بث تجريبي

السياسة الديمقراطية... استراتيجية المرحلة

في أرضٍ تتلوى على خاصرتها الخرائط، وتنتحب في قلبها الأوطان، يبحث الناس عن أفقٍ لا تلطخه دماءُ الخيانات، ولا تلتهمه ذئابُ السلطويات.

في الشرق الأوسط، كل شيء مشتبك: الهويات مشتبكة، الجغرافيا مشتبكة، حتى الأحلام متشابهة في جراحها، ومختلفة في لغتها.

في قلب هذا الليل الطويل، ينبثق سؤال جوهري، يكاد يُحسّ وكأنه صرخة في صدر كل حرّ:

ما السبيل إلى الخروج من هذا المستنقع؟ كيف نعيد بناء مجتمعات تحمي نفسها وتستعيد كرامتها؟

هنا تشرق السياسة الديمقراطية، لا كنجمة خافتة في ليلٍ معتم، بل كبرقٍ يصدع السماء المثقلة بالصمت، فيعلن بداية عهد جديد.

إنها ليست مجرّد وصفة لإدارة الأزمات، ولا حيلة لإعادة تدوير الزعامات، بل هي محاولة جريئة لإعادة تعريف معنى السياسة، ومعنى المجتمع، ومعنى الإنسان ذاته.

السياسة الديمقراطية، في روحها العميقة، ليست مجرد شعار، ولا صندوق اقتراع يُستعمل موسميًّا.

إنها مشروع حياة يومية، تبدأ من جلسة دافئة تحت شجرة زيتون، من مجلس حارة، من اجتماع حول نبع ماء، من اجتماع العيون والقلوب قبل اجتماع الأصوات والأوراق.

إنها دعوة إلى أن يستعيد الإنسان صوته الذي صادرته البنادق، وقراره الذي اختطفته المساومات، وإرادته التي داستها الدبابات.

في زمن تحوّل فيه الإنسان إلى رقم، والوطن إلى خريطة على طاولة المفاوضات، تأتي السياسة الديمقراطية لتقول:

"عُد إلى نفسك، إلى مجتمعك، إلى إنسانك، واصنع حريتك بيديك."

إنها الحلم الوحيد القادر على تحويل الدم من لعنة إلى شجرة، ومن نهر دموع إلى جدول حياة، وهي الخيار الوحيد الذي يعيد للأرض دفئها، وللسماء اتساعها، وللإنسان كرامته.

 

 دولة القهر والاستبداد

منذ بدايات القرن العشرين، وقعت شعوب الشرق الأوسط في فخّ نموذج الدولة القومية الأحادية، الذي حمل في ظاهره وعد التحرر والسيادة، لكنه سرعان ما تحول إلى كابوس مركزي، جعل من القومية أو الدين سيفًا مسلطًا، ومن السيادة ستارًا يخفي وراءه أدوات القمع والتهميش.

تحت هذه الأنظمة، جرى اختزال الوطن في شخص زعيم "مخلّص"، أو حزب واحد، أو شعار أجوف يلوّح به في الساحات بينما تُكمم الأفواه في الأزقة.

هكذا صار "الوطن" عندهم مجرد صورة معلقة خلف مكاتب المسؤولين، أو خريطة ملونة في كتب المدارس، بينما تحوّل المواطن إلى رقم في قائمة الولاء، أو كبش فداء في لعبة التحالفات الخارجية.

السياسة، في هذه المنظومة، لم تكن يوماً أداة لبناء الإنسان، بل كانت ساحة لتكريس الامتيازات، ومضمارًا تتسابق فيه جماعات المصالح لنهب الموارد وتقاسم الغنائم.

صارت السياسة تجارة للريع، لا عقدًا اجتماعياً يُعيد توزيع الثروة والعدالة، وصار الانتماء إلى الطائفة أو القبيلة أو الهوية الضيقة درعًا من الخوف، ومهربًا من الإحساس باللاجدوى.

