتجنيد، حيث ينفرد المعلمون الإخوان بالطلاب، ويدفعونهم للانضمام إلى الجماعة.
ظلت هذه الطريقة معتمدة حتى أواخر الخمسينات، إلى أن وقع الصدام بين الجماعة وتنظيماتها السرّية المسلحة مع مجلس قيادة الثورة، وانتهت بوقف أنشطة الجماعة المعلنة، وكان التجنيد يتم على استحياء عبر ثنائية (الارتباط الشخصي/ والسرّية)، ثم اكتُشف تنظيم 1965، ومن خططه موجة من الاغتيالات وحرق مؤسسات الدولة وإغراق الدلتا بنسف القناطر الخيرية، كما جاء في اعترافات سيد قطب في كتابه لماذا أعدموني، فتوقف الإخوان وتوقف التجنيد، وتهدم الهيكل التنظيمي بخروج العديد من الشخصيات الإخوانية البارزة في تلك الفترة.
التجنيد للجماعة أخذ أشكالاً مختلفة باختلاف المرحلة التي تمرّ بها الجماعة، وإن ظل أسلوب حسن البنا هو الغالب على أساليب التجنيد
ثم أُفرِج عن الإخوان في مطلع السبعينات، ووجدوا مناخاً إسلامياً عامّاً يدعو إلى الهدي الظاهر، أي إطلاق اللحية وتقصير الجلباب أو البنطال للرجال، وإلزام الفتيات والنساء بالنقاب أو الخمار، وقرروا السطو على التيار العام الناشئ غير المؤطر في تنظيم، والمنتشر في القرى والجامعات، فصعد خطباء الإخوان ليكونوا رموزه، وتداول الشباب خطبهم على شرائط الكاسيت، وانتشرت مجلاتهم الإسلامية، ثم بدأ قادة الإخوان في تجنيد العديد من رموز التيار الديني الصاعد للجماعة، وقدّموا البيعة للمرشد العام، كما يحكي عبد المنعم أبو الفتوح عن تجربته في كتاب شاهد على تاريخ الحركة الإسلامية لحسام تمام.
وبعد مقتل الرئيس المصري السابق محمد أنور السادات توقفت الجماعة عن ممارسة العمل العام بعض الوقت، لكنّها كانت في الوقت نفسه تجني حصاد السبعينات، وفي هذا الإطار وضعت الجماعة تقنيناً لعملية التجنيد، لتحصد ثمار التيار العام، بهدف ضمان استمرار تتابع الأجيال في التنظيم، ولضمان توريث فكر الجماعة جيلاً بعد جيل. وفي منتصف الثمانينات تمّت كتابة منفيستو التجنيد الإخواني في كُتيب من تأليف مصطفى مشهور القيادي القوي والنافذ في التنظيم وقتها ثم المرشد الرابع بعد ذلك.
منفيستو الدعوة الفردية
عندما كتب مشهور كُتيبه الشهير (الدعوة إلى الله)، والمعروف (بالدعوة الفردية)، قسّم التجنيد للإخوان إلى (7) مراحل؛ الأولى: الاختيار والتعارف، في هذه المرحلة يخلق العنصر الإخواني صلة ليتعارف مع الشخص المراد تجنيده أو كما يطلق عليه مشهور "المدعو"، ويُشعره بأنّه مهتم به، ويتم ذلك من خلال تفقده ما بين الحين والآخر، والسؤال عنه إذا غاب، وزيارته إذا مَرِض حتى يرتبط به، والمراد تجنيده عاطفياً، ونلاحظ أنّ هذه المرحلة تركّز على ارتباط الفرد بشخص العنصر الإخواني لا بالفكرة، وهو ارتباط مزيف ومحبة مغشوشة.
ثم الانتقال إلى المرحلة الثانية، والتي سمّاها "إيقاظ الإيمان المخدر"، وهي حوار مفتعل حول قدرة الله في خلق الأشياء سواء النباتات أو الجبال أو النجوم... إلخ، وكثيراً ما تخرج الكلمات فارغة من مضمونها، ولكن العاطفة تخفي هذا العوار، فإذا اقتنع الإخواني أنّه أتم هذه المرحلة، انتقل به إلى المرحلة الثالثة، وهي طاعة الله والتحلي بالأخلاق الإسلامية، فحتى لو كان "المدعو" ملتزماً ومتعبداً لله، فإنّ على العنصر الإخواني البدء في توجيهه نحو تحسين عبادته، ليمارس عليه أستاذية، كما مارسها "البنا" من قبل، هذه الممارسة الفوقية هي التي تضمن أنّ العنصر الجديد لديه القابلية لتلقي التوجيهات، سواء في العبادة أو في السلوك أو المظهر، وبهذا يكون جاهزاً للمراحل التنظيمية التالية.
