بث تجريبي

بين الأممية والقومية :حزب العمال الكردستاني وتشكّل الهوية الكرديّة الحديثة

لطالما طُرح سؤال الهوية القومية في تجربة حزب العمال الكردستاني (PKK) باعتباره حزباً يجمع بين الأيديولوجيا اليسارية الجذرية والانتماء الكردي الصريح، وقد أثار هذا التداخل تساؤلات حول ما إذا كان الحزب يُصنّف ضمن التيارات القومية الكردية، أم أنه يقف خارج هذا الإطار بفعل تبنّيه مفاهيم أممية تتجاوز الدولة القومية. هذا المقال يحاول مقاربة هذه الإشكالية من خلال قراءة ممارسات الحزب، رموزه، خطابه وتحولاته الفكرية، لا سيما في ظل دوره المتزايد في تشكيل ملامح الهوية الكردية المعاصرة.

اللغة كركيزة للهوية

منذ نشأته، أولى الحزب اهتماماً كبيراً باللغة الكردية، ليس فقط بوصفها أداة تواصل، بل كركيزة أساسية من ركائز الهوية القومية. فقد اعتمد الكردية في كافة أدبياته، وتصريحات قادته، ووسائل إعلامه، وساهم بشكل فعلي في نشرها من خلال المدارس والدورات التي أنشأها في المناطق التي كان له نفوذ فيها، سواء في تركيا أو لاحقاً في شمال وشرق سوريا، ولم يقتصر هذا الجهد على المجتمعات الكردية فحسب، بل وصل إلى أفراد أجانب انخرطوا في صفوف الحزب، فتعلّموا الكردية وأحبوها، ما يعكس دور الحزب في ترسيخ اللغة كحاضنة للانتماء.

الثقافة والرموز: عيد نوروز وزيّ المقاومة

وظّف حزب العمال الكردستاني الرموز الثقافية الكردية توظيفاً سياسياً مقاوِماً، فإحياء عيد نوروز – العيد القومي الكردي – كان فعلاً سياسياً قبل أن يكون تقليداً ثقافياً. كما اعتمد الحزب الزيّ الفلكلوري الكردي في صفوف مقاتليه، من سروال فضفاض وحزام وشال وسترة إلى المنديل المطرز بألوان الأخضر والأحمر والأصفر، ليجعل من المظهر اليومي للمقاتل الكردي فعل تأكيد على الهوية. هذا عدا الخزينة الهائلة من الأغاني الثورية الكردية والتي رافقها آلات موسيقية تُعرف بنسبها للكرد مثل آلتي “الطنبور والدف”.

التحول الفكري: من القومية إلى الأمة الديمقراطية

شهد الحزب تحوّلاً أيديولوجياً منذ اعتقال القائد عبد الله أوجلان عاك 1999، فبدلاً من المطالبة بدولة قومية كردية مستقلة، تبنّى مشروع “الأمة الديمقراطية”  الذي يدعو إلى تنظيم المجتمعات وفق مبادئ لا مركزية، بيئية، تشاركية، ومتعددة الثقافات . ورغم أن هذا التحول قد يُفهم بوصفه تجاوزاً للقومية، فإن المشروع لم يتخلَّ عن الطابع القومي الكردي، بل أعاد تأطيره ضمن تصور حديث للهوية، يسعى لحماية الوجود الكردي داخل كيانات سياسية لا تُقصيه أو تُنكِره.

التجربة السوريّة: الثقافة الكردية من الظل إلى العلن

لعبت شعوب شمال وشرق سوريا دوراً بارزاً في إحياء الثقافة الكردية بعد عقود من القمع البعثي، حيث تبنت فلسفة الأمة الديمقراطية للقائد عبد الله أوجلان؛ فأنشأت مؤسسات تعليمية، إعلامية، وثقافية تعتمد الكردية لغة رسمية إلى جانب العربية والسريانية لغتين رسميتين، وأعادت تشكيل المشهد الثقافي والاجتماعي الكردي على أسس جديدة، تجمع بين التعددية والخصوصية القومية.

تحرر المرأة كجزءٍ من الهوية القومية

تميّز الحزب بتقديمه قضية تحرر المرأة ليس فقط كعنصر من عناصر العدالة الاجتماعية، بل كجزء جوهري من بناء الهوية الكردية الجديدة. فالوحدات النسائية المقاتلة “وحدات حماية المرأة (YPJ)” أصبحت رمزاً عالمياً للمقاومة، وأسهمت في تعزيز صورة المرأة الكردية كمشاركة نشطة في النضال القومي والسياسي، لا كمجرد تابع. في خطوةٍ تاريخية، أعلن حزب العمال الكردستاني في 12 أيار 2025، خلال مؤتمره الثاني عشر، عن إنهاء مرحلة الكفاح المسلح الذي استمر لأكثر من أربعة عقود.

هذا التحول يفتح الباب أمام مرحلة جديدة في النضال الكردي، حيث تركيز الجهود على تعزيز العمل السياسي السلمي، والحفاظ على الهوية الثقافية واللغوية الكردية ضمن إطار الدولة التركية. كما قد يشهد المستقبل القريب مبادرات لإعادة دمج المقاتلين السابقين في المجتمع، وتعزيز الحوار بين الحكومة التركية والممثلين السياسيين للكُرد.

رغم التحديات المحتملة، فإن هذه الخطوة تُعد فرصة تاريخية لإعادة صياغة العلاقة بين الدولة التركية والمجتمع الكردي على أسس من الاحترام المتبادل والاعتراف بالحقوق الثقافية والسياسية، ما قد يسهم في تحقيق سلام مستدام في المنطقة.

فهل يُصنّف PKK كحزب قومي؟

رغم انطلاقه من خلفية ماركسية أممية، ورغم تحوله المفاهيمي إلى مشروع “الأمة الديمقراطية”، فإن حزب العمال الكردستاني يُظهر – في خطابه وممارساته – التزاماً عميقاً بالقضية الكردية، وبالهوية القومية الكردية. اللغة، الثقافة، الرموز، التاريخ، النضال، وتكريس الشخصية الكردية في وجه الإنكار، كلها تجعل من الحزب أحد أبرز الفاعلين في تشكيل القومية الكردية الحديثة، وإن جاء ذلك من بوابة مختلفة عن القوميات الكلاسيكية.

... نقلاً عن صحيفة روناهي

قد يهمك