وهكذا، تحوّلت النزاعات من صراع سياسي على البرامج والأفكار إلى صراع دموي على الوجود ذاته، صراع يرسم خطوط الدم بين أبناء الحارة الواحدة، ويُقسم شوارع المدينة إلى "مناطق حمراء" و"مناطق خضراء".

تعمّق هذا المأزق بفعل التدخلات الخارجية، حيث وجدت القوى الكبرى في هذه الهشاشة بيئة مثالية للتلاعب والهندسة السياسية، فصار كل زعيم طائفي وكيلًا إقليميًّا، وكل ميليشيا مشروع دولة مُعلّقة.

في هذا المشهد الكارثي، تحوّلت الدولة من مظلة حامية إلى سوط يجلد ظهر المجتمع، من بيت جامع إلى معتقل واسع، من وطن إلى خندق دفاع عن سلطة لا ترى في المواطن إلا أداة إحصاء أو وقود حرب.

وهكذا، ضاعت الحدود بين الحاكم والمحكوم، بين السياسة والعنف، بين الوطن والسجن، لتولد في قلب كل فرد أزمة هوية وجودية: "لمن أنتمي؟ من أنا في وطن لا يراني إلا رقماً؟ وكيف أحيا حين يكون الولاء أرخص من الكرامة؟"

إن مأزق السياسة التقليدية في منطقتنا ليس أزمة مؤقتة، بل أزمة بنيوية عميقة، لا حلّ لها إلا بإعادة تعريف السياسة نفسها: أن تكون أداة حرية، لا أداة إخضاع؛ أن تكون وسيلة بناء، لا وسيلة إذلال؛ أن تعيد للإنسان حقه الأول: أن يكون شريكًا في صياغة مصيره، لا عبدًا في خدمة "الزعيم الأبدي".

 

 فلسفة إعادة الاعتبار للإنسان

في مواجهة هذا الليل الطويل من الاستبداد، ينهض مشروع السياسة الديمقراطية، لا كفكرة عابرة أو شعار عاطفي، بل كفلسفة وجود، تعيد الاعتبار للإنسان، وتعيده من حالة "الرعية" إلى مقام "المواطن الفاعل".

إنها فلسفة تنطلق من فكرة بسيطة عميقة: المجتمع ليس كائنًا هلاميًا تديره سلطة فوقية، بل كائن حيّ، يتنفس، ويفكر، ويحمي ذاته بذاته.

عند عبد الله أوجلان ومفكري الأمة الديمقراطية، السياسة الحقيقية لا تبدأ من مكاتب الوزارات، ولا من دهاليز القصور الرئاسية، ولا من أوراق الانتخابات التي تُساق فيها الجماهير كالقطيع، بل تبدأ من الحارة، من الساحة، من المجلس المحلي، من كومين القرية، من لقاء البشر وهم يتناقشون حول توزيع الماء، حماية المدرسة، الدفاع عن الحقول، وتأمين الخبز والكرامة.

السياسة الديمقراطية هي عودة السياسة إلى معناها الجوهري: تدبير شؤون الناس بأنفسهم ولأنفسهم.

هي ممارسة يومية، وليست موعدًا انتخابيًّا كل أربع سنوات.

هي فنُّ العيش المشترك، لا فنّ احتكار القرار.

هي تحويل السلطة من أداة تحكّم إلى وسيلة خدمة، من عصا في يد الحاكم إلى جسور في يد المجتمع.

السياسة الديمقراطية ترفض ذلك "الصندوق المقدس" الذي اختُزلت فيه الديمقراطية الحديثة، حيث يُختزل مصير الملايين في لحظة تصويت غالبًا ما تكون مُخترقة بالمال السياسي، والدعاية الفارغة، وأجهزة المخابرات.

هي تُعيد السيادة إلى أصلها: سيادة المجتمع، لا سيادة الدولة المتعالية.

هي تردّ السياسة إلى الناس، وتنتزعها من تجار الشعارات، وتعيدها إلى الأرض والحقول والمدارس والبيوت.