ملف التجنيد معلن وواضح ومدوَّن في أدبيات الإخوان، بل ربما هو الهدف الرئيسي للجماعة ذاتها، والجانب السرّي فيه ليس عميقاً
ثم الانتقال إلى المرحلة الرابعة، وهي الحديث عن شمولية الإسلام، وأنّ هناك فهماً صحيحاً للإسلام، وأنّ هناك فهماً خاطئاً، وهنا تبدأ أول مظاهر تغيير الفكر لدى "المدعو"، والعبث في بديهيات معروفة عرفاً، ولغرض لا يخدم الإسلام من قريب أو بعيد، فيحدثه أنّ الإسلام (الدين) لا بدّ أن يشمل العمل السياسي كمنحى من مناحي الحياة وهو الفهم الصحيح، ويقنعه أنّه قد تم اختزال الإسلام في العبادات والعقائد والمعاملات، وهذا هو الفهم الخاطئ.
عند هذه المرحلة يبدأ الدخول في صلب التجنيد، فبعد أن يتأكد أنّه يتلقى التوجيهات بدون غضاضة، ويقبل فكرة أنّ العبادات والمعاملات والعقائد فقط هي فهم خاطئ، هنا يقفز معه إلى المرحلة الخامسة والحديث عن واقع المسلمين وهزيمتهم العسكرية والفكرية، وأنّ السبب هو الابتعاد عن الدين الصحيح، وأنّ عليهم بعد أن عرفوا الدين الصحيح أن يعملوا للإسلام بإقامة الدولة الإسلامية، وهذه المرحلة من أخطر المراحل، لأنّ العنصر الإخواني قد استطاع أن يقنع المجند أنّ الدين الصحيح غير موجود، وأنّ عليهم بدلاً من العمل بالإسلام، العمل للإسلام، وشتّان بين العمل بالإسلام أي تنفيذ الأوامر الإلهية للنجاة يوم الحساب، وبين العمل للإسلام كسلطة فوق بشرية منزهة ترى أنّ الإسلام (الدين) في حاجة إليهم ليقوم، وربما هذه الجزئية تكشف لماذا يمارس عناصر الإخوان الفوقية والاستعلاء على جميع المسلمين.
أمّا ضرورة إقامة الدولة الإسلامية، فهي تنفي الإسلام عن كل الدول المسلمة، فضلاً عن ترسيخ أنّ الجميع مقصر لأنّه لم يُقم تلك الدولة الإسلامية المتخيلة. ثم يبدأ العنصر الإخواني في الانتقال بالمدعو إلى المرحلة السادسة، التي تتلخص في إقناعه بوجوب العمل للإسلام جماعياً، ورفض العمل الفردي باعتباره سلوكاً غير إسلامي. ثم ينتقل إلى المرحلة السابعة والأخيرة، وهي اختيار الجماعة التي يجب أن ينضم إليها، وهي الجماعة التي لها تاريخ في العمل الإسلامي، وتمتلك الفهم الصحيح، وتجاهد منذ سنوات في سبيل ذلك، وبالطبع لن تكون سوى جماعة الإخوان المسلمين. وفي كل المراحل يتم تسريب الفكرة للشخص المراد تجنيده، وتجهيزه أكثر للقابلية لتلقي الأوامر وتنفيذها في سبيل الله.
ولأنّ هذه الخطوات هي في الحقيقة خديعة كبرى، لم يستكمل الطريق معهم الكثيرون، واكتفوا بالمرحلة الأولى التي يقدّم فيها العنصر الإخواني خدماته تحت مزاعم الحب في الله، حتى إذا توقف المدعو معترضاً على تلقي التعليمات والأوامر، هنا يظهر الوجه الإخواني الحقيقي وينصرف عنه وكأنّه لا يعرفه، وكأنّه لم تكن بينهم أخوة، وهذا صحيح، فكل المشاعر غير حقيقية، وكل الخدمات ليست لوجه الله، بل من أجل التجنيد فقط.
وربما في مقال قادم نتحدث عن التجنيد الرقمي واستخدام الذكاء الاصطناعي.
... نقلاً عن موقع حفريات
فضاءات الفكر
فضاءات الفكر
فضاءات الفكر