لم يعد الإعلام اليوم مجرد ناقل للأخبار أو وسيلة للتسلية، بل أصبح لاعبًا رئيسيًا في تشكيل وعي الناس وتوجيه تصوراتهم عن العالم من حولهم. إذ يملك القدرة على منح القضايا حضورًا في العقل الجمعي أو إلغائها، وصياغة “الحقيقة المشتركة” التي يتبناها المجتمع، ما يجعل دوره في العصر الرقمي أكثر تعقيدًا ومسؤولية من أي وقت مضى.
الإعلام حين يسلّط الضوء على قضية، يمنحها حضورًا في العقل الجمعي؛ وحين يتجاهل أخرى، يكاد يُلغيها من خريطة إدراك الناس. هكذا تشكلت أولوياتنا: من السياسة إلى الاقتصاد، ومن قضايا الهوية إلى أنماط الاستهلاك. حتى مواقفنا من الأزمات والكوارث والحروب غالبًا ما تتلون بالزاوية التي يقدمها الإعلام لنا.
ولعل أخطر ما يقوم به الإعلام هو قدرته على صياغة “الحقيقة المشتركة” التي يتبناها المجتمع. ما يراه الناس طبيعيًا، وما يعتبرونه غير مقبول، وما يتطلعون إليه كمستقبل أفضل، كلها أمور تُبنى بدرجة كبيرة عبر الرسائل الإعلامية المتكررة. ولهذا يصبح الإعلام أحيانًا أداة للتنوير، حين يوسع آفاق التفكير ويفتح مساحات للنقاش، وأحيانًا أخرى أداة للهيمنة والتضليل، حين يتحول إلى بوق لمصالح ضيقة أو أداة لبث الخوف والانقسام.
في عصر المنصات الرقمية، تعقد المشهد أكثر. فالجمهور لم يعد كتلة واحدة تتلقى الرسالة نفسها، بل تفتت إلى جزر صغيرة لكل منها محتواها المفضل وفق خوارزميات مصممة لتغذية الانحيازات. هذا التفتت قد يُضعف فكرة الوعي الجمعي ويجعلنا أمام وعيّات متعددة ومتنافرة، ما يفرض على الإعلام مسؤولية مضاعفة: كيف يعيد بناء الجسور بين هذه الجزر؟ وكيف يحافظ على المشترك الذي يوحد المجتمع؟
الإعلام الذي نحتاجه ليس ذلك الذي يلهث وراء الإثارة أو السبق، بل الذي يوازن بين حق الناس في المعرفة وبين مسؤوليته الأخلاقية في بناء وعي رشيد.إعلام يواجه الشائعات بدل أن يكرسها، ويفتح المجال لكل الأصوات بدل أن يحتكر الحقيقة، ويساعد الناس على أن يفكروا لا أن يستهلكوا فقط.
إن بناء الوعي الجمعي عملية معقدة، لكنه يظل حجر الأساس لأي مشروع نهضوي أو إصلاحي. وحين يكون الإعلام واعيًا بمسؤوليته، شجاعًا في طرح الأسئلة، ومخلصًا للصالح العام، فإنه لا يكتفي بنقل الواقع، بل يسهم في تغييره وصناعته.
ويبقى السؤال الجوهري: كيف يستطيع الإعلام أن يقوم بهذا الدور الجليل في بناء وعي جمعي مستنير وسط ضجيج المصالح وتفتت المنصات وتزاحم الخطابات؟
الإجابة تبدأ من العودة إلى القيم الجوهرية للمهنة: المصداقية، الاستقلالية، واحترام عقل الجمهور. ثم تأتي ضرورة تطوير المحتوى الإعلامي بما يجمع بين العمق والبساطة، وبين التثقيف والجاذبية، بحيث يخاطب الناس بلغتهم دون أن يفرط في المعايير المهنية. كما أن الاستثمار في التربية الإعلامية للجمهور صار أمرًا لا غنى عنه، حتى يكون المتلقي أكثر قدرة على التمييز بين الحقيقة والوهم، وبين المعرفة والدعاية.
وأخيرًا، لا بد أن يتحول الإعلام من ناقل للحدث إلى شريك في التنمية، يسهم في بناء الأمل وصياغة الأفق المشترك للمجتمع.
أ.د سوزان القليني
فضاءات الفكر
منبر الرأي
بين السطور