إنها تجسيد عملي لمقولة:

""السيادة للمجتمع، والسلطة أداة خدمة، وليست أداة سيطرة.

وهي، في جوهرها، استعادة للكرامة المفقودة، وتحويل المواطن من ضحية أبدية إلى صانع للمصير، وكاتب للتاريخ، ومالك حقيقي للأرض التي يمشي عليها والسماء التي يتنفسها.

وهكذا، تتحول السياسة من مسرح للدم، إلى ميدان للحياة؛ من ساحة صراعات على الغنائم، إلى حقل تُزرع فيه قيم التعاون، والمشاركة، والحرية المسؤولة.

إنها السياسة التي، إذا تحققت، تحرر الناس من الخوف، وتعيد إليهم قدرتهم على الحلم، وتفتح لهم باب الشراكة في بناء حاضرهم ومستقبلهم.

 

لماذا هي استراتيجية هذه المرحلة؟

لأننا في زمن يُعاد فيه رسم الخرائط بدماء الأبرياء، وتُكتب فيه الاتفاقات على جثث المدن، وتُصاغ فيه المصائر في غرف مغلقة على وقع مصالح القوى الكبرى.

زمن تحوّلت فيه الهويات من جسور تواصل إلى خنادق مواجهة، وصار الاختلاف لعنةً يُستعمل لتفكيك المجتمعات وتحويلها إلى فسيفساء هشة تنتظر أول رياح عاصفة.

في هذا المشهد المأزوم، تصبح السياسة الديمقراطية ليست ترفًا فكريًّا، ولا حلاً ترقيعيًّا مؤقتًا، بل استراتيجية وجودية، أشبه بمصل الحياة الذي يُحقن في جسد الأمة قبل لحظة الموت.

إنها السياسة الوحيدة التي تمنح المجتمعات القدرة على الصمود، لأنها تعيد لها حقها في القرار، وتُخرجها من حالة الاستسلام إلى حالة الفعل، وتحوّلها من كائنات مستهلكة إلى كيانات مُبدعة وقادرة على حماية ذاتها.

تجربة شمال وشرق سوريا مثال صارخ على إمكانية تحويل الحلم إلى ممارسة.

في قلب الفوضى السورية، وعلى أنقاض دولة انهارت تحت ثقل الاستبداد والتدخلات، تشكّلت فسيفساء جديدة، جمعت الكرد، والعرب، والسريان، والآشوريين، والشركس، والأرمن، في لوحة من التنوع والتعايش الفعلي، لا الخطابي.

هذه المجتمعات، المنهكة أصلًا بالحروب والمجازر، قررت أن تبني نموذج إدارة ذاتية، قاعدته المجالس الشعبية والكومينات والعقود الاجتماعية، وأداته المشاركة الفعلية، لا الولاء الأعمى ولا الخوف.

ورغم كل محاولات الإجهاض والحصار العسكري والسياسي، ظل هذا النموذج يثبت أن المجتمع المنظّم يكتسب مناعة جماعية ضد الفوضى والتدخل الخارجي، مثلما يكتسب الجسد المناعة بعد مواجهة المرض.

إن السياسة الديمقراطية، في لحظتنا الراهنة، هي وحدها القادرة على مواجهة مشاريع الهيمنة، سواء كانت من الداخل أو الخارج.

هي السياسة الوحيدة القادرة على تحصين المجتمعات ضد عمليات التذويب والاقتلاع، لأنها تجعل كل مكوّن شريكًا حقيقيًّا، لا مجرّد ديكور في مشهد سلطوي مزيّف.

في زمن التحالفات الهشة، والمعاهدات التي تُوقّع على حساب الشعوب، تخرج السياسة الديمقراطية كاستراتيجية تبني عقدًا اجتماعيًّا جديدًا، عقدًا لا يبيع الإنسان ولا يساوم على الأرض، عقدًا يضع الإنسان في مركز الخريطة، ويُعيد للهويات دورها الطبيعي كجسور لا متاريس.

هي استراتيجية هذه المرحلة، لا لأنها بديل مثالي، بل لأنها الخيار الوحيد الذي يبقي على ما تبقى من نبض في جسد هذه المنطقة، ويزرع بذور مستقبل قد يأتي متأخرًا، لكنه سيكون أكثر صدقًا وإنسانية.

 

درع ضد التفكك

حين يُصبح المجتمع شريكًا في القرار، وتُزال الحواجز بين الحاكم والمحكوم، تتراجع الحاجة للعنف، ويضمحل الخوف، ويُستعاد الإحساس بالمصير المشترك.

إنها فلسفة تزرع الثقة بدلاً من الخوف، والأمل بدلاً من اليأس، والكرامة بدلاً من التبعية.

السياسة الديمقراطية، في جوهرها، هي إعادة اكتشاف الذات الجمعية، هي دعوة إلى تحرير المخيلة السياسية، وكسر قوالب الطاعة والخنوع.

هي تربية على الحرية، وتأسيس لجغرافيا جديدة داخل الوعي، قبل الجغرافيا على الأرض.

 

التحديات والمعوّقات

لا ريب أن الطريق شائك؛ الأنظمة السلطوية ترفض التخلي عن امتيازاتها، والنخب القديمة تُشيطن هذا النموذج، وتتهمه بالفوضوية أو الانفصالية، لأنهم يعرفون أن السياسة الديمقراطية تقتل امتيازاتهم.

إضافة إلى ذلك، هناك إرث طويل من الذهنية الأبوية، والخوف العميق من المبادرة المجتمعية، نتيجة عقود من القمع والتخويف.

التحدي الأكبر هو كسر هذا الخوف، وتحويل المجتمع من كتلة مُطيعة إلى كيان مبادر، فاعل، وشريك حقيقي.

 

 وصية الدم وأفق النجاة

في زمنٍ تحوّلت فيه السياسة إلى سوق نخاسة للضمائر، وصارت فيه الأوطان رهائن في حقائب التفاوض، تخرج السياسة الديمقراطية كصرخة وجود، كوصية دم، كجسر ممتد بين رماد اليوم وأفق الغد.

إنها ليست مجرد نظرية معلّبة في كتب المفكرين، ولا مخططًا هندسيًّا محفوظًا في أدراج النخب، بل هي صوت الحياة في قلب الموت، وصوت الحرية في زمن الأقفاص المغلقة.

السياسة الديمقراطية، بمفهومها الأصيل، مشروع خلاص جماعي، يُعيد للإنسان مكانته الأولى، لا كرقم في تعداد سكاني، ولا كوقود في حروب زعماء، بل ككائن حرّ، يفكر، يقرر، ويصنع مصيره.

هي المخرج من دائرة الدم إلى دوائر الحياة، من متاهات القهر إلى ميادين الكرامة، من خنادق الانقسامات إلى ساحات التلاقي والمشاركة.

إنها وعدٌ، بأن الدم ليس قدرًا أبديًّا، بل يمكن تحويله إلى شجرة زيتون، إلى بيت دافئ، إلى مدرسة يعلو فيها صوت طفل يكتب اسم وطنه بحبر الأمل لا بدم الخوف.

وهي وصية، بأن الكرامة لا تولد في غرف المؤتمرات الفارهة، ولا في المساومات المعقودة خلف الأبواب، بل تُولد في زقاق، في مجلس حي، في قلب كل إنسان ينهض ليقول: "أنا هنا، أريد أن أقرر، وأحيا، وأحمي، وأحلم."

السياسة الديمقراطية، بهذا المعنى، ليست مجرد استراتيجية للمرحلة، بل هي أفق مفتوح لكل المراحل، لكل الأزمنة، هي بوابة عبور الشعوب من ليل الاستبداد الطويل إلى شمس الحرية التي تستحقها، مهما تأخر طلوعها.

-------

نقلاً عن مجلة الأمة الديمقراطية

 

قد يهمك